31‏/12‏/2016

الموت العادي

لم يعد حديث الموت يثير الشفقة ولا التوقف ولا الدهشة. لم تعد صور الجثث التي تطل من كل مكان، عبر أوراق الصحف وشاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، تستدعي حتى وقوفاً لتأمل ما يحدث. تجاوزنا مرحلة أخبار الموت، إلى صور جثث الموتى، ثم تجاوزنا كل ذلك إلى أشلاء الضحايا، ننظر إليها بقلب ميت، ثم نقلب الصفحة، أو القناة، أو الموقع، دون أن يرف لنا جفن، أو يثير الأمر امتعاضاً.
حين قتل داعش قبل حوالي العامين الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً، في مشهد رآه الجميع، قامت الدنيا، كرر داعش المشهد مع آخرين حتى أصبح عادياً، فتجاوزه لما هو أبشع في إطار حربه النفسية. قبل أسابيع ذبح "تنظيم بيت المقدس" في سيناء شيخاً طاعناً في السن كاد يلامس المائة عام، هو الشيخ سليمان أبو حراز فلم يحرّك الخبر أحداً أوشيء. قدم الجهاديون أبشع ما لديهم من انحرافات نفسية، من حرق وذبح وسلخ وتقطيع أطراف ودفن ورجم وإغراق وسحل وخنق وتفجير الرؤوس وقطعها وإلقاء من علٍ ومشاركة أطفال في القتل، وفي المقابل لم يعد كل ذلك صادماً ولا مستهجناً ولا مثيراً حتى لمصمصة الشفاه.
لم تعد صناعة الموت هي مهنة التكفيريين فقط، ولم تعد نشر عمليات القتل كاملة للترويع مهمة الدواعش وحدهم، بل هي ملعب الإعلام، وهكذا تتنقل من لحظة مقتل السفير الروسي في تركيا من زوايا مختلفة، إلى جهادي مجنون يقنع طفلته بتفجير نفسها، إلى مذيع يعرض أشلاء جثة انتحاري، بقايا الرأس والقدمين، ولا حديث هنا عما تعلمناه في أدبيات الصحافة من حرمة نشر صور الموتى، فالكل يتسابق للوصول إلى الأبشع، أبشع مما وصل إليه غيره في سباق الجنون والشهرة، وفي المقابل تبلد الجمهور، فلم يعد يشعر بأي شيء حيال ذلك، لم يعد يتابع، لم يعد يهتم.
أصبح الحديث عن الموت عادياً، حتى أصبح البشع مكروراً، والمثير للاستهجان لا طعم له. خبر مذبحة رفح الأولى ثم الثانية أقام الدنيا ولم يقعدها، لكن للأسف غدا استهداف الجنود في سيناء متكرراً، ففقد الكثيرون حماستهم للمتابعة، فأصبح الغريب المثير للاستياء عادياً، مثله مثل أي خبر آخر عن انفجار قنبلة هنا، أو تفجير إرهابي هناك.
قبل سنوات استطاعت صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة أن تحرك العالم، وأن تخرج لأجلها المظاهرات، لكن كم صورة أشد بشاعة من صورة الدرة صرنا نراها الآن، ربما نندد ونشجب عندما نرى صورة الطفل إيلان الكردي، وربما نشعر بالغضب لصورة الطفل السوري عمران، لكننا أصبحنا نريد ما هو أقسى حتى نتحرك في المرة التالية، حتى تتحرك إنسانيتنا، حتى تتحرك أصابعنا لتغير صورة "البروفايل" على فيس بوك أو تويتر، فهذا أقصى ما يمكننا فعله.
اعتدنا الموت، صار طعاماً يومياً، تماماً مثل اعتيادك حوادث السيارات التي تراها يوماً في طريقك إلى العمل، تتحول إلى أمر عبثي من كثرة تكرارها، لا يثير حتى التساؤل عن سببها أو الحوقلة أو بعث القشعريرة في الجسد.
لم يعد لدينا للموت قدسية، بعد أن أصبح حدثاً عابراً بلا سبب في كثير من الأحيان، تأمل الأخبار عن تفجير العزاءات في العراق لتدرك مدى العبث، شخص راح يعزي آخر فمات في تفجير إرهابي. تبلّدنا. فقدنا إنسانيتنا. ما تت مشاعرنا وضمائرنا، مع اعتياد صور الموتى، وتكريس نشر ألبومات الجثث، والاختلاف السفسطائي حول هل هم قتلى أم ضحايا أم شهداء، حتى "التعاطف الانتقائي" خسرناه مع كل هذا الموت المجاني.

أصبح الموت رقماً عابراً، قد يدفع أحياناً للتعاطف إذا زاد، لكن مع الوقت تحول "التعاطف" إلى وحش كريه، يحتاج إلى رقم أكبر كل مرة من المرة السابقة حتى يخرج، ويصبح صادقاً، ويحرّك جزءاً من الإنسانية التي تموت فينا كل يوم ببطء.
..........

"الفرقة الانتحارية".. أشرار ينقذون العالم

وصل الصراع بين شركتي مارفل ودي سي كوميكس، اللتين تقدمان أفلاماً عن الأبطال الخارقين مأخوذة من قصص الكوميكس إلى قمته هذا العام، حيث حشدت كل واحدة منهما جميع أبطالها في فيلم أو أكثر، وهو ما رأيناه في فيلمي "كابتن أمريكا: الحرب الأهلية"، و"الفرقة الانتحارية".
حشدت مارفل في كابتن أمريكا جميع نجوم "ذا أفنجرز"، مع نجوم جدد، وحقق نجاحاً كبيراً، في حين قدمت دي سي كوميكس مجموعة جديدة من النجوم في "الفرقة الانتحارية Suicide Squad"، بعضهم ظهر قبلاً مثل "الجوكر" والذي قدمه هذه المرة الحائز على جائزة الأوسكار العام قبل الماضي جاريد ليتو، وبعضهم تقدمه لأول مرة مثل ويل سميث الذي يقوم بدور ديد شوت، ومارجريت روبي التي قدمت دور المجنونة هارلي كوين وكارا ديلفينجين التي قدمت دور الساحرة، وجويل كينمان في دور ريك فلاج،  وفيولا ديفيس في دور أماندا والر، وجاي كورتني في دور كابتن بوميرانغ، وجاي هيرنانديز في دور رجل النيران إل ديابلو، وأديوالي أكينوي أجباجي في دور رجل الزواحف الضخم كيلر كروك، فضلاً عن ظهور سريع لباتمان.
حقق الفيلم إيرادات ضخمة، لكنه فشل في الوقت ذاته في أن يحوز على إعجاب النقاد، وربما يكشف هذا جزءاً من سر صنعة "مارفل"، التي تقدم أفلام خارقين لكنها مصبوغة بطابع إنساني، وهو ما كان سبباً في نجاح أفلام كابتن أمريكا، وهو ما قدمته دي سي كوميكس أيضاً من قبل في ثلاثية باتمان التي أخرجها كريستوفر نولان، لكن الذي صنع الفارق بالتأكيد هو نولان نفسه وليس أحداً آخر.

