28‏/06‏/2006

حبلُ غسيلٍ مصلوبٌ دمُه يُنَقِّط على المارة



نعم ،أحب الورد
لأنه يذكرني بالموت
وأكره الميادين الواسعة ، وأخافها
مرة : تهت
ومرة:لم أجدني في صفحة الوفيات
إلا بعد ثلاثة أيام
المرة التالية
أخذت حذري
طرت فوق الميدان بسرعة
خائفا
من أن تثقب دموعي
أدمغة المارة


أريد أن أبكي منذ ثلاثة أيام
ولم أجد وقتا لهذا
في الماضي
كنت أُصَفِّف شعري
من المنتصف
أما الآن
فسأقاطع الجرائد
والأجنحة
وسهرات القناة الأولى


أقول لكم
منذ ثلاثة أيام أريد أن أبكي
لكنني تحجرت
ولم أعد أُمَيِّز بين التوائم
أمس
لم تُفَرِّق جارتي
بين التمثال القديم
في مدخل الشقة
و بيني
لكني حين رفعت عيني
اكتشفت كم هو رائع هذا الصمت
الذي يذكرني بالورد

" الورد جميل
" جميل الورد
فلا تبتسموا ولا تغنوا
الأحزان معلقة على الحائط
كأوسمة قتلى الحرب
و صوت عقارب الساعة
لم يزل يوقظني
الشاطئ بعيد
و السفينة مثقوبة
لم أكتشف هذا إلا الآن
أما صرختي في المقهى
فلم تكن إلا لتأكيد فرحتي
بالغرق
.

خزانة الذكريات

لبائعي ألبومات الصور الرخيصة ، صينية الصنع ، في الحافلات العامة ، أن يقولوا أنهم حافظو الذكريات للمارة ، أنهم بائعو الخزائن التي تحفظ لقطة اختطفت من سياق الزمن وتم تسجيلها في صورة ، أنهم القابضون على الذكريات ، وحافظوها ، لتصبح فيما بعد دليلا على حياة مرت ، بحلوها ومرها ، وفرحها وترحها ، بكل ما مر فيها .
ربما لا يخلو بيت في العالم ، من ذلك الكائن البلاستيكي صغير الحجم المسمى بألبوم الصور ، ذلك الذي يحفظ بين دفتيه صورا عديدة لمراحل مختلفة من العمر ، ذكريات لأيام ماضية ، حفلات زواج ،وأعياد ميلاد ، ورحلات مع زملاء الدراسة ، وإجازة قصيرة على شاطئ البحر ، و ميلاد ابنة لأبوين طال انتظارهما لها ، ولقطة أخذت على حين غرة لشخص يبتسم في بلاهة ، وآخر مات بقى من قصة حب فاشلة ، وصور للذين تركونا وهاجروا ، أو خانونا ، أو ربما ماتوا .
يبدو من المفيد أحيانا للإنسان أن يقلب دفتر ذكرياته ، ألبوم صوره ، لكي يتذكر أصحابه ،وأعداءه ، و يلجأ الكثيرون للألبوم في أوقات المحن ، وأحيانا في أوقات الحنين ، ويحرص المرء عندما يكبر أن يجمع أولاده حوله لكي يقول لهم: هذا عمكم فلان ، وهذا الشخص عملت معه ستة أعوام ، وهذا الرجل أتذكر ملامحه ولا أتذكر اسمه، وقد ينظر لزوجته من تحت نظارته ويهمس لبناته ، وهذه المرأة الجميلة كدت أتزوجها قبل أمكم لولا النصيب الغلاب ، ثم يقلب صورة أخرى ويقول : وهذا جدكم ، ثم يقلب صورة أخرى ويقول لابنته المتزوجة ،وهذه صورتك وأنت طفلة ، كنت لا تكفين عن البكاء ، لم تتغيري أبدا رغم مرور ثلاثين عاما ، وعادة فإن من يرث الألبوم هو أقرب شخص إلى الراحل ، ربما لأن ألبوم الصور يعتبر من أشد الأشياء قربا إليه .
يختلف الألبوم باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها صاحبه ، فبائعو الألبومات الرخيصة في الحافلات العامة ، يدركون أن زبائنهم يشبهونهم ، وأن هذه الألبومات ستوضع فيها صور لابن يعمل في إحدى دول الخليج في مهنة شاقة ، أرسل صورته لأهله لطمأنتهم ، أو صورة وحيدة لأب قبل أن يرحل ، صورة بالأبيض والأسود ، بهتت بفعل الزمن ، وتنقلت من بيت لبيت ومن ابن لابنة ، أو صورة لعرس أحد الأصدقاء وقد تراص حوله شباب الشارع ، بائعو هذه الألبومات ، يعرفون أن لها مشترييها ، وهم حتما يختلفون عن الباحثين عن ألبومات غالية السعر لتوضع فيها صور حفلة في فندق خمسة نجوم حضرها أحد المطربين شبه المعروفين ، يستطيع الألبوم في أحيان كثيرة التعبير عن طبقة صاحبه الاجتماعية ، لكنه في كلتا الحالتين ، لا بد أنه سيحمل نفس الذكريات المؤلمة والمفرحة .
مع مرور الزمن ومع توالي الصور تبدو الحياة أشبه بمسرح ، لا يضحك ولا يبكي ، ليس تراجيديا ولا حتى كوميديا ، فقط هو جدير بالتأمل والتفكير ، فما كان يضحك بالأمس يبدو اليوم جديرا بالحزن ،وما كان يؤلم يجعلنا نشعر بالبهجة ،وترف على شفاهنا ابتسامة ،وقد تبدو ألبومات الصور مبررا لتعبير " الزمن الجميل "، الزمن الذي أبكانا وحين نتذكره الآن في ألبومات الصور نشعر بالحنين الشديد إليه .
في كل ألبوم عشرات الصور ، ولكل صورة حكاية ، كل لقطة اختطفت من قبضة الزمن لها قصة تستحق أن تروى ، أحيانا ننسى التفاصيل ، لكن تظل تلك الصورة ،وهؤلاء الأشخاص عالقين بأذهاننا ، الذين يخبئون صورة يخبئون معها شيئا آخر ، ربما يبدو لهم أكبر من قاماتهم ، البعض قد يحذف صورة من ألبوم صوره لكنها تظل عالقة في ذهنه ، ترتبط بذكرى مؤلمة داخله ، أو فرحة لكنه يخشى أن يعرفها أحد .
لا شك أن ألبومات البعض تحوي الكثير من قصص الحب الفاشلة ، آخر ذكرى من حلم مجروح ،ودموع ، و زجاجتي كولا على الكورنيش ، ورحلة في مركب بين ضجيج الأغاني الزاعقة ، وحلم ببيت صغير لم يتحقق ، كل هذا يذهب أدراج الرياح ، ولا يتبقى منه سوى صورة عرض ذات يوم مصور متجول عليهما التقاطها ، لتنضم في نهاية المطاف إلى ألبوم أحدهما
الولع بالاحتفاظ بالصور ، يجعل البعض يحول حافظة نقوده إلى ألبوم صغير ، أحدهم ذات مرة أراني صور عائلته وأصدقائه بين دفتى حافظة نقوده ، فهو كما قال لي يعتبر حمل الصورة نوعا من التقدير لهذا الشخص ، لكن أكثر حاملى الصور ، وأصحاب أكبر ألبومات في الدنيا لا ريب أنهم المصورون الصحافيون ، وإن كان قد قضى على فكرة ألبوم الصور بالنسبة لهم " الكاميرا اليجيتال " تلك التي تحفظ الصور على الكومبيوتر مباشرة ، قد يخلق البعض الألبومات لصوره على الكومبيوتر ، لكن لا ريب أن للملمس الورقي مغزى آخر .
أكثر الناس ارتباطا بألبومات الصور هم كبار السن ، بعد خروجهم على المعاش، ومللهم من الجلوس غير المفضي إلى شيء على المقهى ، تصبح عادة الهروب إلى ورق الصور القديم ذا الرائحة القديمة، متعة وحيدة ، بعد أن انتفت الكثير من المتع ، ويصبح الجلوس في صحبة هذه الصور وتذكر الراحلين والباقين ، المواقف الحلوة والمرة ، سلوى لاحتمال الأيام الباقية في الحياة .
ألبوم الصور هو الذي قد يشفي جراح الفراق أحيانا ، أصدقاؤنا الذين سافروا ، آباؤنا الذين ماتوا في حرب لا ترحم ، أمهاتنا اللائى لم يودعننا ورحلن في صباح غاشم ، قصص حبنا الفاشلة ، مع مرور الزمن تتحول الصورة إلى مائدة من المن والسلوى ، السلوى الوحيدة في طاحونة الحياة التي لا ترحم ، السلوى التي تترك عجلة الحياة تسير بدون جراح أكثر ، السلوى التي سيلجأ إليها الكثيرون في أوقات الشدة فيذرفون لديها الدموع ، ألبومات الصور ، تلك الكائنات الصماء ، في أحيان كثيرة تحمل بين جناحيها شفاء لأمراض الفرقة والوحدة والوحشة .
"صورة صورة صورة ، كلنا كده عايزين صورة ، صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة " هذه الكلمات كتبها الشاعر الراحل صلاح جاهين ليغنيها عبد الحليم حافظ ، لكن ترى لو نظرت الدول العربية الآن في البوم ذكرياتها خلال القرن الماضي ، ترى أي جراح التقطتها عدسة الزمن ، لتتذكرها ، أي أفراح ، وأي جراح ، وأي فواجع ، و هل ستغني مجددا مع عبد الحليم " صور يا زمان ، صور يا زمان "
وأنت ؟ ، ماذا يحوي ألبوم صورك ، أي قصص للنجاح والفشل والفرحة والحزن ، الرفض والرضا ، البكاء و الضحك قصص نضال وحكايات حب فاشلة ، أي حكايات يحويها ألبوم صورك ، أقول لك ، فتش بنفسك.

