04‏/06‏/2012

القصيدة الخراب




1
خلف منزل باولو كويلهو جلست وحكيت
للقطط الضالة والفئران صاحبة الأرض
للبومة أعلى الشجرة
والمقعد المحاط بالحشائش.
أحكي..
والشوارع لا تنصت إليّ
تستدرج ظلي، ولا تحمي قلبي من الفراغ
أعرف هذا الإحساس..
أعرف الكلام الكثير الذي يشبه الشعر
أعرف القلب الذي سيسقط بعد قليل في المصيدة
مخلفا فجوة يغني فيها الخونة
للخراب
2
حبيبتي تشبه ميدوسا
أكتب الشعر في عينيها
وأنزع بخنجري فراشة
فوق قلبها تعبت من الحر
أمشط ثعابين رأسها بأصابعي
أنهر الدبابات
التي لا تكف عن قصفنا بعطر خفيف
يربك حبنا الصغير

3
هل ماتت؟
هل مت؟
هل مات موسوليني
فحطت الطائرات على الأرض الخراب
هل هبطت المصاعد كي تصعد هي
الموت يجلس فوق رأسي
غير آبهٍ لانتهاء أجله
يدي تفتش عن الخراب
فتفزعها الخفافيش
أخرج من باب القصيدة الخلفي
إلى الفراغ
إلى الخراب
الخراب الذي يلثم روحي..
الخراب.. الخراب

4
أخاف منكم
عيونكم يسرح منها النمل إلى يدي
تنزع أظافري
تقتلعني مع الحشائش
أصعد السلم فأجدني في الشارع
أشق الطريق وأسير في السماء
الخراب يطوق روحي
يضغط على أصابعي فأهبط إلى الأرض
خضراء كالخراب
سوداء كالذكرى
لا شيء هنا سواي
أتقيأ الخراب.. الخراب

5
ماذا يفعل إخوتي الآن في الحرب
يدٌ على الزناد
وأخرى على عنقي
الشعر ينزل من عيني كالدموع
آخر قصيدة لي كانت تشبه القبر
تمتلئ بالموتي
بالخراب
الخراب.. الخراب
6
الثورة توخزني
فيتقاطر دمي على الرصيف
ينبت معاقين وعاهات
جعلتها خاتما على قلبي
فطعنتني وأدمت البنكرياس
تركتني كالأرض الخراب
الثورة كانت تجلس هنا
منذ قليل على هذا المقهى
فتركتها وانصرفت
لألحق ميعاد الباص الأخير
الثورة نامت في الكرملين
فارت قبل كوب اللبن
وقفت أمام الصيدلية تشحذ الدواء
أريد أن أبكي من أجلها بلا فائدة
أريد أن أُضَمّنها قصيدة
لكنني مشغول بالخراب
الخراب .. الخراب
7
أريد أن أغني للخراب
لكن لا سكاكين معي
أريد أن أداعب الموتى
لكن لا وقت لدي
يئست..
ولا أريد أن أعرف الحقيقة
لا أريد أصدقائي بعد اليوم
سأصوب على قلبي
وأقتلهم داخله واحدا تلو الآخر
استيقظوا من النوم
واستعدوا يا حمقى للخراب
الخراب.. الخراب

8
ذات يوم
سأتحول إلى سفينة سوداء
عيوني قراصنة
تنبض قلوبهم بالمحبة
ذات يوم كان لي دراجة
أصعد بها إلى السماء
مثل بابا نويل
لكنني منذ أدمنت أفلام الحب
والسماء توقفت عن المطر والقيادة الحكيمة
الآن أفكر في تمديد فترة قيادتي
لكنني خائف
أراقب صرصارا يلعب البيسبول بشواربه
ويغني "الحياة حلوة"
حلوة كأنها الخراب
الخراب..
الخراب..