فيلم "الفرقة الانتحارية" يتحدث عن محاولة لتجنيد مجموعة من أكثر المجرمين شراَ على وجه الأرض، والمحبوسين لخطرهم على البشرية، لصنع فرقة انتحارية تواجه أحد الوحوش التي تسعى لتدمير كوكب الأرض، مقابل تقصير فترة سجنهم، وبغض النظر عن الفكرة الهزلية الخاصة بمحاولة تدمير أو السيطرة على الأرض، فنحن إزاء فكرة براقة، وهي كيف تصنع من الأشرار أبطالاً يواجهون شريراً آخر، وكيف يمكن تحويلهم من قتلة إلى مدافعين عن العدالة.
ربما بسبب كثرة الشخصيات التي يقدمها الفيلم، لم يتمكن المخرج  ديفيد آير من رسم الشخصيات بعمق أو بنائها أو تطويرها، بل قدم لمحات بسيطة عن كل شخصية، كما يحدث في كتاب رسوم مصورة للمراهقين، وربما يبدو الوحيد الذي حاز ببعض الإنسانية هو ويل سميث، والتي تبدو متناقضة في كثير من الأحيان، ويبدو الفيلم غاية في الضعف إذا قارناه بتجمع لأبطال "مارفل" في فيلم "المنتقمون ـ أفنجرز" بجزئيه.
يبدو الفيلم عادياً، على الرغم من الفكرة البراقة، ويبدو في بعض الأحيان سطحياً وهشاً، ويصل لقمة هشاشته في المعركة الأخيرة بين الساحرة وشقيقها والفرقة الانتحارية، حيث ينتهي كل شيء ببساطة، مع أن المشاهد يتوقع معارك أكثر قوة وشراسة، من أجل الوصول لهذه الفينالة.
لكن على الرغم من ذلك، قدمت مارجوت روبي أداء مميزاً في دور هارلي كوين، بمرحها، وجنونها، ونظرة عنييها التي يطل منهما الجنون وعدم التوقع على الدوام، كما قدم ويل سميث أداء متميزاً في حدود الشخصية التي يقدمها، ومع ذلك فلم يقدم جاريد ليتو جديداً في دور الجوكر، خاصة إذا قارناه بالأداء المبهر لهيث ليدجر في ثلاثية الجوكر مع كريستوفر نولان، والتي استحق عنها جائزة الأوسكار بعد وفاته، وربما يعود السبب إلى ذلك أيضاً أن دور الجوكر بدا مقحماً في معظم الأحداث، خاصة أنه ليس عضوا في الفرقة الانتحارية.
الفيلم يبدو وجبة لطيفة كوميدية في بعض الأحيان على غرار فيلم "ديد بول"، مع الموسيقى الصاخبة المصاحبة وجنون هارلي كوين، ولا يمكن الحكم عليه أبعد من ذلك، بل يبدو على الأكثر مثل قراءة قصة مصورة خفيفة، فشل الفيلم أن يمنح شخصياتها قبلة الحياة ويجعلها من لحم ودم، فظلت كرتونية باهتة، تتجاوزها بمجرد انتهائها ولا تتذكر سوى وقت ممتع في مشاهدتها، لكن لا تذكر أي شيء كان ممتعاً بالضبط.


19‏/12‏/2016

مليون "شفيق" بينكم

ما الذي يدفع شاباً ـ في الثانية والعشرين من عمره ـ لأن يفجّر نفسه، فيقتل نفسه وغيره؟ مع أنه من المفترض أن شاباً في سنه يكون في بداية حياته العملية، أنهى دراسته، وخدمته العسكرية، مرتبط عاطفياً ويفكر في الزاوج، يفكر في مستقبله العملي والمهني، فما الذي يجعله يترك كل هذا ويتحول إلى قنبلة موقوتة؟
إذا نظرنا إلى الصور الواردة من داخل بيت الإرهابي محمود شفيق الذي فجّر نفسه وسط المصلين في الكنيسة البطرسية، إذا تأملنا صور قريته التي نشأ فيها، وإذا تتبعنا في ذات الوقت سيرة حياته القصيرة، يمكن أن نصل إلى إجابة بمثابة جرس إنذار.
نشأ شفيق، كما تدل الصور، في بيئة شديدة الفقر ، يعاني منها عدد كبير من سكان مصر، ولا سيما الصعيد، في بيت متزمن دينياً، يشاهد قنوات دينية تُكفّر الآخر، درس في فصل عدد الطلاب فيه يزيد عن 100 طالب، فلم يتعلم شيئاً، لم يجد أمامه أفقاً، لم يجد ما يصنع داخله طموحاً، لم يجد شيئاً يفعله بعد انتهاء المدرسة، فلا ملاعب ولا نوادي، شعر بالنقمة على المجتمع الذي لا يحقق له شيئاً، اجتذبه الملتحون، فتغيرت حياته تماماً، بعد أن وجد شيئاً يدفن فيه طاقته، حدثوه عن الجنة والنار، والمسلمين والكفار، فانتقم من الآخرين بتكفيرهم، وبدلاً من أن يفكر في الزاوج فكر في الحوار العين.
بعد ثورة يناير، انضم إلى أنصار حازم أبو إسماعيل، يحلم بالرجل الذي يسمع دروسه في القنوات الفضائية رئيساً يعيد مجد الإسلام، حارب من أجل شيخه، خرج في مظاهرات، علق لافتات ووزّع منشورات، وبعد أن خرج أبو إسماعيل من السباق، انضم إلى الإخوان وحمل رايتهم. شعر معهم أنه مجاهد في سبيل الله، يستطيع أن  يعيد دولة الخلافة، فلم يصدق كل ما يقال عنهم في الإعلام. ولما سقط حكم الإخوان، انضم إلى المظاهرات التي تطالب بعودة مرسي، وبحسب الأوراق الرسمية فقد ألقي القبض عليه عام 2014 في قضية سلاح ومولوتوف، دخل السجن، وهناك رأى ما رأى  وسمع ما سمع، وبدلاً من أن يخرج من السجن مواطناً صالحاً، خرج وقد تم غسل مخه تماماً من جماعات التكفير بالداخل، سافر السودان وسيناء وتدرب هناك، وكره مجتمعه أكثر، وهكذا نضجت القنبلة البشرية، حتى انفجرت أخيراً في الكنيسة البطرسية.
رحلة حياة شفيق القصيرة، ربما تتشابه مع رحلة آلاف الشباب في مصر، فهناك ملايين يعانون من الفقر، وهناك مثلهم يعانون من مستوى الإعلام المتردي، وهناك مثلهم من يذهبون إلى المسجد الذي يُكفّر فيه الإمام الجميع، وهناك الآلاف الذين ينضمون للجماعات السلفية والجهادية، وهناك الآلاف الذين يدخلون السجن ويتم غسل أدمغتهم بالداخل ليخرجوا أشد تشدداً، وهو ما يعني أن هناك مليون "شفيق"، ومليون "قنبلة بشرية موقوتة" جاهزة للانفجار، قد تكون بجوارك في الحافلة أو في المقهى أو في الشارع، وأنت لا تعرف.
قد يقول البعض إن الفقر ليس دافعاً للإرهاب، فأسامة بن لادن كان مليونيراً، هذا صحيح، لكن الفقر الشديد ورفع الدولة يدها عن المواطنين يدفع للإرهاب والكفر بالوطن، وقد يقول قائل إن الجهل ليس دافعاً للإرهاب فأيمن الظواهري طبيب، وعدد كبير من كوادر الإخوان أطباء ومهندسون، هذا صحيح أيضاً، لكن الجهل يترك "العقل" فارغاً، لكي تملأه أي ترهات يقولها شخص يدعي أنه يتحدث باسم الله.
عندما نتحدث عن جريمة نظام مبارك في حق مصر على مدار ثلاثين عاماً ـ بعيداً عن الفساد المالي والسياسي ـ فنحن نتحدث عن هذا التجريف في العقول، عن تسليم التعليم لجماعات متطرفة، عن تسليم المساجد للسلفيين، عن الأفكار الوهابية التي انتشرت ولا زالت.

محمود شفيق إرهابي، وهناك مليون شفيق آخر، مستعدون للانفجار، يمكنك أن تجدهم ببساطة في التعليقات حولك على وسائل التواصل الاجتماعي، أولئك الذين هللوا للانفجار لأنه وقع داخل كنيسة، أولئك الذين يدعمون داعش لأنهم يرونه يعبر عن الإسلام، أولئك الذين يكفّرون غيرهم ويكرهون كل ما له علاقة بمعنى "الوطن".
....................

14‏/12‏/2016

بين كلوفرفيلد و10 ممر كلوفرفيلد

يحمل فيلما الإثارة "كلوفرفيلد" (2008)، و10 ممر كلوفرفيلد (2016)، أكثر من سمة تشير إلى أن الثاني هو مجرد تكلمة للجزء الأول، ففضلاً عن اسمي الفيلمين الموحيين بذلك، وكونهما من إنتاج جيجي أبرام، الذي كان حاضراً خلال العرض العالمي الأول للفيلم الجديد في نيويورك، فنحن إزاء إعلان رسمي من منتجي الفليمين بذلك، لكن هل هما بالفعل جزءين، خاصة أن قصة كل منهما تختلف عن الأخرى، فضلاً عن أن فريق كل واحد منهما يختلف عن الآخر؟
في الفيلم الأول "كلوفرفيلد" يعتمد المخرج تقنية التصوير بكاميرا محمولة، مضمنة في أحداث الفيلم، الذي يحكي عن حفلة لوداع روبرت الذي سيسافر إلى اليابان للعمل، ثم يقع انفجار كبير، فيهرولون إلى الشارع، حيث تسقط أمامهم رأس تمثال الحرية ـ اللقطة الأبرز في الفيلم وفي الملصق الدعائي له ـ ليفاجئوا بوحش ضخم يهاجم المدينة، ثم يحاولون العودة بعد ذلك لإنقاذ صديقتهم، فتهاجمهم الوحوش الصغيرة، قبل أن ينقذهم الجيش الأمريكي، وينتهي الفيلم بوفاة جميع أبطاله، بعد أن وثقوا حكايتهم عبر كاميرا صغيرة.