23‏/06‏/2006

مديح الغابة


كل شيءٍ كعادته
قميصه الرمادي الذى يجعله
أكثر طولا
قُبلةٌ لم يمنحها فى زحام الباص
منديلٌ ملونٌ
يطل من جيبه كقطة خائفة
زجاجة الكولا
على حافة المنضدة
.....
.....
لماذا إذن
حين لمح الوردة ارتعش ؟

أشهر 10 مشاهد للحب في مصر


أشهر 10 مشاهد للحب في مصر


حين أتأمل قصص الحب الحالية ، أكتشف في أيان كثيرة أننا أكثر كلاسيكية من قصص الحب القديمة ، ومن الأفلام العربي ، الأبيض والأسود التي نسخر منها ، أكثر كلاسيكية من سعاد حسني وحسن يوسف وفاتن حمامة وعبد الحليم ، المشاهد التالية تتكرربصورة دائمة ، إن لم يكن أمامنا، فداخلنا على الأقل :
1 - " أحمااااااد .....منااااااااااااا " النداء الشهير في فيلم عربي قديم لا أتذكر اسمه ، بين ولد وبنت ، يحدث دائما في قصص الحب الملتهبة عندما يتقابل الحبيبان ، صدفة في مكان ، وكل واحد يقف في ناحية ، ثم يهرول كل منهما في اتجاه الآخر وهو يهتف باسمه .
2 - عندما يكون البرد شديدا ، ويسير الولد والبنت تحت المطر الشديد ، و ينظر إليها فيجدها ترتعش ، فيما تصطك أسنانها ببعضها ، فيهمس " إنتي بردانة " فتهز رأسها دون أن تجيب ، وبحركة عنترية يقوم الولد بخلع الجاكت الواقي من المطر ويضعه على كتفيها ، غالبا ينتهي هذا المشهد بدور برد شديد للولد طبعا .
3 – أغنية عبد الحليم حافظ " بحلم بيك أنا بحلم بيك " تدور في الكاسيت الأسود الصغير بجوار الكوميدينو ، بينما البطلة تحتضن المخدة مستحضرة وجه " لبنى عبد العزيز " في فيلم الوسادة الخالية ، وغالبا تنام وهي محتضنة الوسادة ، وصوت عبد الحليم ينسحب لتحل محله نشرة منتصف الليل من إذاعة القاهرة الكبرى .
4 – يحدث هذا المشهد عندما تسألك والدتك ، أو والدك عن شيء ما ، حصل للتو ، وتنسى الإجابة ، أو أن تخرج وتنسى كشكول المحاضرات ، ساعتها ستفاجئك الجملة السرمدية التي تقال في هذه المواقف " إنت بتحب جديد " ساعتها فقط ستكتشف " أن سرك انكشف يا فالح " .
5 – عندما تكون ماشيا بسرعة ، وهي تسير مسرعة في الاتجاه المقابل ، وفجأة تخبطان بعضكما ، فتتبعثر مفاتيحك وسجائرك، أويتبعثر ورق محاضراتها ، وعندما تميل لتجمع الأشياء المبعثرة ، تميل هي أيضا ،وعما ترتفعان تلتقي عيونكما في نظرة طويلة .. لقد بدأ الأستاذ كيوبيد عمله .
6 – هذا المشهد رأيته في ميدان رمسيس منذ عامين : الولد يرتدي جاكت جلدي أسود يبدو في السنة الأخيرة من الجامعة ، يحمل كتبا وكشاكيل محاضرات ، يضع الهاتف المحمول على أذنه ويصرخ في التي تسمعه من الناحية الأخرى : مش معقول ، مش ممكن ، يصمت لحظة بينما عيناه تغليان ، ويتابع في مرارة : ووافقتي على الخطوبة ؟
7 - هذا المشهد خاص بالمتزوجين : عندما يقوم الزوج بارتكاب خطأ أو خيانة ، وتفاجئه زوجته بأنها تعرف الحقيقة ، لحظتها تضربه بقبضتي يديها على صدره صارخة " بكرهك بكرهك " أو " طلقني طلقني " ثم تنهار باكية على صدره ، فيما يغمره إحساس كبير بأنه جبان .
8 - عندما تكتشف نفسك متلبسا بتتبع أخبار فتاة ما ، تسأل عن أخبارها ، وعن أصدقائها ، وعلاقاتها السابقة ، وعندما يقول لك أحد أنك مهتم بها أكثر من اللازم ، تجاهد في إنكار ذلك ، وأنت تبدو مرتبكا ، لكن عيونك ، يا روميو، تقول غير ذلك .
9 – هذا المشهد يحدث الآن بكثرة ،عندما يقرر بطلانا أن يخرجا عن كل ما حولهما أن يقولا ما بداخلهما للمجتمع كله ،عندها تأتي قبلتهما على كورنيش النيل لتشهد بداية علاقة .
10 - " بابا أنا مش هتجوز غير أحمد " ،" ماما أنا بحب منى ، ومش ممكن أرتبط بحد غيرها " عندما تصل الأمور إلى هذه الدرجة ، تكون قصة الحب قد بدأت في دخول رهان التحدي ، ورغم أن هذا المشهد يحتوي واحدا فقط من الحبيبين ، إلا أنه أشهر مشهد للحب ، يتكرر يوميا .