01‏/06‏/2012

وسط القاهرة.. غرفة تخص الغرباء وحدهم

في مشهد من الفيلم الروائي المصري الطويل "عين شمس" تطلب المعلمة من تلاميذها أن يكتبوا تصوراتهم عن مكان يحبونه، فتقرر الطفلة "شمس" أن تكتب عن وسط البلد، وتتخيلها مكانا مليئا بالملاهي والألعاب المبهجة.
إذا كان ما تخيلته شمس مفارقا للواقع، فالقصة حقيقية فكل شخص في مصر يتخيل أن وسط القاهرة يبوح بالأسرار، وأن به ما لا عين رأت، إلا المثقفين المصريين، والنخبة السياسية، والغرباء الذين يعتبرون "وسط البلد" هي بيتهم الخاص الذين يعرفون كل تفاصيله، والمكان المفضل لعقد ندواتهم ، ومقاهيهم .
قلب الثورة
قلب وسط البلد هو ميدانها "ميدان التحرير"، والذي كان يحمل اسم ميدان الإسماعيلية، لكن تغير اسمه أيضا، وكان المكان الذي تفجرت منه ثورة 25 يناير.
في أيام الثورة كانت وسط البلد خلية نخل، مقاهيها، أماكن لتجمع المثقفين والثوار لبحث تطورات الثورة، مطاعمها مفتوحة ليل نهار، رغم حالة الانفلات الأمني، أمام الثوار، شقق مبانيها مفتوحة أمام الجرحى والمصابين من أبناء الثورة، الصور التي تتناقلها الصحف ووكالات الأنباء لثوار مصريين يرفعون الأعلام فوق التماثيل هي تماثيل وسط البلد من طلعت حرب إلى مصطفى كامل إلى سعد زغلول وإذا كان لمكان في مصر أن يفخر بأنه شارك في صناعة الثورة فهي ولاشك وسط البلد.
غرفة تخص المثقفين
تبدأ وسط القاهرة في نظر محبيها من حيث تبدأ الدنيا، لكنها الحقيقة تبدأ من محطة مصر، من ميدان رمسيس، تستطيع بعدها أن تسير في شارع عماد الدين حيث كان التاريخ يرسم عمر الفن المصري، ولذلك ستجد في الشوارع المتفرعة من هذا الشارع تحمل أسماء فنانين مثل نجيب الريحاني أو زكريا أحمد أو غيرهما .
شارع عماد الدين
ففي هذا الشارع مشى محبو وعاشقو وفنانو الزمن الجميل، من نجيب الريحاني وعلى الكسار إلى ماري منيب وإسماعيل ياسين وبديعة مصابني، في هذا الشارع كانت المسارح و السينمات وصناعة السينما، قبل أن تحترق بداية مع حريق القاهرة في يناير 1951 ، وتراجعت رويدا، رويدا حتى لم يعد بها سوى ثلاث أو أربع دور سينما معظمها مغلق وتعلق أفيشات أفلام قديمة.
يمكنك بعدها أن تسير في شارع 26 يوليو، أو محمد فريد أو عبد الخالق ثروت أو عدلي، أو علوي، أو البورصة،  ميدان طلعت حرب كفيل وحده بأن يكشف لك كنزا من الاسرار فلو وقفت فيه يكفي انك سترى شوارع ( طلعت حرب وقصر النيل ومحمود بسيوني وصبري أبو علم وجروبي ومكتبة الشروق و مدبولي أشهر المكتبات المصرية ) وسترى حتى مقهى ريش الشاهد على تاريخ جميل لن يعود.
اسمان لكل شارع
 معظم شوارع وسط القاهرة تحمل اسمين، فستجد من يسألك أريد أن أذهب إلى شارع سليمان باشا، أو شارع طلعت حرب، والاسمين يدلان على شارع واحد، لكنها الأسماء التي تغيرت بعد ثورة يوليو 1952 ، لكن لأن وسط البلد لا تنسى، ولأنها جزء من التاريخ فأسماء شوارعها القديمة لم تسقط أيضا.
أكثر محبي وسط القاهرة من الغرباء، أكثر مرتادي مقاهيها منهم، ربما لأن أبناء مدينة القاهرة لهم مقاهيهم الخاصة في أحيائهم وشوارعهم، أما غرباء القاهرة، فيجدون في مقاهي وسط القاهرة غرباء مثلهم، سبقوهم إليها، يلقونهم بالترحاب، وبكوب شاي، ربما لن يدفعوا حسابه الآن، وبسماع نصوصهم الطازجة الفوارة بالبكارة القادمة لتوها من الريف، هؤلاء الغرباء، بعد سنتين على الأكثر، سيشعرون أنهم أصحاب مكان، فيستقبلون غرباء آخرين.
شوارع الغرباء
أكثر ما يسعد الغرباء في وسط المدينة، أن يسألهم قاهري عن الطريق إلى مكان ما في وسط البلد، لتجدهم يجيبون بكل سعادة ،"أول يمين ، في ثالث شمال"، فوحدهم من يحفظ ملامح شوارع وسط القاهرة.
الشاعر ـ جنوبي الأصل ـ  ياسر الزيات قال لي إن وسط البلد هي المنطقة الوحيدة التي يسير ويقول "السلام عليكم" للناس فيها، لأنه تقريبا يعرف جميع الناس، ويعرف الشوارع والبيوت والأزقة الضيقة والشرفات والملابس المنشورة على أحبال الغسيل تنقط في حزن.