في الفيلم الثاني، نحن إزاء قصة أبطالها ثلاثة أشخاص فقط، في البداية نحن أمام ميشيل(ماري إليزابيث وينستد) التي تترك منزلها، بعد أن اختلفت مع زوجها، وفي الطريق تنقلب بها السيارة، وتستيقظ لتجد نفسها محتجزة في قبو، ويخبرها هوارد (جون غودمان) الذي يحتجزهاأن العالم تعرض لهجوم من روسيا أو من الفضاء، وأن الهواء ملوث بالخارج،  وأنه استعد لذلك بتجهيز هذا القبو، وأنه لا يمكنها الخروج. فيتسرب إليها ـوإلى المشاهدـ إحساس أنه خطفها خاصة أن تصرفاته مريبة لدرجة تدفعه لإذابة شريكهما الثالث في حمض الكبريتيك المركز، فتحاول الهرب، ليكتشف المشاهد الحقيقة وهي أن هناك هجوم حقيقي من وحش ضخم، يقلب الثلث الأخير من الفيلم الموازين، فمن ناحية يبدو وكأنه جزء من فيلم آخر، بمعنى أنط لو تم مشاهدته بشكل منفصل، لن تشعر بأنه يمت لهذا الفيلم بصلة، ومن ناحية أخرى يغير وجهة النظر السائدة طوال الفيلم بأنها تعرضت لحادث اختطاف، وينتهي الفيلم، بدعوة عبر المذياع للمشاركة في الإنقاذ فتتوجه إلى هناك، في إشارة إلى وجود جزء ثالث للفيلم، وهو ما سربته بعض المصادر الإعلامية بأن هناك اتجاهاً لإنتاج جزء ثالث من الفيلم.
أسلوب السرد في الفيلمين مختلفين تماماً، في الفيلم الأول، نحن إزاء قصة سرد من زاوية واحدة، وهي ما ترصده الكاميرا المحمولة التي تركها أبطال الفيلم خلفهم قبل أن يموتوا، وسجلوا عليها شهادتهم، أما في الفيلم الثاني فنحن إزاء الطريقة العادية لأفلام الإثارة والرعب، والتي تجعل المشاهد لا يعرف هل يتعاطف مع "الخاطف" أم لا، وهل كان محقاً أم لا، وهي تيمة معروفة في كثير من أفلام الرعب مثل "الآخرون"، و"الحاسة السادسة"، وغيرهما.

قدم الفيلمان أداء إخراجيا مميزاً، ففي الفيلم الأول، يجبر المخرج المشاهد أن يتابعه عبر الكاميرا المحمولة، وهو ما يسميه البعض "سينما اللقطات المكتشفة" (Found Footage) أو لقطات تم العثور عليها، حيث يقدم كل شيء في الفيلم من خلال ما رآه حامل الكاميرا فقط التي تم العثور عليها، وهو الأمر الذي يحتاج جهداً كبيراً، أما في الفيلم الثاني فقد استطاع المخرج أن يقدم فيلماً بثلاثة أبطال فقط، يدور معظمه في غرفة مغلقة، ورغم ذلك لم يتسلل إحساس الملل إلى المشاهد، خاصة مع المجهود التمثيلي الكبير الذي بذله أبطال الفيلم الثلاثة.

نحن إذن أمام قصتين مختلفتين تماماً، في السرد، وطريقة الإخراج، وأبطال العمل، لكن يشترك بيهما فقط "الوحش" الذي هاجم المدينة، وهو أمر مكرور في عدد كبير من الأفلام ـ غودزيلا على سبيل المثال ـ مع ملاحظة اختلاف شكل الوحش في الفيلمين، وهو ما يعني أنه في حال اعتبرنا الفيلمين جزءين متتالين، فهو يعني أنهما قصتين تدوران بالتوازي، وهو ما يطرح سؤالاً حول ما يتردد عن وجود جزء ثالث لهما، هل ستكمله بطلة الفيلم الثالث ماري إليزابيث، الناجية الوحيدة من الفيلم الأول والثاني، أم تكون قصة ثالثة موازية لهما؟.

09‏/12‏/2016

تارانتينو مخرجاً للعالم

يقف المخرج الأمريكي الكبير كوينتن تارانتينو، على الجهة الأخرى من، الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، فلدى كل منهما وجهة نظر مختلفة عن الرجل الأبيض.
خصص تارانتينو فيلميه الأخيرين "جانجو طليقاً" و"الكريهون الثمانية"، واللذين يعود فيهما إلى التاريخ الأمريكي حالك السواد، للحديث عن عنصرية الرجل الأبيض، وفضحها أيضاً، ففي الفيلم الأول نحن إزاء قصة تحرير عبد، يتكشف خلالها كل ما كان يمارسه الرجل الأبيض من عنصرية بغيضة، فيما يأتي الفيلم الثاني على خلفية الحرب الأهلية الأمريكية حيث تسمع كلمة "زنجي" عشرات المرات، ليعيد في الفيلمين تقديم التاريخ الأمريكي بأفلام تنتمي إلى أفلام "الويسترن" التقليدية، ولكن من زاوية قراءة مختلفة، وفي حوار معه بعد فيلمه "جانجو طليقاً"، قال تارانتينو "كونك أمريكيًّا تصنع فيلماً عن ماضي أمريكا يمكن أن يكون قاسياً، لأن مِن أكبر التحديات التي تواجهنا في صناعة هذه الأفلام هي حقيقة أنه لا يوجد الكثير من هذه الأفلام".
في المقابل يصل ترامب رئيساً لأمريكاً على صهوة خطاب عنصري، يُمجّد الرجل الأبيض، الأمريكي الجديد، سيد العالم ويعادي دولاً مجاورة له، مهدداً ببناء سور حول دولته، لمنع المكسيكيين من دخولها، وربما يبدو هذا الخطاب جديراً بأن يكون أحد حوارات أفلام تارانتينو عن عنصرية الرجل الأبيض وهيمنته ورؤيته لقوته، مجرد خطاب هزلي، تتناثر حوله الدماء والعنف، في سرد غير خطي، ليتكشف مصير العالم. يقول تارانتينو في حوار معه "أحب ان يتحدث الناس عن العنصرية المؤسسية الموجودة، والتى تم تجاهلها. أشعر كما لو أنها لحظة أخرى من فترة الستينيات، حيث كان على الناس أن يروا مدى قبحهم قبل تغير الأمور".
أمريكا بين تارانتينو وترامب تبدو مختلفة تماماً، فكل منهما يرى بلاده من زاويته، أحدهما يراها من القمة، والآخر يراها من القاع، فبعد مظاهرة شارك فيها العام الماضي ضد عنف الشرطة، قال كوينتن: "أنا أتذكر كيف تعاملت معي الشرطة عندما كنت فقيراً، وأنا أعرف كيف تعاملوا معي خلال العشرين عاماً الماضية، لم يكن التعامل بنفس الطريقة".
ورغم هذا، يبدو تارانتينو مثالاً جيداً للأمريكي، ففي فيلمه "بالب فيكشن"، تأمل مثلاً هذا الحوار حول أنواع الهمبورجر، تأمل الموسيقات الكلاسيكية، الإحالات لعشرات الأفلام الكلاسيكية في أفلامه، والتي كوّنت الثقافة العالمية حول أمريكا. لكن الفارق ـ في ظني ـ هو أن تارانتينو لا يؤمن بـ "شرطي العالم" الشرير، الذي يفرض نفسه بالقوة،  ولا بالبطل الأمريكي الذي لا يقهر الذي تم تصديره في مئات الأفلام، ففقد الأمل، بالعدالة الأمريكية، فقرر أن يحوّل شرها إلى فعل كاريكاتوري ساخر، يشف ويكشف الداخل الأمريكي.
يرى تارانتينو العالم من وجهة نظر مختلفة، يجسدها في أفلامه، سواء تلك التي كتبها فقط، مثل "قتلة بالفطرة"، والذي كشف فيه علاقة الإعلام بصناعة الجريمة، أو تلك التي كتبها وأخرجها، حيث يقدم العالم ممزوجاً بالعنف والدم، لكن الملاحظة الأبرز أن جميع هذه الأفلام، أبطالها من الأشرار، التي قد تجعل المشاهد يتعاطف معها للحظة، لكنه في النهاية ـ حتى لو كرهها ـ لا يملك إلا أن يقف مبهوراً وهو يراها تعيد تشكيل العالم ـ عالم المخرج ـ أو العالم الحقيقي.
في آخر أفلامه "الكريهون الثمانية"، على سبيل المثال، يضع تارانتينو مُشاهده في مواجهة ثمانية أبطال من الأشرار، يبدون كأنهم هم من يتحكمون في العالم، لكن يبدو هذا الفيلم، من زاوية أخرى، هو القوس الآخر الذي يغلق عالم تارانتيو الذي بدأ جدياً بفيلم لا يختلف كثيراً، هو "كلاب المستودع"، حيث نجد أن جميع أبطال الفيلمين من الأشرار، فضلاً عن اعتماد الفيلمين على ديكور واحد ـ في معظمهما ـ والحوار المتصاعد الذي يتلاعب بالمشاهد، الموسيقى الكلاسيكية، هنا ثمانية أشخاص لا يعرفون بعضهم، وهناك سبعة مجرمين في عصابة واحدة لا يعرف أحدهم عن الآخر شيئاً، لكنهم يعرفون ألوانهم فقط، حيث يحمل كل واحد اسم لون.
في "اقتل بيل"، بجزءيه، نحن أمام رحلة انتقام طويلة، قاتلة محترفة تنتقم من العصابة التي تنتمي إليها، في فصول تبدو كأنها منزوعة من رواية عظيمة. لا رجال شرطة هنا، لأنها في الغالب تصل في الأفلام الأخرى متأخرة، بل شر يقاتل شراً، وأنت في النهاية لا تملك إلا أن تنحاز إلى الأقل شراً (ألا يذكرك هذا بعالمك؟). في "بالب فيكشن"، حيث السرد غير الخطي نحن إزاء مجرمين ورجال عصابات وحقيبة صغيرة ومزيج من السخرية والدم والعنف يذكر بالعالم، وفي "أوغاد مجهولون" يذهب للتاريخ، حيث شر الحرب العالمية الثانية وقصّة جنود حرب عصاباتٍ أمريكيين يهود أثناء الاحتلال النازي لفرنسا ورؤية مختلفة للأفلام التاريخية المعتادة، في "جانجو طليقاً"، يذهب إلى شر الاستعباد والرق والويسترن في أمريكا، في "الكريهون الثمانية"، شر أمريكا التي بلا قانون ويحكمها قطاع الطرق والويسترن هيبيز والعنصرية وصائدي الجوائز والحرب الأهلية، في "كلاب المستودع"، شر العصابات الأمريكية.
يختلف تارانتينو عن كل المخرجين الذين قدموا العنف بوجهيه، الخير والشر، يختلف عن كريستوفر نولان، يختلف عن هيتشكوك، يختلف عن جيمس كاميرون، يختلف عن سكورسيزي، يختلف في أنه يقدم الشر فقط، بجميع وجوهه، الشر الساذج، الشر الإنساني، الشر الذي هو شر لذاته. وكأن هذه هي رؤيته للعالم، العالم الذي يراه يتشكل، ويتفاعل حوله، مع اختلاف درجات الشر.
بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية، تحدث البعض عن أن هذا العالم أصبح يشبه إلى حد كبير أفلام تارانتينو، مع امتلائه بزعماء أشرار، عنصريين، شبه مجانين، لكن يبدو أن تلك نبوءة كوينتن حتى قبل فوز ترامب بكثير، ففي حوار قديم معه بدا سعيداً أن العالم اكتشف عنصرية الرجل الأبيض.
نهايات كوينتن جديرة بهذا العالم، يموت شريرون كثيرون، لكن يبقى شرير واحد في النهاية، ربما الأقل شراً، ربما ليؤكد أن النهايات الحالمة يصدقها السذج فقط، لكن الشر موجود، ويستمر.. ويستمر.. ويستمر للأسف.
.......................