الصورة للفنانة راندا شعث

16‏/06‏/2006

ذات يوم ستقرأ سوزان هذه القصيدة




















الوجوه التى نقابلها فجأة
فى الشارع
فى المقهى
فى الحافلة
الوجوه التى نحبها – هكذا –
من أول مرة
سنحكى لها عن همومنا
عن أطفال قطة الجيران
عن الجير الذى أسقطه جدار الصالون
سنحكى لها عن كونديرا
وفيروز
وعبد الناصر
وقرانا الطيبة البعيدة
سننصت جيدا
محدقين فى ناس عيونهم
نرقب حزنهم
والأشجار التى نمت فى بئر السلم
وجداتهم قارئات الكف
وعدم حاجتهم لقدمهم اليسرى
فى لحظة الوداع
لن ننسى أن نسألهم عن أسمائهم
أن نقول : فرصة سعيدة

بعد أن ننصرف
سنسير مهمومين بهم
نفكر فيهم على طاولة العشاء
فى أثناء القراءة
وصنع القهوة السادة
فى الثالثة صباحا
سنحاول ان نطردهم من تفكيرنا
كى ننام
حين نفعل
سننتظرهم فى أحلامنا
ولا نستيقظ
سننتظرهم ... ولا يجيئون

هاجس الموت

كأننا والماء من حولنا


رمالٌ ميتةٌٌ
موجٌ نذلٌ
مراكب محطمة
صيادون غرقى
هلب تخنقه الطحالب
أسماك مسممة
سفينة مشروخة
جثث بحارة فقراء وعمال عمي
نفط سائل يلتهم أحشاءك
غربان تنعق فوقك
وقمر يُخيفك بفضته