مثلث الرعب
بين أرجاء مثلث الرعب الشهير بوسط القاهرة "مقهى زهرة البستان ، أتيليه القاهرة،  بار ومطعم الجريون" تصنع الثقافة المصرية على مدار أكثر من نصف قرن أشهر ملامح وسط القاهرة الثقافية، الأجيال الأدبية تورث بعضها الأماكن كالعهدة الحكومية ليتم تسليمها للأجيال القادمة.
ثمة تكتلات أدبية ستجدها في وسط القاهرة، كل جيل، كل جماعة أدبية اختارت أن تتكتل في مكان ما خاص بها، يخرج فقط من الصورة مقهى ريش العريق والذي كان مأوى لكتاب جيل الستينيات في تلك الفترة، والذي خرجت منه إبداعات أمل دنقل، ويحيي الطاهر عبد الله، وجيل عطية إبراهيم، و خيري شلبي، ونجيب محفوظ ، وعبد الرحمن الشرقاوي، و تنظيم مظاهرات، ومجلات مبشرة في فترة النكسة مثل "جاليري 68 ". 
اختلف وضع مقهى ريش الآن، أصبح مكانا سياحيا، يجاهد لاكتساب زبائنه من السياح الذين يبحثون عن تاريخ الثقافة المصرية، خاصة مع ارتفاع أسعاره، لدرجة أن أحد كتاب جيل الستينيات  قال لي "إن معاشي لا يكفي لثمن غداء وكوبي شاي في ريش الآن".
أما مقهى زهرة البستان، فهو يفضل أن يجمع جيل الثمانينات، وبعض الصحافيين من أجيال أخرى وطلبة مبنى الجامعة الأميركية المجاور.
من البورصة إلى أفتر إيت
المقاهي الثقافية ما زالت تولد في وسط القاهرة على الرغم من كل شيء، ربما في دلالة على أن وسط البلد ما زالت مستمرة  في صنع الثقافة، وفي تكوين و خلق جيل جديد من المثقفين، كل جيل يخلق مقاهيه الخاصة، بالنسبة للجيل الجديد ستجده على  "التكعيبة" ، و "عم صالح"، و"البورصة" و"افتر إيت" ، وقلة ستجدهم على "الندوة الثقافية"، و "سوق الحميدية".
هناك دائما "وسط البلد" أخرى، غير تلك التي يعرفها أصحاب الزيارات العابرة الذين يأتون للفرجة أو لقضاء مصلحة من مجمع الخدمات الحكومية، يعرفها سكانها من الغرباء، وسط البلد الأخرى هي في تفاصيلها، مقاهيها التي لا يعرفها أحد، أسطح بيوتها التي يفضل البعض السكنى عليها، مطاعمها شبه الرخيصة، باعة الكتب القديمة فيها، معمار مبانيها، باراتها، مصنع الثقافة، قوته الناعمة، العمارات القديمة الصحف والأحزاب المتمركزة داخله، المظاهرات التي لا تخرج الا منه، التي جعلت الأرستقراطيين يسكنون فيها لفترة، ومكانا للجامعة الأمريكية قبل أن تصبح ملكا لأبناء الطبقة المتوسطة، ومحلات الموضة ودور السينما ومقار الشركات والبورصة والصحف والفنادق والبنسيونات القديمة.
النداهة
يقول المصريون أن من يشرب من مياه النيل لا بد أن يعود إليه مرة أخرى، ومن الصحيح أيضا أن من يزور وسط القاهرة سيأتيها مرة أخرى، وربما هنا يصح الوصف الذي أطلقه عليها الشاعر إبراهيم داود  في حديثي معه ذات مرة "النداهة".
النداهة في التراث الشعبي المصري هي التي تسحر الناس في الريف وتناديهم فيذهبون إليها، وسط القاهرة كذلك، نداهة  لكل من له علاقة بالقصة والشعر والرواية وبالتغيير والثورة، تعبر عن القوة الحقيقية للثقافة المصرية بعيدا عن الصالونات والقاعات المكيفة.
من معالم وسط القاهرة ندواتها الثقافية، لكن على كثرة الندوات التي تعقد تندر الندوات التي تعقد على مقاه، عددها لا يتجاوز الثلاثة، منهم اثنتان حديثتان هما ندوة الدكتور علاء الأسواني التي يعقدها كل خميس  وندوة مقهى التكعيبة كل أحد، وندوة كان يعقدها الناقد فاروق عبد القادر كل أربعاء في مقهى سوق الحميدية قبل اعتزاله ورحيله، والتي تعد أقدمهم وأكثرهم تأثيرا وشهرة .
الثورة كانت هنا
في آخر فيلم عين شمس يقرر والد الطفلة شمس أن يأخذها في رحلة إلى "وسط البلد" فتبدو الشوارع هادئة، فارغة تماما، وهذا لا يحدث في الواقع إلا في أيام الإجازات، وصباحات الجمع، والأيام التي تنطلق فيها المظاهرات، منذ السبعينيات حين انفجرت انتفاضة 77 ، وحتى ظهور حركة كفاية قبل سبعة أعوام، وظهور كل الحركات لاحتجاجية طوال هذه السنوات، وحتى 25 يناير حين قامت الثورة المصرية، في وسط القاهرة التي حبلت للمصريين بالثورة، وجاءت بالتغيير .