04‏/12‏/2016

الغياب بكامل هيئته في "مقدمة في الغياب" لمحمد أبوزيد

جمال فتحي
ليست "مقدمة في الغياب" إنه الغياب ذاته. بكامل هيئته. بملامحه الواضحة وظلاله الخافتة. بتفاصيله الكبيرة والصغيرة البارزة والخفية. بمتنه وهامشه. غياب حضر حضورا طاغيا في ديوان الشاعر محمد أبو زيد البديع والصادر مؤخرا عن دار شرقيات بالعنوان ذاته " مقدمة في الغياب " وهو الديوان الذي جاءت قصائده تحت أربعة عناوين داخلية رئيسية هي: كهل يسير إلي الحافة / لا يؤنس الغريب سوي ذاته / من يتذكر الغائب؟ من يعرف ماذا يفعل الآن؟ / اسمي محمد أبو زيد.
غياب أبو زيد تنفتح دلالته علي كافة التأويلات والتفسيرات والمعاني. بدءا من الغياب بعيدا عن الوطن والأهل والأصدقاء وبعيدا عن المنشأ والبيت والأشياء الحميمة إلي غياب الإنسان عن الإنسان. وليس بعد غياب الإنسان من حضور. مرورا بالموت كأحد الطرق إلي الغياب. وليس انتهاء بتجاوز الشاعر إلي تأمل الغياب ذاته مجردا كلوحة وقف أمامها طويلا. ونفذ إلي أعماقها الدفينة بأكثر من طريقة بشكل يذكرنا كثيرا بوقفة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش أمام ذات الغياب في معظم أعماله.
يقول أبو زيد مثلا ص11 في قصيدة " ما لا أستطيع تذكره ": في زيارتي الأخيرة / لم أعرف أحدا منهم / ولم يعرفني أحد . وفي قصيدة no news good news ص20 يقول: " لا تفاصيل هنا / لا تفاصيل أعبئ بهـا ذاكرتي / لا شيء يحدث / لا شيء أكتبه في قصيدتي ". وكما يتبدي لنا من السطور ومن مجمل القصائد في الديوان » فقد بدا الغياب كثقب كوني أسود ظل يتسع ليبتلع كل شيء » فالمعرفة غائبة وإن كانت مجرد معرفة الناس للناس. وكذلك الذاكرة غائبة. بل والتفاصيل أيضا كما يقول "لا تفاصيل هنا" ليس هذا فقط بل الفعل أيضا غائب علي حد تعبيره "لا شيء يحدث" حتي الشعر والكتابة والرؤية غائبة كما يقول: " لا شيء أكتبه في قصائدي ". وفي ص 47 يقول: لا أشعر بأي شيء / لا طعم في لساني/ لا شي في يدي /.. " إذن فالشعور يغيب والحواس ولاشيء في يد الشاعر يملكه. وقد لعبت " لا النافية للجنس " كما هو واضح دورا كبيرا في الكثير من القصائد في نفي جنس الحضور بكافة أشكاله في الديوان لصالح الغياب المسيطر المستبد. وهي الأداة اللغوية التي لجأ إليها الشاعر بحساسية لغوية مرهفة تدعمها ذائقة أصيلة وموهبة حقيقية آزرتها الكثير من الأدوات اللغوية والتقنيات الشعرية الأخري.. إلي أن وصل الشاعر إلي قمة غيابه عندما نفي ذاته وهويته وغيبهما بقوله " أنا لا أحد "
قصائد الديوان هامسة يدفعها في اتجاه الرؤية حس إنساني عميق لشاعر زاهد في الحضور مستسلم للهزائم يحيا وهو علي يقين بأن العالم لا يرغب في وجوده لذا يقول ص 98 " من يستعير عمري / من يريد يدا تكتب الشعر / وعينين تالفتين خلف نظارة / وشعرا يتحدي ضربات المقص / من يريد قدما تعبت من التجوال / وابتسامة بلهاء شاخت علي فمي ". غير أن القصائد الهامسة تنطوي أحيانا علي صور مفاجئة وصادمة تدهشك وتجرح سكينتك وتورطك في أزمة ذلك الكائن الذي يختفي خلف القصائد يبحث عن حضور لا يجده وعن غياب مؤكد. كقوله " كانوا ينظرون مليا إلي ذلك المتأنق / أكثر من اللازم / كأنه ذاهب إلي الموت ".. فهل يتأنق الذاهب إلي الموت أصلا؟! فضلا عن تأنقه أكثر من اللازم..ولما لا أليس ذاهبا للغياب؟! وكذلك قوله: " ص 14 لا أفهم ما يقولون / لكن سعادتهم / تحرك ستارة النافذة "
....................