كل هذا
وتقول إنك وحيد يا بحر ؟

الجهاد في سبيل الكرسي



عندما أعلن مهاتير محمد رئيس الحكومة الماليزية السابق منذ قرابة العام والنصف أنه اكتفى من الحكم ، وأن 22 عاما ظل فيها فوق المقعد أكثر مما ينبغي ، عندما قرر التنحي وترك المقعد على الرغم من أنه أشرف على قيادة بلاده في مسيرة نهضة تنموية واقتصادية وسياسية وثقافية غير مسبوقة في جنوب شرقي أسيا والعالم الإسلامي خلال السنوات المائة الأخيرة ، بدا مهاتير محمد بالنسبة للسادة الحكام الرؤساء والملوك والأمراء والسلاطين العرب ، واحدا من المستحيلات الأربع ، بجوار العنقاء والرخ والخل الوفي ، خاصة وأن الوصول إلى الكرسي ليس بالأمر السهل بالنسبة لهم ، حتى يفرط فيه هكذا ، فالمقعد بالنسبة لهم لن يحول بينه وبينهم إلا هازم اللذات ومفرق الجماعات ، وأحيانا أبناءهم حينما ينقلبون عليهم ، ويمكن هنا أن نذكر هذه الحكاية : سأل أحد الصحفيين المفكر الأميركي امرسن (1803-1883) سؤالا غرائبيا مقصودا: -هل تعتقد بان الفيل يرضى أن يحكم العالم؟ فأجابه بعد لحظات من التفكير: لا، لأن للفيل أخلاقا رفيعة تمنعه من ذلك ، إذن تحول أخلاق الفيل دون الجلوس على كرسي العرش ، هذا الذي نسمع كل يوم عن حكايات التقاتل عليه ، كما أنه ربط بينه وبين الأخلاق ، أخلاق الحاكم ، التي ستحول دون الوصول إليه كما لا يحدث لدينا .
يتجاوز الكرسي في العالم العربي كونه مقعدا بأربعة أقدام ، ليصبح هدفا أسمى للحياة ، رمزا للسلطة والتحكم ، وأصبح الوصول إليه أيا كان نوعه ، هو الطريق الذي يسقط فيه عشرات القتلى والجرحى ، تمتلئ الأرض حوله بعشرات الجثث ، بمخلفات الحرب ، برائحة الجثث المتعفنة ، بألغام تمنع أي شخص من الاقتراب ، وليس مهما هنا هل الكرسي هو كرسي العرش الذي " ينام عليه الحاكم " ، أم كرسي صغير في مصلحة حكومية حقيرة في منطقة نائية ، أم كرسي بجوار بائع شاي في ميدان عام يتدافع المارة للجلوس عليه ، أم كرسي في أتوبيس نقل عام ، والذي قد يمثل الصراع على الكرسي في أوضح صوره .
بعض الحكام يفضلون الكراسي " التيفال " اللاصقة ، والتي لا تخرج من الجسد إلا بالدم ، أو بالروح ، يضعون حولها سور عال ، وسماء صعبة الاختراق ، بعد سنوات طويلة من الجهاد في سبيل الكرسي والوصول إليه ، يستريح القائد المناضل ، تمر عليه السنوات ، التي يكون خلالها قد نسي الحياة خارج الكرسي ، معظم الحكام العرب يفضلون أن يموتوا فوق الكرسي ، الأكثر منهم يموتون وهم يحكمون ، لو اقتربنا من كراسيهم ، سنشم رائحة الموت ، وقد نرى ملك الموت يحمل بقاياهم ، قد نشم رائحتهم ، بعد أن عجز الكرسي عن أن يمنعها من الظهور ، ففاحت حولهم ، لذلك نرى قراراتهم الديكتاتورية تخرج من أفواههم بطريقة أوتوماتيكية .
الجهاد أنواع ، لكن ما يعرفه السادة الحكام العرب نوع واحد ، هو الجهاد في سبيل الكرسي فقط ، ويمكننا ببساطة إذا استعرضنا التاريخ العربي منذ أيام الجاهلية وحتى الآن أن نكتشف – ببساطة أيضا – أن معظم الحروب التي اندلعت –لو استثنينا فترة الفتوحات الإسلامية - ، والانقلابات كانت جهادا في سبيل الكرسي ، في سبيل الديكتاتورية.
يمكننا القول بكل بساطة أن معظم الحكام العرب ، أو الأنظمة الحاكمة العربية ، جاءت إلى كراسيها عبر انقلابات ، وفي أغلب الحيان فهي تنقلب على أنظمة انقلبت على أنظمة قبلها ، وأحيانا تأتي الأنظمة إلى كراسيها بعد ثورات ضد المحتل الغاشم ، لتجلس هي على كرسيه وعلى فمها ابتسامة واسعة ، وأحيانا تكون الأنظمة جمهورية ، لكن لو أعلنت أنها ملكية لكان أفضل ، حتى لو لم يكن الحاكم يملك أن يورث أبناءه لأمور خارجة عن إرادته ، فالكرسي التيفال ، والبطانة الفاسدة تؤمن له جنازة رائعة تليق بفخامته تنطلق من تحت كرسيه ، بفضل النسبة العربية الشهيرة 99.99 في المائة .
لورصدنا الصراعات على الكرسي في العالم العربي فهي كثيرة ، آخر صراع كان ذلك الذي حدث في الكويت بعد رحيل الملك جابر والذي انتهى بتنحي الامير الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح وتسمية الشيخ صباح الاحمد رئيس الوزراء اميرا، سبقه بأشهر قليلة الصراع أو الانقلاب الذي حدث في موريتانيا ، حين قرر الرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع السفر للمشاركة في تشييع جثمان العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز ، ليفاجأ أثناء وجوده في السعودية بانقلاب عليه.، لكن الانقلاب عليه ، والصراع على كرسي الحكم في موريتانيا ليس هو الأول فخلال ربع قرن جرى في موريتانيا خمسة عشر انقلابا عسكريا من بينها عشرة انقلابات فاشلة. الانقلاب الأول الناجح في تاريخ البلاد السياسي تم في العاشر من يوليو 1978 ، و خلال 6 سنوات شهدت البلاد ثلاثة انقلابات ناجحة وانقلابا آخر فاشلا، فبعد أن أطاح العقيد المصطفى ولد محمد السالك بنظام حزب الشعب اجبر أعضاء اللجنة العسكرية متزعم أول محاولة انقلابية في تاريخ البلاد على التنحي. استقال ولد السالك قبل أن يكمل سنة في القصر الرئاسي ليخلفه العقيد محمد محمود ولد لولي، الذي اضطر بدوره في انقلاب على انقلاب إلى ترك منصبه لرئيس الوزراء وعضو اللجنة العسكرية محمد خونا ولد هيدالة، قلم أظافره. جاء ولد هيدالة، وهو عقيد في الجيش يتحدر من الشمال إلى القصر ومعه عائلته، حاول خلالها ضباط تساندهم المغرب الإطاحة به، وفشلت المحاولة وأحيل الانقلابيون إلى محكمة عسكرية قضت عليهم بالإعدام و لم يمنع ذلك قائد الجيش الضابط معاوية ولد الطايع من الإطاحة به في انقلاب ابيض تم والرئيس يمثل بلاده في قمة لمنظمة الوحدة الافريقية في بوجوبورا عاصمة جمهورية بوروندي الواقعة في غرب افريقيا .أما أول انقلاب عسكري ، وصراع على الحكم حدث في دولة عربية فكان انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1937 الذي أطاح بحكومة الهاشمي المنتخبة على الرغم من بقاء الملك غازي في منصبه.وهناك الانقلاب الذي قاده العقيد حسني الزعيم في سورية في 30 مارس (آذار) 1949. ورغم مضي أكثر من 55 سنة على هذا الانقلاب، فإنه ما زال يلقي بظلاله على الحياة السياسية العربية حيث رسخ لشرعية الانقلابات. ففي عام 1949 حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية في سورية وحدها. وتشير الاحصاءات إلى أنه خلال الفترة من عام 1952 وحتى عام 1986 حدث حوالي 34 انقلاباً عسكرياً ناجحاً في العالم العربي، تمثل 23% منها في العالم الثالث، وأن 53% من الانقلابات ـ ناجحة أو فاشلة ـ كانت من نصيب العرب. وفي سورية وحدها وقعت حوالي 50 محاولة انقلابية منها 9 انقلابات ناجحة، وهو ما لم يحدث في أي دولة عربية أخرى.، ومن أشهر انقلابات سورية انقلاب العقيد الزعيم، وانقلاب سامي الحناوة في 14 (آب) 1949 وانقلاب أديب الشيشكلي في 19 يناير (كانون الأول) 1949 والانقلاب ضد الشيشكلي في 25 (شباط) 1949 والانقلاب ضد الوحدة والتي انفصلت فيها سورية عن مصر، وكان ذلك في 28 سبتمبر (أيلول) عام 1961 وانقلاب 28 مارس عام 1962 حيث بدلت حكومة بأخرى وانقلاب 8 مارس حيث جاءت بموجبه حكومة ضمت حزب البعث والناصريين وانقلاب 23 فبراير (شباط) 1966 ومحاولة انقلاب فاشلة من سليم حاطوم 8 سبتمبر 1966. ولو بدأنا من مصر فأول انقلاب كان بقيادة جمال عبد الناصر في 23 يوليو (تموز) 1952 ـ سمي ثورة فيما بعد ـ على الحكم الملكي بقيادة الملك فاروق، أسفر عن تحويل مصر إلى جمهورية برئاسة محمد نجيب . وفي عام 1954 قام عبد الناصر بتنحية محمد نجيب وأصبح هو رئيساً لمصر، ويمكننا أن نذكر قبل هذا أن (فاروق الأول) ملك مصر، غادر كرسي الحكم بعد أن حكم مصر منذ عام 1936م، وتنازل عن العرش بعد الثورة ، بالرغم منه ، لولده الملك أحمد فؤاد ووقع وثيقة التنازل في قصر رأس التين في 26 (يوليو) عام 1952م وغادر إلي إيطاليا علي متن الباخرة (المحروسة) وتوفي هناك عام 1965م ودفن في مسجد الرفاعي بالقاهرة ، أما الملك (احمد فؤاد) الذي حكم مصر بين 26 (يوليو) عام 1953م و18 (يونيو) عام 1953م، فقد تنازل عن عرشه بعد اعلان الجمهورية في التاريخ المذكور أما آخر تنازل عن الحكم فقد كان قرار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر (بالتنحي) عن منصب رئيس الجمهورية عقب هزيمة يونيو عام 1967م، لكنه عاد إلي منصبه بعد أيا ، وفي و15 مايو 1971 قام السادات بانقلاب سلمي ـ سماه حركة تصحيح ـ أطاح فيها بمن سماهم الحرس القديم التابع لجمال عبد الناصر .