الخروج إلى النهار

لم تكن ثورة 25 يناير، إيذانا بخروج الشعب المصري على الحكم الشمولى، والسلطة الأبوية القمعية للنظام السابق فقط، بل كانت أيضا إيذانا  لخروج قواعد، وقيادات إحدى أكبر وأقدم الجماعات السياسية في مصر، جماعة الإخوان المسلمين، على سلطتها الأبوية، والقمعية أيضا، وتفتح الباب واسعا لخروج شبه جماعي، من شباب عرف طريقه في ميدان التحرير إلى مغزى الاختلاف السياسي، وقيادات أدركت أن الطريق أصبح مفتوحا أمامها لتصنع مشاريعها الخاصة، بعد أن فشلت في حصد مكاسب تليق بما قدمته للجماعة.
يمكن إذن القول أن الثورة على النظام السابق في الدولة المصرية، تزامنت معها ثورة أخرى، على النظام القديم في جماعة الإخوان المسلمين، التي تمتد أصابعها في 82 دولة حول العالم، وضد سيطرة التيار القبطي، المتشدد على الأمور في مكتب الإرشاد، ضد التيار الإصلاحي الذي كان يقوده نائب المرشد السابق الدكتور محمد حبيب، الذي أطيح به من المنصب الذي كان قاب قوسين أو أدنى منه، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، أحد المشاركين في التأسيس الثاني للجماعة في السبعينيات، والذي وجد أن مشروعه الخاص قد يستطيع أن  يستوعب أحلامه التي ضاقت بها أفكار سيد قطب التي تحيط بعقول مكتب إرشاد الجماعة العتيقة.
لم يكن الخروج خروج القيادات الإصلاحية  التي يئست من الإصلاح في الجماعة فقط، بل كان خروجا لجزء مهم ومؤثر من قواعد الجماعة وشبابها، وجدوا أن الجماعة لا تتواصل معهم، ولا تستمع إليهم، كما وجدوا أن لديهم عقول تفكر، ولا تستجيب "للسمع والطاعة"، بشكل آلي، وربما يكون هذا هو ما يجمع كل من خرجوا، ومن الممكن القول إن إرهاصات هذا الخروج الشبابي، تجلت مع ظهور الفضاء التدويني قبل سبع سنوات، وانتشاره في مصر، ولجوء شباب الجماعة إلى نشر أفكارهم في مدونات تخصهم، يصطدمون فيها بالبيعة، ويختلفون فيها مع "السمع والطاعة"، لكن التحول الأعظم لدى هؤلاء الشباب، الذين خلقوا صوتا إليكترونيا لهم، يثير القلق داخل أجهزة الأمن، وداخل مكتب الإرشاد أيضا، كان في ميدان التحرير، في ال 18 يوما المجيدة، حينما اكتشفوا أن هناك أصواتا أخرى تستحق أن تسمع، وأن اليساريين ليسوا كفارا، وأن الناصريين لن يعذبوهم كما فعل عبد الناصر، وأن النقاش طريق طويل، لكنه ينتهي بالاقتناع، لا بالإذعان.
ما أريد قوله أن الثورة التي تفجرت داخل الجماعة، مرت بنفس المراحل التي مرت بها الثورة في مصر، منذ الالتفاف حول فضاء إليكتروني، وتلاقي الأصوات المعارضة التي تلتقي على معنى واحد، انتهاء بالميدان، الذي كما خرجت منه عشرات الائتلافات، والتيارات السياسية، خرجت منه أيضا حركات إخوانية مناوئة، وأحزاب خلعت زي الإخوان، وارتدت زي الإسلام الوسطي.
شباب الإخوان الخارجون، اختاروا أن يؤسسوا حزبا باسم "التيار المصري"، ضم عددا من شباب الثورة ذوي الميول الإسلامية، وبعض الخارجين عن طوع الجماعة، مثل معاذ عبد الكريم وأسماء محفوظ وعبد الرحمن فارس وإسلام لطفي، وقيادات الجماعة اختارت أن تؤسس حزبا باسم "حزب النهضة"، انضم إليه الدكتور محمد حبيب، والمهندس إبراهيم الزعفراني، فيما التف حزب الوسط، أول الأحزاب المنشقة عن الجماعة، قبل 17 عاما، وأول الأحزاب المشهرة بعد الثورة، أن يلتف حول تجربة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في الترشح للرئاسة.