نشر في جريدة الجمهورية

لا تنسوا رضوى عاشور

مرت أول من أمس (الخميس 30 نوفمبر)، الذكرى الثانية لرحيل الكاتبة الكبيرة رضوى عاشور، بهدوء ودون ضجيج، ودون اهتمام من الأوساط الثقافية الرسمية، إلا من إشارات من قرائها وعشاق أدبها وتلاميذها، وإشارات لعشرات المقولات المقتبسة من أعمالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تكن رضوى عاشور في حياتها تنتظر شيئاً من المؤسسة الثقافية الرسمية، عاشت حياتها على هامش المؤسسة، منحازة لقضاياها التي آمنت بها، وتركتها منثورة في أعمالها، يحتفي بها قراؤها، وتحصل على جوائز من دول العالم، تتحقق وتؤثر بكتاب تلو الآخر، لكن ظلت بعيدة عن الدولة التي كانت مشغولة بمعاركها الشخصية، وموظفيها.
لم يكن لرضوى عاشور شلة، فرغم انتمائها جيلياً إلى جيل الستينيات، إلا أنها ظلت بمعزل عن خلافات ذلك الجيل، منغمسة في عملها الأكاديمي، وبنفس الدأب تعمل على مشروعها الأدبي في صمت وجدية، عملاً تلو الآخر، ونصاً رائقاً تلو الآخر.
رضوى عاشور حالة خاصة في الثقافة العربية عموماً، وفي المصرية خصوصاً، آمنت بما تكتب، وكتبت ما تؤمن به. لم تفصل بين اعتقادها في قضاياها السياسية وبين كتابتها، لكن رغم ذلك لا نلمح صوتاً أيديولوجياً في أي مما كتبت.
كانت منحازة للقضايا العربية، مهمومة بقضية العرب الأولى القضية الفلسطينية، مؤمنة بوطنها، رأينا ذلك في "ثلاثية غرناطة"، و"الطنطورية"، وغيرهما. في حديث معها قبل حوالي 12 عاماً قالت لي: "إذا كانت الكتابة مجرد قناع أيديولوجي فلا بد أنها رديئة جداً، وبالمناسبة ففي كل كتابة قدر من الأيديولوجيا، لكن اختزال الكتابة إلى مجرد أيديولوجيا يعني قتلها وتحويلها إلى أفكار غير أدبية". كانت ترى أن "النص الأدبي نص متعدد المراكز ومتعدد الأصوات ويحتمل التناقض والتشطي ويحتمل أشياء كثيرة، والقول بأنه أيديولوجيا مقنعة يعني إفقاده ثراء الفن والعديد من العناصر المشكلة لهذا الثراء".
كانت مؤمنة بقضية المرأة، ورأينا ذلك في بطلات رواياتها، بدءاً من غرناطة، مروراً بـ"خديجة وسوسن"، و"أطياف"، "وحجر دافئ"، و"فرج"، و"سراج"، والسيدة راء، لكن رغم ذلك لم نرها وسط عشرات الكاتبات اللائي يحتكرن الكتابة باسم المرأة في الصحف والفضائيات.
كانت حالة خاصة، بعائلة همّها الأدب والإنسانية، فلا يمكن أن نفصل حضورها عن تجربة الشاعر الكبير مريد البرغوثي، وتميم ابنهما. ومن يعرفهم عن قرب، يدرك أن هذه عائلة من خارج الإطار التقليدي للعائلة، يمكنك أن تتتبع سيرة مريد في كتابة رضوى، وأن تقرأ رضوى في قصائد مريد، وأن ترى أثر الاثنين في كتابة تميم.
كانت مؤمنة بقضية وطنها، وتدافع عنه، كانت تؤمن بالمقاومة، ابتداء من فلسطين وحتى مصر، ومروراً بكل الجراح العربية المفتوحة، كان يمكن أن تراها في ميدان التحرير بصحبة تميم ومريد، تفعل ما تؤمن به، لكنها لم تكن أبداً من سماسرة القضية، الذين ينتقلون من خندق إلى آخر، حسب نتائج الربح والخسارة.
كانت مؤمنة بالكتابة كمفتاح لحل الأزمة، منفحتة على الكتابة وتطويرها وبنائها، كما فعلت في "قطعة من أوروبا"، أو حتى بأن توظف شكل التقارير في نص أدبي كما في "تقارير السيدة راء"، وأن تتنقل بين السيرة والرواية والرحلة، بحثاً عن الشكل المناسب للكتابة.
كانت رضوى عاشور تكتب، تكتب فقط، وهي تدرك أنها بهذا الفعل تقاوم، تحارب اليأس، وتبني، تعلم، تربي أجيالاً ومحبين في الجامعة، وتمنح آخرين عطاء لا ينقطع في الكتابة.
لا أعتقد أن رضوى عاشور تنتظر احتفاء رسمياً، فقيمتها وقامتها باقية ـ مهما مضى من زمن ـ في عيون محبي الأدب الجاد والحقيقي، الذي لا يفنى، ومحبي إنسانيتها التي نفتقدها.     
......................
*نشر في المصري اليوم 

26‏/11‏/2016

"المهدي" الذي لم يجد أحداً في انتظاره

هذه حكاية درامية، ملهاة ومأساة في الوقت نفسه، تدعو للضحك والبكاء في الآن ذاته. لم يختر الشيخ محمد عبد الله نصر أن يكون مهدياً منتظراً، لم يختر أن يكون له متابعون ومريدون ومصفقون على كل ما يقول، أصاب أم أخطأ، لم يختر أن يُنَصّب "إماماً وخطيباً للثورة"، ويقدم بهذا التوصيف في الفضائيات والندوات وفي الميدان، لكنه صنيعة لإعلام ومشاهدين وحالة سياسية مجنونة.
اختطفت الأضواء المبهرة "الشيخ ميزو"، وأدرك هو كيف تدار اللعبة، كل المطلوب منه أن يقول تصريحاً ساخناً هنا، يرفع الحذاء في برنامج آخر هناك. تنقل من برنامج إلى برنامج، ومن فضائية إلى أخرى، ركب الموجة وهاجم وندد ووصل إلى أبعد مما وصل غيره، ثم انخفضت الموجة فخفتت الأضواء قليلاً. لكنه لم يدرك أن هذه طبيعة السياسة والإعلام، مد وجزر، لم تعد الفتاوى المثيرة تجتذب القنوات كثيراً، لم تعد هناك "ثورة" يدّعي الحديث باسمها، انشغل الناس في أمور أخرى، أسعار السكر والزيت والدولار، وفي ظل ذلك كان بريق الإعلام يلوح من بعيد، أضواء الكاميرات تنادي كأنها النداهة، صفحات الصحف فارغة بدون صورته وتصريحاته المثيرة، تناقصت اللايكات على صفحة فيس بوك. لذا قرر أن يضرب ضربته الكبرى، أن يقلب الأمور رأساً على عقب، وكله بالشريعة، "الدين بيقول إيه؟". المهدي المنتظر سيكون اسمه "محمد بن عبد الله"، والشيخ ميزو يحمل نفس الاسم أيضاً. وهكذا اكتملت الفكرة ولم يبق إلا أضواء الكاميرات وأخبار الصحف ومواقع الإنترنت.
لكن مأساة الشيخ ميزو أنه عندما قرر أن يصبح مهدياً منتظراً لم يجد أحداً في انتظاره، قابلته الضحكات والنكات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي صنعت منه نجماً من قبل، اتسع الخرق على الراتق هذه المرة، صارت "الكذبة" أكبر من أن تصدق أو تردد. ربما تحقق له الظهور مرة أو اثنتين أو ثلاثاً في الفضائيات، ربما أقام بعض المحامين دعاوى ضده تضمن له استمرار نشر الأخبار عنه في الصحف شهراً أو شهرين، لكن بعد أيام سيصبح الأمر نكتة قديمة، ملّتها الفضائيات وسيحثون عن نكتة أخرى، فتذوي الأضواء أكثر، وهكذا حتى يختفي للأبد، وقد خسر كل شيء.
الشيخ ميزو ليس مجنوناً، ليس مريضاً نفسياً، وليس مهدياً منتظراً أيضاً، لكنه يبحث عن الأضواء التي انسحبت عنه. يبحث عن إحساس سلطة رجل الدين المشهور، وتحريك الجموع الذي منحته إياه الكاميرات. الشيخ ميزو ضحية الإعلام، ضحية اللهاث وراء الغريب والعجيب وغير المنطقي، ضحية صناعة نجوم وهميين بحثاً عن "اللايك" و"الشير" و"الترافيك"، ضحية الذين يجلسون في "العاشرة مساء" كل يوم على كنبتهم في انتظار إخراج العفريت والجن والميت الذي عاد.
ربما كان لدى الشيخ ميزو مشروع بحثي، ربما بدأ فعلاً بقراءة ومراجعة التراث الإسلامي، لكنه انتهي إلى مريض بالشهرة، يقدم ما يعجب الناس، ما يريده منه مقدمو البرامج حتى يستضيفوه مرة أخرى، حتى تتصدر صوره الإعلانات في الشوارع، فبعض الذين تصدرت صورهم إعلانات الشوارع السنوات الماضية، ليسوا أفضل منه في شيء، وهو محق إلى حد كبير في هذا الاعتقاد.
أحد الأفلام المهمة التي تتحدث عن صناعة الإعلام لنجوم لا حقيقة لهم، هو فيلم "قتلة بالفطرة"، الذي كتبه كوينتن تارانتينو وأخرجه أوليفر ستون، ويدور فيه حوار بين أحد الإعلاميين وأحد السفاحين الذي تحول بفضل الصحافة وكاميرات التلفزيون إلى نجم له مريدون وعشاق، يقول في نهايته الإعلامي"أنا مجرد طفيلي، أنتم لنا، للملأ والإعلام، هكذا هي الأمور"، نعم، هكذا تحول الإعلام إلى طفيلي، وهكذا هي الأمور في الصحافة المصرية الآن.