في ليبيا، قام العقيد معمر القذافي في الفاتح من سبتمبر عام 1969 بانقلاب أبيض على الملك محمد ادريس السنوسي، وألغى الملكية والدستور وأعلن الجمهورية، وحكم البلاد مجلس قيادة الثورة بعد أن حل المجالس الاقليمية ، ولا يزال يحكم حتى اليوم ، أما السودان فبعد أن حصل على استقلاله عام 1956 تحت نظام حكم مدني برئاسة اسماعيل الأزهري وعبد الله خليل رئيساً للوزراء، أطاح انقلاب عسكري بكرسي الجنرال ابراهيم عبود وظل الحكم العسكري قائماً حتى أطاحت به سلسلة من الاضرابات والمظاهرات أجبرت عبود على التنازل عن مقعده وتولي الصادق المهدي (حزب الأمة) رئاسة الدولة، ومحمد أحمد المحجوب (حزب الاتحاد) وفي 25/5/1969 أطاح انقلاب عسكري بقيادة جعفر نميري بالحكم المدني وأقام حكماً عسكرياً حتى عام 1985 عندما أطاح به عصيان مدني جعل الجيش بقيادة الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب يتدخل ويعزل نميري ويقيم حكماً انتقالياً برئاسته لمدة سنة واحدة. وفي عام 1989 أطاح انقلاب عسكري بقيادة عمر البشير بحكومة الصادق المهدي. وفي 24/9/2004 أعلنت وزارة الداخلية السودانية أنها أحبطت محاولة انقلاب دبرها حسن الترابي ضد الحكومة عقب صلاة الجمعة، وذلك بعد اعلانها أيضاً عن احباط انقلاب آخر للترابي وحزبه المؤتمر الشعبي في 29/4/2001.
في الجزائر جاء فرحات عباس إلى الحكم عام 1962 عبر انقلاب عسكري، ثم جاء أحمد بن بيلا عام 1963 بانقلاب آخر، وفي 19 (حزيران) 1965 تزعم قائد جيش التحرير هواري بومدين انقلاباً عسكرياً أطاح بأحمد بن بيلا ، وفي العراق، قاد عبد الكريم قاسم عام 1958 انقلاباً عسكرياً عجل بسقوط الملكية بعد أن قتل الملك فيصل الثاني وخاله عبد الاله ورئيس الوزراء نوري السعيد ثم أعلنت الجمهورية، لكن حزب البعث في 8 فبراير 1963 قاد انقلاباً على عبد الكريم قاسم، وأصبح عبد السلام عارف الذي لم يكن بعثياً رئيساً للعراق، وفي 17 يوليو 1968 قاد حزب البعث بالتنسيق مع بعض العناصر غير البعثية انقلاباً ناجحاً بقيادة أحمد حسن البكر الذي أصبح رئيساً جديداً للعراق إلا أنه أجبر عام 1979 على الاستقالة ليخلفه صدام حسين. وفي لبنان، وقعت حالات عديدة للانقلابات والعزل بالقوة، أشهرها ضد فؤاد شهاب بقيادة الضابطين شوقي خير الله وفؤاد عوض وبمساندة الحزب السوري القومي الاجتماعي لكنها باءت بالفشل. وفي اليمن عام 1948 قاد عبد الله بن أحمد الوزير، وهو من الأشراف الهاشميين ثورة مسلحة على أسرة الأئمة الزيديين، وتولى الحكم، لكن أسرة الإمام استعادت الحكم بعد فترة لم تتجاوز الأسابيع الثلاثة. وفي عام 1955 استولى على العرش عبد الله بن يحيى شقيق الإمام أحمد ولكنه استعاد العرش بعد خمسة عشر يوماً. وتعرض أحمد لمحاولة اغتيال عام 1961 نجا منها لكنه أصيب إصابات بالغة، توفي على إثرها عام 1962 وخلفه ابنه الإمام محمد البدر الذي لم يمكث في السلطة سوى 8 أيام فقد أطاح به انقلاب عسكري بقيادة عبد الله السلال الذي أعلن الجمهورية والذي عزل بالقوة عام 1967، كما عزل خلفه عبد الرحمن الإيرياني عام 1974. وفي جزر القمر، قاد أحمد عبد الله انقلاباً عسكرياً مدعوماً من فرنسا وجنوب أفريقيا عام 1978 واستولى على الحكم، لكنه اغتيل عام 1989 على يد محمد جوهر الذي بقي على رأس السلطة حتى عام 1995 وهو العام الذي حدث فيه انقلاب أطاح به بقيادة المرتزق الفرنسي بوب رينارد ولم ترض الحكومة الفرنسية عن انقلاب رينارد، فحركت بعض جنودها في أكتوبر عام 1996 وألقت القبض عليه ونظمت انتخابات استطاع تقي عبد الكريم الفوز بها. وفي عام 1999 قاد الكولونيل عثمان غزالي انقلاباً عسكرياً هدف منه إلى اعادة توحيد الجزر الثلاثة. وفي سلطنة عمان عزل السلطان سعيد والده تيمور عام 1932 وظل يحكم حتى عام 1970 عندما عزله ابنه قابوس الذي يحكم عمان حتى اليوم.
يمكننا قبل هذا أن نذكر الاستثناءات الطفيفة ، ففي 17 يوليو الفائت أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح عزمه على عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في سبتمبر من العام الجاري ، وقال في كلمة ألقاها أمام حشد من رجال الدولة وقادة الأحزاب والتنظيمات السياسية ورؤساء البعثات الدبلوماسية في اليمن في احتفال في ذكرى مرور 27 على توليه الحكم: لن أترشح في الدورة الانتخابية الرئاسية القادمة المقررة في سبتمبر من العام المقبل ، و" أدعو الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى اختيار الكفاءات والشباب من الوطنيين الشرفاء لأن الوطن مليء بالكفاءات من الشرفاء ويحتاج إلى دماء جديدة " ، كما قال في مجال آخر " كرسي الحكم نار لمن لا يشعر بالمسئولية " ، ويبدو على عبد الله صالح استثناء في الآونة الأخيرة فالحكام العرب لا يقومون من أماكنهم إلا بالاحتلال كما حدث في العراق، وما آل إليه مصير صدام حسين أحد أهم أسبابه عشق الكرسي التيفال .
منذ فترة حدث شيء يشبه هما فعله علي عبد الله صالح حينما حدث انقلاب على جعفر نميرى وأُنيطت السلطة بثنائي عسكري ـ مدني هو الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب والجزولي دفع الله. وعندما تعهَّد هذا الثنائي بتسليم الوديعة إلى الأحزاب بعد فترة انتقالية لا تتجاوز السنة الواحدة ورغم غرابة الوعد ، إلا أن الذي حدث مع انتهاء اليوم الأخير من المدة المحددة هو أن سوار الذهب قال لزعماء الأحزاب السودانية " ان الشعب ترك في عهدتي أمانة وها أنا أعيدها اليكم. ، حدث ما يشبه هذا أيضا حين تولى نجيب ميقاتي رئاسة لبنان، و قال انه لن يرشح نفسه للانتخابات ، وبقي اللبنانيون في حال من الترقب إلى حين تم تحديد مواعيد الانتخابات ولم يرشح ميقاتي نفسه . ما يلفت الانتباه في كل ما مضى أن الحكام في العالم العربي يبذلون قصارى جهدهم في الوصول إلى الكرسي الذي يصبح في كثير من البلدان بعد وصولهم رمزا للديكتاتورية والتعفن السياسي و عدم القدرة على إدارة الأمور ن رغم أنهم يصلون إلى هذه الكراسي بعد صراع مرير انقلابا كان او صراعا داخليا أو حربا ضد المحتل ، أو ، وبعد شعارات كبيرة مرفوعة من قبيل " في سبيل الشعب والوطن و تداول السلطة " ، وبمجرد أن يصلوا يتخلوا عن كل هذا ليبدءوا في تثبيت أقدامهم هم ، ما لفت انتباهي خلال بحثي في رحلة الحكام العرب خلال النصف قرن الأخير إلى مقاعدهم ، أنهم يأتون إليها في الأغلب بالقوة ،وبالرغم من إرادة الشعوب في رحلات تضارع رحلات سندباد في بلاد واق الواق رافعين شعار الجهاد في سبيل الكرسي ، وأنهم يرحلون منها أيضا بالقوة عبر انقلابات أبناءهم وتلاميذهم عليهم ، أما الشعوب ، فلها الله
.