من المهم هنا الإشارة إلى أن عددا كبيرا من الرافضين للجماعة، وطريقتها الأبوية القمعية، لا زالوا مستمرين داخلها، وسط تهديدات بفصلهم، ولعل التاريخ القريب يذكر لنا تلك الوقفة التي نظمتها جماعة "صيحة إخوانية"، بقيادة محمد عبد الهادي، زوج ابنة خيرت الشاطر، ضد ترشح "حماه"، لرئاسة الجمهورية، قبل استبعاده، من اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة، لكن ما كشف الأزمة التي تعيشها الجماعة مع قواعدها كان قرار الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عندما قرر قبل عام الترشح للرئاسة، بالمخالفة لقرار الجماعة، ورغبة عدد كبير من شباب الجماعة في دعمه، وتهديدهم بالفصل من مكتب الإرشاد، وهو الأمر الذي كان أحد أسباب دفع الجماعة بمرشح منها.
لكن الأمر لا يمكن تبسيطه بهذا الشكل المخل، فأحد أسباب خروج عبد المنعم أبو الفتوح من الجمعة، هو صراع الإصلاحي والبنكير على مستقبل الجماعة وعلى قراراتها، وأقصد بهما، أبو الفتوح كإصلاحي، والشاطر كرجل أعمال، يستطيع أن يدير مكتب الإرشاد، ويحركه، بل ويتدخل لاختيار 30 في المائة من مجلس شورى الجماعة يصوتون لصالح قراراته، مستغلا في ذلك نفوذه المالي الكبير، وميله إلى الجناح القطبي، الذي عاد أواخر الثمانينات، بعد رحيل مرشد الجماعة عمر التلمساني، ليسيطر على الجماعة.
الملاحظة الأساسية، التي يمكن اكتشافها في الخارجين من الجماعة عقب الثورة، سواء كانوا من القيادات أو من الشباب، هو لجوئهم إلى كتابة مذكراتهم، التي يرون فيها تجاربهم المريرة مع الجماعة، ويفتحون صندوقهم الأسود للقارئ ليعرف ما يدور في دهاليز الجماعة التي تخفيها منذ 84 عاما.
لم يكن موضوع كتابة المذكرات، وفضح ما يدور في كواليس التنظيم معروفا قبل الثورة، وربما يمكن عد الكتب التي فعلت ذلك على أصابع اليد، وإن جاء بعضها انتقاميا، مثل كتاب المحامي الإخواني السابق، ثروت الخرباوي، والذي حمل اسم "من قلب الإخوان ـ محاكم تفتيش الجماعة"، والذي نشره قبل الثورة بأشهر قليلة وتحدث فيه، أن جماعة الإخوان تحولت إلى مُحطم للشباب، وتكبلهم بالإداريات التى تشل حركتهم وتقتل الإبداع داخلهم، وأصبح التنظيم بسبب قيوده سجنا لأعضائه، وصار جمهور السلفيين أكبر من جمهور الإخوان ثلاث أضعاف، وأن الجماعة تحولت إلى كيان طارد، وانتهت إلى معهد كهنوتى يسيطر عليه القطبيون الذين تسببوا فى قلب الجماعة الدعوية التى أسسها حسن البنا إلى جماعة أخرى لا يعرفها أحد غير القائمين على مقاليد الأمور فيها.