الشيخ ميزو ليس وحده "المهدي المنتظر" المزيف، كلنا مهديون منتظرون مزيفون بشكل أو بآخر، نلهث وراء ما يرضي "الجماهير الوهمية" على فيس بوك وتويتر والتلفزيون، لكن الشيخ ميزو امتلك وحده شجاعة الاعتراف وفضح الجميع.
............

22‏/11‏/2016

كيف تحول "أحمد التباع" إلى نجم المرحلة؟


اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي بمعركة لفظية، بين إعلاميين شهيرين،  على مدار ثلاثة أيام، استخدم كل طرف فيها كل ما يملك من قوة وضغط وأتباع للوصول إلى هدفه، كانت البذاءة هي عنوانها الرئيس، واستخدمت الشتائم فيها كسلاح اغتيال معنوي، حتى وصلت إلى الترند العالمي على تويتر.
وبعيداً عن المعركة وشخوصها، كان السؤال الأبرز بالنسبة لي: كيف أصبح استخدام الشتائم "البذيئة"، ممن يفترض فيهم أنهم قادة رأي، وصناع رأي عام، وقدوة لكثير من الشباب والأطفال، سهلاً وبسيطاً، لدرجة إعلان مسابقة ـ بين هؤلاء الشباب ـ على اختيار "الشتيمة" الأكثر إيلاماً واغتيالاً وتأثيراً.
صعود هذه "البذاءة اللفظية" في المجتمع المصري، ليس حديث العهد، بل ارتبط بما جرى في المجتمع خلال الخمس سنوات ماضية من تغيرات، وصعود نجوم مجتمع، سواء في الفن أو السياسة أو الرياضة أو الإعلام أو الصحافة  أو الدعوة، لا يتورعون عن استخدام هذه الألفاظ، بل ويتسارعون لاختيار الأنسب والأكثر تأثيراً منها لمزيد من "الترافيك" و"الشهرة"، ويمكن بعملية بحث سريعة على يوتيوب، أن تدرك كم الشتائم المباشرة التي قيلت عبر الفضائيات خلال الفترة الماضية.
لكن الحالة الأبرز التي ترصد التغير الذي حدث، هي حالة "أحمد التباع" الذي تحول إلى نجم مرحلة دون أي سبب دال، سوى أنه دليل على مدى التحول القيمي في المتجمع. وأحمد التباع لمن لا يعرفه هو سائق إحدى عربات النقل الثقيل، تسربت مكالمة هاتفية جنسية له على يوتيوب يخاطب فيها فتاة اسمها "هبة"، وانتشرت بشدة خلال العام  2011، لكن بدلاً من أن يهرب أو ينزوي هذا الشخص خجلاً، تحول إلى نجم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت كلماته في المكالمة إلى "إفيهات" يتناقلها الشباب فيما بينهم، وتحول وجه التباع إلى علامة مميزة في كثير من الكوميكس على فيس بوك وتويتر. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل وصل إلى أبعد مما كان يمكن تخيله، عندما تحول إلى نجم تلفزيوني، فظهر في قناة "القاهرة والناس" مع طوني خليفة، والغريب أن أحد ضيوف البرنامج كان يدافع عنه خلال الحلقة، ثم ظهر في إحدى حلقات برنامج "رامز واكل الجو" مع رامز جلال على شاشة إم بي سي، كما كان بطلاً لفيلم أنتجه أحد المواقع الإلكترونية حمل اسم "الأسطورة"، ثم تحول إلى بطل حملة إعلانية لإحدى شركات البطاطس الشهيرة، وهكذا أصبحت صورته في الشوارع والميادين والفضائيات.
في الأحوال العادية، كان تسريب مكالمة بهذا الشكل، لشخص أياً كان ـ مشهوراً أم مغموراً ـ كفيلاً بأن يتحول الأمر إلى فضيحة، وربما يصل إلى القضاء، لكن ما حدث مع التباع أنه تحول إلى نجم، من الإنتنت إلى الصحافة إلى التلفزيون إلى الإعلانات، وربما قريباً في السينما، وعندما يسألك طفلك: "من هذا؟"، ما الذي فعله كي يصبح نجماً تلفزيونيا، فعليك أن تبحث عن كذبة مناسبة.
ما الذي يربط بين حكاية الإعلاميين الشهيرين وأحمد التباع؟ الرابط هو المساهمة في صناعة "البذاءة"، والترويج لها، وجعلها نجمة المرحلة، حتى أصبح الاستماع إلى "الشتائم"، سواء في الشارع أوالفضائيات أو السينما والدراما أمراً عادياً وغير مستهجن. فكم شخصاً شارك في صناعة "الهاشتاج العالمي"، والذين بالضرورة استخدموا "الشتائم" للوصول إلى هذا الغرض؟ وهل هكذا يتم استخدام الجماهير؟ لست معنياً بالدفاع عن أحد ولا بمهاجمة أحد، لكني معني بالمجتمع الذي تتغير قيمه وأسسه وأخلاقياته، بسبب البحث عن الترافيك والترند والمعجبين والإثارة والانتشار والشهرة والانتقام.

لست قيّماً على الأخلاق، ولست رقيباً على أحد، لكن ما أعتقده أن حالة الانهيار الأخلاقي التي نعاني منها، والتي يشكو الجميع منها، لن تتوقف إلا إذا توقف صناع الرأي والإعلاميون وضيوف البرامج عن المساهمة في ذلك أولاً، وقبل ذلك لا تتوقف في الشارع لتتساءل عن سبب هذا الكم من الشتائم في التعاملات العادية للناس.
...................