دم شعري هادئ



هذا مقال نشره الروائي الجميل محمد العشري
في جريدة النهار عن ديواني الأخير قوم جلوس حولهم ماء
في جريدة النهار اللبنانية
يوم الأربعاء 14 يونيه 2006
وأعاد نشره في مدونته
قــــوم جــــلوس حــــــولــهـم مــــاء
لمــحـــــمــد أبـــــو زيــــد
دم شــــعــري هــــادئ
الدم الشعري الهادىء الذي يكتب به الشاعر المصري الشاب محمد أبو زيد قصائد ديوانه الجديد، "قوم جلوس حولهم ماء"، الصادر منذ أيام لدى "دار شرقيات للنشر"، بعد مجموعتين شعريتين، "ثقب في الهواء بطول قامتي" في 2003، و"نعناعة مريم" في 2005، يبث في القارىء حالاً من الهدوء النفسي، ويجعله يجلس بلا حراك، متأملاً أجواء القصائد القريبة من متناول يده، يداعبه صوت سردي، هو في الغالب "موقت"، لأنه غير قادر على فعل شيء، سوى أن يستسلم للحزن. يتقمص دور الراهب، ويحوّل زهده ونسكه قصائد، تطير مع الروح، تاركة الجسد بلا حياة: "حزين لأني لا أبرىء الأكمة/ ولا الأبرص ولا أحيي الموتى/ لا أخبىء الديناصورات في حقيبتي من العواصف/ ليس لي جيوب أربي فيها المطر/ ولا عيون أعيرها للعُمي". يقسم أبو زيد ديوانه ثلاثة نطاقات شعرية، في النطاق الأول: "كأننا والماء من حولنا"، يجرب أن يمسك باللحظة الراهنة، ويمزج ذاته فيها، يحركها ويوجهها أينما شاء، محاولاً القبض على الشارد منها، وإرغامه على ارتداء القصيدة من دون أن تفلت منه جزالة الشعر، وهي قصائد تختلف تماماً في مضمونها ومحتواها عن قصائد النطاق الثاني من الديوان، "جثث قديمة"، والتي ألبسها الشاعر ثوب الماضي، واعتبرها من الأموات، حين تهب عليه رائحتها من وقت الى آخر، يغض الطرف عنها، ويواريها التراب. لذلك لا ينسى أن يضع عليها شاهد قبرها، وتاريخ موتها، فيذيلها بالتاريخ (1999 - 2000). على عكس القصائد الأولى، التي تسكنها الرغبة في اقتناص الحياة، وممارستها بكل نزقها، وإن كانت بعيدة المنال: "أقول لكم/ منذ ثلاثة أيام أريد أن أبكي/ لكنني تحجرت/ ولم أعد أميز بين التوائم". لكن الرغبة شيء، والفعل أو الإقدام عليه شيء آخر، سنجده يقف متحجراً، عاجزاً بلا أطراف تحمله خارج صمته. يجرب محمد أبو زيد في قصيدة "فستان حمل لسيدة شبه متزوجة"، أن يجلس في قلب المشهد، يزرع عينيه في تفاصيل دقيقة، تبدو بلا ملامح للوهلة الأولى، يتفحص حال السيدة، التي مات زوجها في الغربة. وهنا أظن أن القارىء سيقف ليتساءل من أين يأتي الشعر؟، وهل يخلق الموت ملائكته؟، وقبل أن يخرج من باب التساؤل، يدرك أن لا شيء يحدث بترتيب مسبق. فقط تتوارى المرأة في خلفية القصيدة: "سافرت/ تاركة خلفها/ ثلاجة كريازي/ ونقوداً مستوردة/ ومحبة مصابة بالسكر"، لتصبح القسوة عاملاً مهماً في تشكيل أعمدة القصائد، وتزداد الذات الشاعرة تفتتاً وانقساماً، بين رغبتها في الخروج من أزمتها، وصراعها من أجل أن تتمسك بروح إنسانية، تمنحها القدرة على تذوق طعم الحياة، من دون أن تتحول إلى ملاك: "لم نعد بشراً بما يكفي/ سنصطدم/ في زحفنا بالدمامل والقيح". في هذا النطاق يكشف أبو زيد عن الوجه، الذي حرره من انغلاقه على نفسه، ومنحه الرغبة في الجموح، والقبض على الجذوة مشتعلة. إنها ميرفت عبد العزيز، وسيتساءل: "كم جناحاً لك يا ميرفت"، وسيتساءل الأشرار عنها، ويتبعون خطاها المنقوشة بحذاء سندريلا الأحمر، في ممرات الأوبرا، ومسرح الهناجر، وشارع وادي النيل، وأفلام يسري نصر الله: "لم ينادوها يوماً (يا ميرفت)/ وكنت أسميها المائية/ قلبها يبين تحت البلوزة/ به شوارع وآباء يتامى/ ومراكب من أوراق الصحف". هكذا يعرّفها لهم الشاعر في نهاية قصيدتها: "التي نادتها إيزابيل الليندي/ يا بولا" .في قصائد النطاق الثاني، "جثث قديمة"، بنى محمد أبو زيد قبوراً للأرواح التي تتلبسه وتهيمن عليه، أو لروح الشاعر القروي المتصادمة مع المدينة، وحالة العزلة التي تتقمصه وتطبق عليه بشراسة، ليذكّرنا بقصائد صلاح عبد الصبور في "الناس في بلادي - 1957"، وأحمد عبد المعطي حجازي في "مدينة بلا قلب -1959"، مع اختلاف واضح بين مفردات جيلين شعريين وثقافتهما، يفصل بينهما ما يقرب من نصف قرن، تبدلت الحياة تماماً، وأمعنت الروح الشاعرة في غربتها وتشظيها: "فقط أريد أن أشتري/ بعض الخبز لفمي/ وبعض التثاؤب/ كي أستطيع أن أرقد/ على أرصفة/ لا تشتهي العصافير".يترك أبو زيد مساحة واسعة للهذيان، في النطاق الثالث للديوان، "سوف أهذي"، ليفتح مجالاً لأن تتحقق رغبته العارمة في ممارسة الحياة بحب، من خلال تحرر الروح والجسد، على الأقل في داخل القصيدة، ليخلق عالماً متوازناً، يحتل فيه الموت صدارة المشهد الشعري، في ما يواجهه الشاعر من أزمات، مثل: قصة الحب الفاشلة مع ميرفت، بعدما هيأت كل حواسه للحياة، وتركته وحيداً يقتات الذكرى، ويمارس حبه الشارد في جسد القصائد: "تذوقت لسعة الحب/ وثقبت قلبك/ حتى تفرغه تماماً من النبض". ويلقيه تحت قدميه جثثاً بلا روح، حتى أن البعض ينادونه في الشارع "يا ميت"، فتدرك الذات الشاعرة أن أزمتها مع نفسها، فتحاول أن تستعير من الشعر جناحيه، كي تتجاوز محنتها، ويعصر الموت ويقطر منه بعض قطرات مياة، يبلل بها مساراته، وفضاءه الواسع، وإلا لماذا إذاً يكتب الشعر؟
//
محمد العشري

13‏/06‏/2006

بعد بكره


الحاجة الوحيدة اللي بتمناها دلوقتي
إني أصحى بعد بكرة العصر
ملقاش كوبري قصر النيل
ولا الأوبرا
ملقاش شوارع وسط البلد
ملقاش العربيات ولا الكباري ولا زهرة البستان
ولا الاتيليه
ولا جروبي
ولا عم رمضان بتاع الجرايد
ملقاش البلكونات
ولا مشابك الغسيل
ولا هدوم بتنقط حزن
ملقاش الشارع
ولا البقال
ولا بتاع الطعمية اللي ماعرفشي اسمه
ولا البيت
ولا أوضة نومي
ولا سريري
ملقاش كتبي ولا ورقي
ولا اقلامي
ولا القصيدة دي
ملقاش محمد أبو زيد

