18‏/04‏/2012

"مدهامتان" لمحمد أبو زيد: صه أيها الموت


محمد العشري
"صهٍ أيها الموت./ ماذا تريد بعد أربعة دواوين مفعمة بالجثث/ برائحة البارود والجماجم الطائرة/ بالدم والسل والطاعون/ لم يعد بإمكاني تقديم قرابين أكثر،/ تعبت". هذا الكلام الفادح المعترف والمستسلم للتعب يبدأ به الشاعر المصري محمد أبو زيد ديوانه الجديد "مدهامتان" الصادر حديثاً لدى "دار شرقيات" للنشر بالقاهرة، في محاولة ثرية تضيف إلى رصيده الشعري ألقاً وتميزاً واضحين.
في كل من مجموعاته السابقة استطاع الشاعر أن ينحت عالمه الشعري الخاص، ويعبّر عنه بمفردات دالة، تتكئ على بساطة اللغة، وتحليقها المراوغ في فضاء التفاصيل اليومية المعيشة، والعودة بها إلى الذات في مراحل تكوينها الأولى وإكتشافها العالم الخارجي: "أريد أن أعود طفلا مرة أخرى/ أحب،/ ويتحطم قلبي الغض/ أحلم بالكتابة والثورة/ أعرف الفارق بين العدو والصديق/ أتخلى عن حكمة الشيوخ/ وأعود حيوانا بريا/ يجري سعيدا في الغابة".
يسقي الشاعر ساق القصائد بماء المشاغل اليومية التي تمارسها الذات، وتُراكم في داخلها خبراتها الحياتية يوماً بعد يوم. فهي ترتاد المقاهي، لتقرأ عناوين الأحداث في وجوه الناس. تشتري حاجاتها من الجمعيات التعاونية، تركب الحافلة وتسافر بعيداً، ثم لا تلبث أن تعود إلى ذاتها منسلخة من أثر الواقع: "في اليوم الأول لتركي العمل/ لم يستطع هاتفي تحمّل كم الاتصالات/ فسقط على الأرض يلهث". فواصل زمنية تشتت الذات المشردة في البحث عن أناها، وهي تسعى للإمساك بخطوط العمر، الذي يتركها ويرحل مسرعاً كقطار هارب، ويترك تلك الذات عنواناً للذكرى والأسى: "مع الأيام/ أتحول لصورة معلقة على الحائط/ لا أهش على غنمي/ ولا التراب من على حواجبي/ تتغذى ذاكرتي على النسيان/ تسقط اللقمة من فمي/ أنسى أين تركت/ عينيّ/ وانصرفت باكيا".
للقارئ أن يشاهد صور القصائد، بهياكلها المكسوة باللحم الحي، وإنسانيتها العذبة تمر في شرايينها بما يضخه محمد أبو زيد من صور وأخيلة، تمثل فواصل جوهرية في التعرف إلى الروح الإنسانية، وما يشظّيها في مجتمعها الضيق. تدرك الذات أسباب سعادتها، فتمد أصابعها وتلمس جدار الحقيقية: "لأنني أحبكم/ أريدكم أن تموتوا الآن/ أريد أن أمشي خلف جنازاتكم/ واحدا وراء الآخر/ كإله إغريقي يدفن نصفه البشري في رضا". سرعان ما تقع الذات في جب سحيق، حين تكتشف الوجه الآخر: "لا أعرف شيئا  اسمه الحب/ أعرف النصال الغائرة والخيانة/ أعرف القسوة والصدور المثقوبة/ بريح صرصر عاتية/ أعرف الرصاص الذي حوّل جثتي لمصفاة/ جثتي الملقاة أمام غابة مطفأة".
يعرف محمد أبو زيد كيف يمسك بأطراف أوجاع قديمة، ويعريها في العراء، ليصطاد منها أشياءً مهملة في تاريخ الشعر، برغم أنها نخرت في أجساد المصريين فترة من الزمن، ولا يزال الريفيون يعانون منها أو يتذكرونها بما تركته من آثار وآلام جسيمة، قضت على الكثيرين الذين كانوا يجلبون رزقهم بالخوض في الوحل والماء العكر، فأصابهم مرض البلهارسيا الفتاك: "قتلتني البلهارسيا/ فبعت في السوق ذراعي الأخرى/ ونسيت الكتابة/ توقفت عن إشعال الشموع للعذراء/ وقيام الليل/ والاحتفال بعيد الفلاح/ وأنا أعدو عائدا من المقابر".
اللافت أن هناك وجها نسائيا يَعبُر مع محمد أبو زيد دواوينه. تلك هي ميرفت عبد العزيز التي أصبحت حالة مستمرة ترتدي قصائد الشاعر، وتدلف معه من مجموعة إلى مجموعة، وها هو يترك ذاته تناجي الطيف الأنثوي العابر في حياته، والمستقر في مخيلته ولا يستطيع الفكاك منه: "سواء قرأت ميرفت عبد العزيز/ هذه القصيدة/ أم لم تقرأها/ ها أنا ذا أجدد الكتابة/ مثل عجوز يسلي وحدته/ باصطياد طائرات الأطفال الورقية".
في لمحة ذكية يطير خبرً عن روايته الوحيدة "اثر النبي" لدى الناشر نفسه، في مراوحة ما بين الشاعر والروائي. ففيما يبدو الروائي سعيداً وهو يكتب روايته، يظهر الشاعر حزيناً في الإمساك بقصائده: "العام الماضي كنت روائيا/ كنت سعيدا كبطريق/ تناول إفطاره مبكرا/ ثم لعب الكرة مع سمكتي "حنكليس" في الشارع/ الآن أنا شاعر/ والشاعر حزين بطبعه/ حزين وهو يرى الأسطر تتساقط/ تحت سواد قلمه/ مثل حفار قبور".
ــــــــــــــــــــ