08‏/11‏/2016

«الأرنب خارج القبعة»: عوالم المتعة والدهشة في الكتابة

«كيف تصبح كاتبًا فاشلاً؟!»
إبراهيم عادل
 بهذا السؤال يبدأ الشاعر المصري «محمد أبو زيد» كتابه الجديد الصادر إلكترونيًا مؤخرًا عن «مؤسسة هنداوي للثقافة»، والذي جمع فيه مقالاته المنشورة على الموقع بين عامي 2014 و2015، والتي يتناول فيها عوالم «الكتابة» و«السينما» ومحاولات التقاط الدهشة ولحظات صيد الإلهام، وهو -على حد تعبير صاحبه- كتاب عن «السحر»؛ سحر الإمساك بالقلم وتشكيل عالم جديد، أو سحر خلق عالم مدهش تتأمله بعينين مفتوحتين في صالة مظلمة، وهو كتاب عن الماضي والمستقبل.
يقسم «أبو زيد» الكتاب بشكل عام إلى أربعة أقسام؛ عن الكتابة، عن السينما، ثم جزء آخر عنونه «كتابة» وفي النهاية «عبور الزمن». ويبدو لنا القسمان الأولان مرتبطين بفكرة الكتاب بشكل عام، حيث يدوران حول عوالم الكتابة والإبداع والعلاقة بين القارئ/المتلقي والكاتب/المخرج (أو السيناريست)، وعن رؤى العالم المقدمة من خلال تلك الوسائط المختلفة سواء كانت رواية أو قصيدة أو فيلما سينمائيًا.
يضع أبو زيد يده على عدد من القضايا والأفكار التي تدور في أذهان الكثير من الكتّاب، وهو يربط ذلك بقراءاته واطلاعه على عدد من مقولات كبار الكتّاب والمؤلفين سواء في كتبهم أو في حواراتهم المنشورة، بدءًا بـ«ماركيز»، و«كونديرا»، و«إيزابيل الليندي»، وصولاً إلى «نجيب محفوظ»، و«أورهان باموق»، و«إيمان مرسال»، كما يجمع مع ذلك مقولات كبار السينمائيين «وودي آلان» و«كريستوفر نولان» وغيرهم.
يقول في مقال بعنوان «عزيزي القارئ من أنت؟»:
يجب علينا ألا نخلط الأوراق فيما يخص القارئ، فإذا سلّمنا بضرورة وجود المتلقي في المعادلة، ففي هذه الحالة علينا أن ندرك ما الذي سنقدمه له، وهنا الفارق الحقيقي بين الكاتب النخبوي المبتعد في عليائه، وبين الكاتب النخبوي الذي يسعى إلى تغيير ذائقة القارئ، وفَتْح مجالٍ جديدٍ للتَّلَقِّي، وسحب القارئ معه إلى فضاء أرحب وأوسع، وهذا هو ما يقصده «فلاديمير نابوكوف» بقوله: «إن كان القارئ يخلو من العاطفة والصبر؛ صبر العالِم وشغف الفنان، فمن الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم.» يقول ساراماغو في حوار معه نشرته «باريس ريفيو»؛ إن «المواضيع المفرطة بالجدية بطبيعتها لا تجذب القارئ، وإنه لأمر محيِّر أنني أحظى بمراجعات ممتازة من الولايات المتحدة». إذن ربما يستسيغ البعض الكتابة السهلة التي يمكن ببساطةٍ بيعُها، لكن الأصعب بالفعل هو أن تُجْبِرَ القارئ على شراء كتاب لم يتعوّد على قراءته.
يجيد محمد أبو زيد في حديثه عن «الأفلام» الانتقال من الخاص إلى العام، وتبدو هواجس عالم «الكتابة» مؤثرة على تلقيه، وربما اختياره لتلك الأفلام التي يتناولها هنا ويعرض أفكارها، ويلفت أنظارنا إلى جوانب هامة منها، بدءًا بالأفلام الأجنبية التي تحاكي ما يحدث في الواقع وتتجاوزه لاسيما أفلام «نهاية العالم» ومشاهد الدمار التي تحفل بها، مرورًا بالأفلام الهامة التي تتحدث عن «الإنسان» ومشكلاته الفلسفية القائمة وصراع الوجود والبقاء وعلاقة حاضره بمستقبله، مثلما نجده في أفلام «كريستوفر نولان» التي يتناول عددًا منها بشيءٍ من التركيز، انتهاءً بالأفلام التي تصوّر علاقة الإنسان بالواقع الافتراضي وسيطرة وسائل التكنولوجيا الحديثة على عالمنا وما يمكن أن ينتج عن ذلك، مثل فيلم «Her» الشهير ومعالجته لهذه الفكرة.
ويحضر بين هذه الأفلام كلها عالم «الكتابة» و«الكتّاب»، ودور الكاتب والمخرج هنا (لاسيما إذا كان هو كاتب أفلامه) في عرض الواقع أو تصوير رؤيته للعالم من خلال فيلم أو مجموعة أفلام من جهة، أو أن يُبنى أحد تلك الأفلام على روايةٍ معروفة مثلما حدث مع (بؤس) لـ«ستيفن كينج» الذي أخرجه «روب رينر» والذي تناول تلك العلاقة الملتبسة التي تربط القارئ بكاتبه المفضل.
في «ترومان شو»، يكتشف البطل أنه مجرد فأر تجارب، في عالم مصنوع بالكامل، وأن كل من حوله ممثلون، في عالم يؤدي كلُّ مَن فيه دوره بإتقان شديد، وأنه ليس أكثر من ممثل في أحد برامج «عالم الواقع»، وأن هناك من يتفرج عليه وعلى زوجته وعلى عمله، وأن كل ما يحدث ليس إلا جزءًا من عالم افتراضي.
البحث عن الخالق، عن الحقيقة المطلقة، وراء هذا الوهم العظيم الذي نحياه، عمن يقف خلف الذين يحركون البشر والمصائر كعرائس الماريونيت، وهو ما يشبه ما نعيشه يوميٍّا؛ حيث نفاجأ كل يوم بمصائر الأحياء تتغير، وكأنه مسرح، يغير فيه المخرج الأبطال والممثلين، في مشاهد دراماتيكية، لا يصدقها المشاهد.
الكتابة تصنع هذا في جزء منها، تتجاوز ما قَبِل به الذين يعرفون أنهم جزء من تمثيلية، للتعرف على ما وراء ذلك. هل الكتابة إذن هي محاولة للتصالح مع الذات، أم مع الخالق، أم مع العالم المحيط، أم محاولة لصنع عالم جديد، يخص الكاتب الوحيد؟، الإجابة أنها كل ذلك. وهكذا لا يبدو عالم «الكتابة» منفصلاً عن عالم السينما والأفلام، بل يبدو كل منهما مكملاً للآخر، طارحًا عددًا من الأفكار والرؤى المؤرقة والمهمة والملهمة في الوقت نفسه.
في الجزء الثاني من الكتاب والذي يحتوي على القسمين الآخرين اللذين أسماهما «كتابة» و«عبور الزمن»، ينتقل أبو زيد من الكلام النظري الذي أداره حول الكتابة والسينما بمستوياتها المختلفة، إلى نماذج تطبيقية من كتابته لا يبتعد فيها كثيرًا عن عالم «الأسئلة الكبرى» المؤرقة للإنسان -والكاتب بالضرورة- ولكنه يصوغها هذه المرة بطريقة كتابة أدبية فنية، عرف بمهارته فيها بالشعر (عبر دواوينه المختلفة) وها هو يجرّب طريقة أخرى لطرحها خلال هذه المقالات.
الغربة، والحنين للماضي، الموت/النهاية، الحياة/الرحلة، الصمت والكلام، أفكارٌ تدور حولها نصوص هذا الجزء الآخر من الكتاب، بطريقته الخاصة جدًا يطرح تلك الأفكار ويتركها تدور داخل عقولنا، يتحدث عن الغربة «في نصائح للغريب حتى يعود»، و«طوبى للغرباء»، بشكلٍ شاعري يجعل للبيوت والناس لونًا وطعمًا ورائحة. يتحدث عن وسائل المواصلات، والانتقال بين القرى والمدن، ورغبة الغريب في العودة لكي يدفن في بلاده، يستدعي ذكرياتٍ قديمة ربما نعرفها جميعًا ويلتقط تفاصيل حياتيه عابرة لا شك أنها تؤثر في أي قارئ سواء مر بتجربة الغربة تلك، أو يعيش في بلده وبين أهله غريبًا!.
وفي نصوصٍ أخرى يعمل الخيال ويلعب به لعبته المفضلة، التي طالما لعبها في قصائده:
في مكانٍ ما، وزمنٍ آخَر، سنفعل ذلك؛ نسحب الموز من أفواه القردة وندعوها للجلوس بأدب على الطاولات، نكتشف مدينة الإسكندر الأكبر، ونمدِّد البحر على جنباتها كهرَّةٍ نائمةٍ تتمطَّى، نستعير المسرح الكبير من فيلم «المصارع» حتى يستريح «راسل كرو» من الهرولة في الصحراء، نشاهد أفلام «توم هانكس» و«ميج رايان» ونتحدث عن السُحب وأقدامنا تغوص في البحر، ثم نقف كصديقين التقَيَا صدفةً في قطار، نتقاذف المدن مثل كرات البنج بونج، حتى نبهر الجنود والملوك، وتصفق الطيور بأجنحتها لتسير أسرع، وقبل أن نغادر سنقول أهلًا، ونبتسم ابتسامة النصر. إذا وقفتُ على السطح، ومددتُ صوتي سُلَّمًا، فهل سأصل إلى السماء؟. إذا أخرجتُ قلبي ورفعتُه لأعلى، فهل سيتحوَّل إلى مظلةٍ تُقلُّني إلى وسط البلد؟. إذا ناديتُ بأعلى صوتي من الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، فهل ستسمعونني؟
في الجزء الأخير من الكتاب والذي جاء بعنوان «عبور الزمن»، يعود أبو زيد إلى ذكريات الطفولة والشباب المرتبطة أيضًا بعالم القراءة والكتابة، فيتذكر صالون الكاتب الكبير «محمد جبريل» الذي كان يقام أسبوعيًا في نقابة الصحفيين وفيه تعرّف أبو زيد على كثيرٍ من كتّاب هذا الجيل الذين أصبحوا أسماء لامعة ومميزة في الكتابة اليوم. ويسترجع ذكر أول كتابٍ فتح عينيه على عالم الصحافة والكتابة والأدب، وهو كتاب «فوانيس الحياة» لـ«علي أمين» الذي تحدث فيه عن أحلام طفولته التي تحققت بالمثابرة والعمل والإصرار، لذا يعتبره أبو زيد كتابه الخاص الذي كان محرضًا على الحلم، وهو الذي جعله يفكر في العمل بالصحافة أصلاً.
وكما يتذكر الماضي البعيد يعود إلى ذكرياتٍ من ماضينا القريب، التي ربما عاصرناها وتفاعلنا معها جميعًا، لاسيما ما يتعلق منها بتطور وسائل الاتصال الحديث، وانتقال الناس من موقع إلى آخر. يسترجع أبو زيد في مقال «زمن التدوين الجميل»، ذلك التحوّل الدرامي الذي نقل الناس من صفحات المنتديات في البداية إلى المدونات التي كانت طفرة في حينها وامتلأت بالسياسة وغدت حديث الناس لدرجة أن «دار الشروق» أفسحت لها المجال لتخرج أعمال المدونين إلى «كتب»، وما صاحب ذلك من انتشار لها. خبا هذا كله تدريجيًا بمجرد وجود وسائل أخرى سحبت البساط من «عالم التدوين»، وظهر «فيس بوك» و«تويتر» بعلاقات التشبيك القوية التي جعلت الناس كلها تتفاعل معه وتتعامل به الآن ويصبح هو حديث العصر.
والحديث عن الماضي على هذا النحو يستدعي بالضرورة حديثًا عن المستقبل وكيف سيكون؟، كيف ستؤثر علينا وعلى الناس في المستقبل وسائل التكنولوجيا تلك؟، وإلى أي مدى ستكون متحكمة في الإنسان بعد أن أصبح جزءًا منها ولا يعرف كيف يعيش بدونها؟. في مقال «عيون مفتوحة على اتساعها» يقول:
لم يعد من يستخدم هذا الكمبيوتر هو شخصية العام، بعد أن سقط في عبودية زمن المعلومات، وأصبح مجرد رقم في منظومة كبيرة، تتعامل مع الملايين، تجمع البيانات، وتحلل، تقوم بعمل الجواسيس القدامى، لكن هذه المرة من مكان بعيد، من خلف الآمر الناهي الساخر، « الأخ الكبير» الكمبيوتر الضخم، حيث الصوت العميق القادم من العالِم ببواطن الأمور، المفتوحة عيناه على اتساعهما، شخصية العام، وكل عام.
هذه إطلالة سريعة على ذلك الكتاب، وهذا العالم الذي أخذنا إليه  «محمد أبو زيد» بكل بساطة، فأصبحنا كما لو كنا قد سقطنا في حجر أرنب «أليس» وانتقلنا منه إلى «بلاد العجائب» السحرية المدهشة سواء كانت في «الكتابة» الثرية التي نحبها، ونود أن نكون جزءًا منها، ونبحث عن طرقٍ مختلفة للوصول إليها، أو «السينما» والأفلام التي شكّلت جزءًا كبيرًا من متعتنا، ولا زلنا نبحث فيها عن المتعة الجديدة المختلفة، ندور في ذكريات الماضي وأفكار المستقبل، لنستكشف ذلك العالم الغريب.
يبقى أن نشكر «مؤسسة هنداوي» على إتاحتها هذا الكتاب للقراء إلكترونيًا. تجدر الإِشارة إلى أن «مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة» مؤسسة غير هادفة للربح، تسعى إلى إحداث أثر كبير في عالم المعرفة عن طريق برامجها المتعددة. بدأت المؤسسة نشاطها بالاهتمام بالترجمة، وانتقلت إلى نشر المؤلفات القيمة مما كتب بالعربية أو ترجم عنها في مختلف المجالات لجعلها في متناول القارئ العربي، وتقوم المؤسسة بنشر الكتب بنسختيها الإلكترونية والورقية، حيث توفر العديد من الكتب إلكترونيًا على موقع المؤسسة مجانًا.