بيب بيب .... أنابيب


ولد صغير ، يركب عربة ربع نقل مليئة بأنابيب الغاز ، تلف شوارع المدينة ، لا يفعل شيئا سوى أن يخبط بمفتاح انجليزي يحمله في يده على الأنابيب ، وهو صامت ، يتوقف السائق قليلا عندما يسمع صوت إحدى السيدات ينادي عليه "معاك أنابيب " ، يقوم الولد فور أن يسمع السيدة بإنزال أنبوبة يتوجه بها إليها .
ولد صغير ، في الصف الثالث الإعدادي ، يحلم أن يحصل على مجموع هذا العام ليؤهله لدخول الثانوية العامة كي يستطيع أن يرتاح قليلا من حمل أنابيب الغاز الثقيلة على كتفيه والدخول بها إلى البيوت وصعود السلالم إلى الأدوار العليا .
ولد صغير ، لا يحب الأغاني ، لكنه كان سعيدا جدا عندما بث التليفزيون أغنية من فيلم " حاحا وتفاحة " لريكو ، يغني فيها لبائع الأنابيب ، ساعتها ابتسم ، وأحس أن ريكو يغني له ، قال هذا لأمه في البيت ، فضحكت دون أن تعلق ، وراقبت فرحته ،وهي تتسمع أثناء وجودها في المطبخ صوتي ريكو وياسمين عبد العزيز وهما يصيبحان بالأغنية .
أحمد ، وهذا هواسمه ، حكى لي انه يعيش مع والدته ، بعد رحيل والده منذ أربع سنوات ، في أحد شوارع منطقة الطوابق بفيصل ، يدرس في الصف الثالث الإعدادي ، لكنه بعد أن يعود من مدرسته ، يخرج مع ابن عمه ، ليبيعا الأنابيب " ماهو لازم أشتغل عشان أساعد أمي في البيت " يقول أحمد ، ويضيف " ليس لنا مورد دخل آخر سوى معاش تركه والدي قبل أن يرحل ، لذلك عندما عرض على عصام – ابن عمه – العمل معه لم أرفض ، ووافقت امي أيضا مباشرة "
" انابيب ، بيب ، بيب " ، يدندن الولد الصغير بهذه الكلمات وهو يسير في الشارع وهو ذاهب إلى مدرسته ، الجميل ، أنه أصبح يغنيها وهو فوق عربة بيع الأنابيب ، وهويخبط بمفتاحه فوق الأنابيب المتراصة ، أصبح يغنيها وهو داخل البيت ، ينتظر عرضها في التليفزيون ،ويجلس أمامها ، يشعر أنها أغنيته الخاصة ، التي يبثها التليفزيون من أجله هو وحده ، ويقول : تسري عني في اوقات الشدة ، ونحن نلف بالعربة في الشمس .
" أنبوبة للمحبة ، أنبوبة للغرام ، اللي هياخد مني واحدة ، هيشغل السخان ، اللي هيصحى النوبة ، يصحى من الغيبوبة ، و اللي واقف مستني ، معلهش غصبن عني ، فيه أزمة في الأنابيب " حسبما حكى لي أحمد ، فإنه وعصام يحضران الانابيب من المستودع ، يقول نشتريها بنصف السعر الذي نبيعها به تقريبا ، لكن من ثلاث سنوات حين بدأت العمل مع عصام كان الشغل أكثر ، دلوقتي الناس كلها دخلت غاز ، ولم يعد إلا مجموعة قليلة من الناس تشتري أنابيب ، ما يسعد أحمد هو أن يزيد مكسبهم ، عندما يقل عدد الأنابيب في السوق ، ويتضاعف سعرها ويقول : في هذه الحالة يعطيني عصام ثلاثين جنيها في اليوم الواحد ، أي ضعفي أجري اليومي .
" والنبي يافوزي ، وحياتك يا فوزي ، اديني بمبة ، ماتكونش يافوزي ، قديمة يافوزي ، بتنفس يافوزي ، وتولع يافوزي ، من تكة واحدة " ، رغم أن اصحابه في الشارع ينادونه أحيانا " يا فوزي " إلا أنه لا يغضب منهم ، ربما لأنه يحب الأغنية ، لكن أحمد يتمنى أن يدخل كلية " محترمة " على حد تعبيره ، حتى يستطيع ان يريح أمه ، وأن يرتاح قليلا من حمل الأنابيب على كتفيه ، وحول إذا ماكانت الأنابيب يتعبه حملها ، يقول : في البداية ، منذ ثلاث سنوات عندما اشتغلت في المهنة وكنت صغيرا ، كنت أتعب من حملها ، عصام كان يحملها أحيانا ، ويتركني أحرس العربة ، وكان من يأخذون الأنابيب أحيانا يشفقون علي ، لكن مع الوقت تعودت عليها ولم أعد أهتم بوزنها ، وأضاف : " كتر الحزن يعلم البكا " .
احمد يحمل داخله أحلاما كثيرة ، و يقف كثيرا أثناء سير العربة به فوقها ليشعر أنه طائر ، يحلق نحو مدينته الخاصة ، طائر يحب أن يغني ، حتى ولو كانت الأغنية " أنابيب بيب بيب "

11‏/06‏/2006

البستاني الذي اسمه القلب









الشجرة التى زرعتها
بجوار مقهى التكعيبة
لتظلل على القصائد اليتامى :
( القصائد التى تخرج من أفواه الشعراء الجوالين ،
ثم يتركونها تنام على الأرض ،
بجوار المتسولين .
دون أدنى إحساس بالأبوة )
هذه الشجرة
نبتت – بينما كنت أكتب – فى قلبى
وأصبحت أسير فى الشارع
بشجرة ممدودة أمامى ..
كذراع هتلر
تتدلى منها ألسنة تلقى القصائد
وأيدى تلوح
ومجانين يغنون
ومشانقه ساذجه
أصبح الاولاد ينادونى فى الشارع
- كلما مررت خلسة - :
الولد أبو شجرة نابتة فى قلبه
النقاد فى المقهى قالوا : الشجرة قصائدها كلاسيكية
النقاد الكلاسيكيون قالوا : هو يقصد – طبعا الحبيبة
، لا بل الوطن
أليس كذلك يا محمد ؟
أخفى أصدقائى ألسنتهم فى أفواههم أمامى
تركونى وحدى
كلما مررت على عصفورة أقول لها تعالى :
قفى هنا ، وادع أصحابك على حسابى
كلما مرت على سلحفاة أربت على ظهرها حتى تسعل
كلما جئت أنام
لا استطيع التقلب حتى لا أكسر أغصانها
لم يعد بإمكانى احتضان أحبتى
ولا المرور فى الشوارع الضيقة
ولا ركوب الاتوبيس
أصبحت تصا فح أصدقائى بدلا منى
وتحادثهم
وتؤلف ، وتكتب الآن بدلا منى
تحاسب على الشاى فى المقهى
، لأن يدها أطول ،

( الشجرة عندما تقرأ هذه القصيدة ستقول : لم أقصد إيذاءك يا محمد
صدقنى لم أقصد)

كبرت الشجرة ، وتضاءلت أنا
ثم أصبحت أسير أفقيا
الأصح : جسدى يزحف على الأرض كسحلية ، بينما
الشجرة أخذت شكلا عموديا
مع مرور السنين
- أدرك ذلك -
سأصادق ديدان الأرض
وعجلات السيارات المركونة ، والأحذية القديمة
حتى يأكل التراب جسدى
فقط
ستبقى شجرة وحيدة عالية ، وجلة
- نسيتها ومت –
من جرافة ستنظف الشارع