كتاب الخرباوي الذي يروي فيه تجربته الشخصية مع الجماعة، يشن هجوما كاسحا على الجماعة، وعلى قادتها، لكن الملاحظة الأساسية في هذا الكتاب، وفي الكتب التي صدرت بعد الثورة لخوارج الجماعة، أو حتى في تصريحاتهم الصحفية عن أسباب الانشقاق أن الخلاف في كل هذا هو خلاف إداري مع قادة الجماعة، ومكتب إرشادها، وليس خلافا فكريا، بمعنى أن كل الخارجين لا يزالون يدينون بالولاء لأفكار الشيخ حسن البنا، ويقدسونها، ويرون أن المشكلة أن الجماعة لم تحسن تطبيقها، وأنها خرجت عن الطريق، ولعل هذا يكشف السبب الذي دفع عددا من خوارج الجماعة أخيرا، إلى تأسيس جمعية باسم "جماعة الإخوان"، تستعيد أفكار البنا وتطبقها مرة أخرى.
أبرز الكتب الاعترافية التي صدرت، هو كتاب "ذكريات محمد حبيب ـ عن الحياة والدعوة والسياسة والفكر"، والذي صدر أخيرا عن دار الشروق، وإن كان يبدو فيه أنه يبكي على الأطلال، وعلى الدعوة التي سلبت، وأيضا كتاب "عبد المنعم أبو الفتوح ـ شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"، والذي حرره الباحث الراحل حسام تمام، وقدم له الدكتور طارق البشري، وصدر عن نفس الدار، والكتاب وإن كان لا يوضح فيه اصطدام أبو الفتوح بمكتب الإرشاد الحالي، لأنه ينتهي زمنيا في التسعينيات، إلا أنه يوضح دوره الإصلاحي، في بناء الجماعة قبل اغتيال السادات، وبعد حادث المنصة.
الشباب يبدون أصحاب الحظ الأوفر في النقد والصراحة، وهو ما فعله الكاتب الشاب أسامة درة، عندما أصدر  كتابيه "من الإخوان إلى التحرير"، ثم "من داخل الإخوان أتحدث"، وقدم نقدا لتجربة تعامل الجماعة مع قواعدها، وهو أيضا يشبه العتاب الخفيف الذي قدمه أحمد العجوز في كتابه "إخواني أوت أو ذا بوكس".
لكن من التجارب المهم ذكرها هنا، كتاب "حكايتي مع الإخوان"، للروائية انتصار عبد المنعم والذي صدر أخيرا عن هيئة الكتاب، والذي تقدم فيه تجربتها مع الجماعة منذ تجنيدها، حتى تركها، رغم ما تعرضت له من تخوين وتكفير، ومن المهم هنا أن نذكر ما قاله أحد أعضاء مكتب الإرشاد تعليقا على خروج بعض أعضائها "الجماعة تطرد خبثها"، وهو ما يكشف إلى حد كبير كيف يتعامل التنظيم مع الخارجين، أو المارقين، وما يفسر أيضا سر المرارة التي يشعر بها، من قرروا الخروج إلى النهار.
شهدت الجماعة على مر تاريخها خروج الكثيرين بداية من عبد الرحمن السندي، صديق البنا والذي أسس التنظيم الخاص، مرورا بأحمد السكري، وجماعة شباب محمد، وانتهاء بأبو العلا ماضي، وعصام سلطان وأبو الفتوح  وهيثم أبو خليل وعبد الجليل الشرنوبي وحبيب وكمال الهلباوي، لكن تبدو الإشكالية الأكبر أن الجماعة بعد أن خرجت من طور العمل السري إلى طور العمل العام، أصبحت كتابا يجب أن يكون مفتوحا أمام  الجميع، وتأسيسها لحزب حمل اسم الحرية والعدالة، يستوجب عليها أن تتخلص من الفكر التنظيمي الحركي للجماعة، وأن تدخل في التنظيم السياسي، وهو ربما ما لن يحدث، لأن الجماعة لم تزل تحلم ب "أستاذية العالم"، كما تخيلها حسن البنا.
بعض كتاب الخارجين من الإخوان تأتي على سبيل التطهر، أو إبراء الذمة، أو بحسب تعبير أسامة درة "كتبت لأستريح"، لكنها تكشف جانبا مهما من التكوين التنظيمي للجماعة التي لعبت دورا مؤثرا في دراما السياسة في مصر، طوال ال 84 عاما  الماضية، لكن يبدو أن القادم أكثر دراماتيكية.
ـــــــــــــــــــــــــ
نشر في أخبار الأدب