نشر المقال في إضاءات

18‏/10‏/2016

الأرنب خارج القبعة

18 شارع سليمان عزمي

أحفظ عنوان البيت عن ظهر قلب، رغم انقطاعي عن زيارته بسبب السفر خارج البلاد والانشغال غير المبرر بالعمل. أعرف الطريق جيداً. الترام من ميدان رمسيس يشق الطريق إلى مصر الجديدة، قاطعاً ميادينها الشهيرة: تريومف، سانت فاتيما، والحجاز، ثم يعبر بجوار نادي الشمس. أهبط من الترام وأقطع باقي الطريق سيراً. خطوات قليلة على الدرج، وأجد الأستاذ محمد جبريل يفتح لي باب شقته، بابتسامته المربّتة والأبوية والمرحبة دوماً.
لا أعرف عدد المرات التي قطعت فيها هذا الطريق، لكنها أكثر مما أذكر. لفترة طويلة كنت أذهب إلى هذا العنوان بشكل يومي، لأجد استقبالاً حاراً ومرحباً دوماً. لفترة طويلة كان ـ ولا زال ـ هذا البيت بيتي، الذي أرتاح فيه من هموم الغربة، وألقي شكواي بين يدي الأستاذ جبريل، الذي ينصمت باهتمام، ثم يصف لي بمحبة شديدة طريق الحل. أحفظ كل شبر في البيت الذي يمكن اعتباره ـ بلا مبالغة ـ مكتبة كبيرة، تحولت إلى شقة، في كل ركن كتاب، وإلى جوار كل حائط رف كتب، حتى سقف الممر بين الغرف تحول إلى مخزن للكتب.
لخمس سنوات متواصلة، كنت أحضر ندوة جبريل، في نقابة الصحافيين القديمة ثم الجديدة ثم في مقر جريدة الجمهورية، يتحول يوم الخميس إلى يوم مقدس، ألتقي فيه مع كتاب من جيلي، ومن أجيال سابقة، نتحدث في الشعر والأدب ونتناقش حول نصوصنا الجديدة. تبدأ الندوة في السابعة، وتتوقف قليلاً عندما يحضر النادل، فيطلب الأستاذ جبريل "شاياً باللبن" لنفسه، ويدعونا على مشروبات، يصر في كل مرة أن يدفع ثمنها. تتواصل الندوة، ينصت خلالها باهتمام إلى كل نص يقال، يرفض التدخل في النقاش، تاركاً لكل منا حرية التعبير عن رأيه في النصوص التي تطرح، يتدخل فقط ليصد الهجوم إذا طال كاتباً في بداية طريقه أو قال نصه الأول، مانحاً إياه دفعة للأمام ودعوة لمواصلة الطريق.
خلال هذه السنوات الخمس، التي عرفت فيها الأستاذ جبريل، في الندوة، والبيت، ومقر العمل أيضاً، تعلمت منه الكثير؛ أولها الإخلاص الشديد للكتابة، فلم أره مرة، في البيت، أو في الجريدة، أو في طريقه إلى العمل، أو في الندوة التي كان يسبقنا إليها ويجلس في انتظار وصولنا فرداً فرداً، إلا ممسكاً بكتاب، ينتهي الكتاب فيخرج آخر من حقيبته ويبدأ في قراءته على الفور، ويضع بقلم رصاص صغير ملاحظات على الهامش، أو منهمكاً في تدوين ملاحظات ما، أو منشغلاً في العمل على رواية أو كتاب جديد.
تعلمت من جبريل، أن تكون الكتابة هي الحياة، وأن تتحول الحياة إلى كتابة، فأزعم أنه يعيش بالكتابة، أعني أن الكتابة هي التي تمنحه الطاقة على العيش، واحتمال الحياة بمنغصاتها التي لا تنتهي.
تعلمت من جبريل فضيلة الاستغناء، أعرف جيداً أنه تخلى عن كل ما في الحياة، لم يخض معارك مع أحد على منصب أو جاه أو رغبة في ظهور، لم ولا ينتظر شيئاً من أحد، حتى من تلاميذه الكثر الذين تخرجوا من تحت يديه، في الندوة أو في الجريدة، ولسنوات طويلة، فشغلتهم الحياة وأنستهم فضله عليهم، وفضّل أن يكون في معية الكتابة، وهذا ما يريده.
لم يكن جبريل بالنسبة لي مجرد صاحب ندوة أحضرها كل يوم خميس في نقابة الصحافيين، تعرفت فيها على الكتابة الحقيقية وساهمت في تأسيسي فكرياً، ولا مجرد صديق وأب ـ كما أعتبره ـ فتح لي بيته ومقر عمله، ولا  مجرد روائي كبير، يخلص للكتابة ويمنحها جلَ وقتها. كان أكبر من ذلك بكثير. أعرف ذلك، ويعرفه كل أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا وتبعتنا ممن حضروا معي الندوة، وفعل معهم وساعدهم كثيراً مثلما ساعدني، وأعرف أيضاً أنه لا ينتظر شكراً ولا تقديراً من أحد، لكننا مدينون له كلنا بذلك.