10‏/06‏/2006

دموع من أجل حنظلة



ليه يا بنفسج تبتسم وانت زهر حزين

أمّاية... وانتي بترحي بالرحي.. علي مفارق ضحي.. وحدك وبتعددي علي كل حاجة حلوة مفقودة... ماتنسينيش يامّه في عدودة.. عدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن... لا تولولي فيها ولا تهللي.. وحطي فيها اسم واحد مات، كان صاحبي يامّه.. واسمه ناجي العلي.
بهذه الأبيات يفتتح عبدالرحمن الأبنودي ديوانه الشهير «الموت علي الأسفلت» بها أيضا يرثي أشهر رسام كاريكارتير عربي ناجي العلي لم يكن «ناجي» مجرد رسام كاريكاتير يدبج كل يوم «نكتة» ليضحك القراء مثلما نري في غالبية مجلاتنا وجرائدنا من رسامينا، كان ناجي مناضلا بالأساس يتلقي التهديد تلو التهديد بالقتل ويوم هددوه بحرق أصابعه رد عليهم قائلا: «يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع قدمي» حتي تعريفه لفن الكاريكاتير لم يكن اعتياديا كان هكذا يجب علي الرسام أن يحك عقل القارئ، فن الكاريكارتير يجب أن يكون عدوانيا علي موضوعاته علي وجه الخصوص قد يكون صديقا حقيقيا مع الذين يتعاملون معه لكنه صديق مشاكس لا يؤمن جانبه.
وتحول ناجي العلي بعد اغتياله في صيف 1987 في لندن وهو في طريقه إلي عمله متأبطا ورقة إلي ما يشبه لعنة الفراعنة، وكأنه لم يكتف بأن ظل طوال حياته مطاردا متنقلا، لاجئا كبيرا يبحث عن الوطن في عيني طفله الصغير «حنظلة» الذي يطل من لوحاته. هذه اللعنة تمثلت في الهجوم الشرس الذي تعرض له عاطف الطيب والفنان نور الشريف عقب قيامهما بإخراج وتمثيل فيلم «ناجي العلي» واستبعادهما المتعمد. تمثلت اللعنة في وقف الكتاب الذي ألفه شاكر النابلسي بعنوان «أكله الذئب، السير الذاتية للرسام ناجي العلي» وتناول فيه قصة اغتياله الشهيرة ثم منع رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات إعادة طبع الكتاب مرة أخري عام 1999 وتوجيهه تحذيرا إلي المؤسسة المصدرة للكتاب «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» من إعادة طبع الكتاب وإلا سيدفع بالسلطة الفلسطينية إلي منع إصداراتها ومطبوعاتها من الدخول إلي المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية والتوقف عن دفع المستحقات التي بذمة السلطة لصالحها، هذه اللعنة تمثلت في غضب الأنظمة العربية بشتي مللها وأنواعها علي ناجي واعتباره مارقا، لكنه لم يكن مارقا في الحقيقة، لم يكن كذلك أبدا وإنما كان يقول «أنا أرسم ولا أكتب أحجبة ولا أحرق بخورا، وإذا قيل إن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت به طويلا، كما أنني لست مهرجا ولست شاعر قبيلة، أي قبيلة أنا أرسم لفلسطين».
< عين الحلوة
ولد ناجي سليم حسين العلي في قرية «مباركة»، ولد حيث كانت ولادة المسيح بين طبريا والناصرة، في الشجرة بالجليل الفلسطيني الأعلي عام 1936 لكنه لم يمكث فيها كثيرا وخرج منها عام 1948 مع الاجتياح الإسرائيلي، ومع سقوط الجيوش العربية وعدم قدرتها علي الدفاع عن فلسطين، ومنذ ذلك الحين لم يعرف ناجي الاستقرار حيث عاش لجوءه الأول في مخيم عين الحلوة بلبنان الذي أقامه المهاجرون الفلسطينيون وفيه نشأ ناجي الذي لم ينل من تعليمه النظامي غير المرحلة الابتدائية فقط في مدرسة «اتحاد الكنائس المسيحية» وحاول أن ينتظم في عام 1959 في أكاديمية أليكس بطرس للفنون في بيروت لتعلم فن الرسم إلا أنه لم يفلح في ذلك حيث كان طالبا مسجلا لمدة عام ولكن لم يداوم ولم ينتظم فيها أكثر من شهرين بسبب اعتقاله ست مرات خلال هذه السنة لأسباب سياسية تعود إلي انتمائه لفكر «حركة القوميين العرب» وتوزيع منشوراتهم والاشتراك في مظاهراتهم ومهرجاناتهم والرسم ضد السلطة علي جدران المخيم، واتجه ناجي صغيرا نظرا للظروف المعيشية إلي العمل كعامل بسيط في بساتين الحمضيات والزيتون، ولكن وجده عملا مملا وآثر أن يرحل إلي طرابلس ليتعلم مهنة يكتسب منها قوت يومه فالتحق بمدرسة مهنية هناك وتعلم الميكانيكا ومنها سافر للسعودية ليعمل ميكانيكيا لمدة عامين.
لكن حب ناجي للرسم بدأ معه قبل ذلك بدأ مبكرا جدا وشهدت جدران مخيم عين الحلوة محاولاته الأولي حيث كان يقضي أوقات فراغه في الرسم العبثي علي قصاصات من أوراق الكراسات المدرسية وإذا لم تتوفر له هذه القصاصات يرسم علي الجدران بشظايا الفحم الخشبي وشيئا فشيئا بدأ وعيه السياسي يتشكل من خلال علاقته بمحيطه البائس فوجد نفسه مجبرا علي رسم هموم شعبه ومأساته وأول محاولة شبه جادة في عالم الكاريكاتير لناجي العلي في الرسم الساخر كانت في السجن وكان الرسم بمثابة لغته التنفيسية الوحيدة له بين القضبان وكان يرسم علي جدران الزنزانة وأحيانا علي ورق الأكياس التي تتوافر له من خلال إدخال بعض الحاجات الغذائية.
أستاذه الأول والذي أطلق جذوته الإبداعية إلي العالم هو الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي اكتشفه بالمصادفة حين كان كنفاني يقوم بجولة من جولاته الدورية في مخيم عين الحلوة وهناك شاهد لوحات ناجي العلي وأعجب بها وأخذ معه ثلاث لوحات منها بين أوراقه التقطها من علي الجدار الذي يعلق ناجي لوحاته عليه ومضي وبعد فترة وجيزة شاهد ناجي لوحاته منشورة في جريدة «الحرية» التي يترأس تحريرها كنفاني، ويقول ناجي العلي عن هذه الفترة: المرحوم غسان كنفاني هو الذي اكتشفني وهو الذي قدمني للإعلام ففي إحدي زياراته الدورية لمخيم عين الحلوة وقع علي ثلاثة رسوم وضعها تحت إبطه ومضي وبعد فترة فوجئت بها منشورة في مجلة «الحرية» ولم تصدق عيناي ما رأتا ولا كذلك قلبي الذي أخذ يتراقص فرحا بهذا الإنجاز الكبير، شعرت بعد ذلك أن غسان كنفاني هو أب من نوع استثنائي خاص، أب للإبداع يكتشفه ويقدمه ويشجعه علي المضي في المغامرة.
وواصل كنفاني تبنيه لناجي العلي فتوسط له عام 1963 للعمل في مجلة «الطليعة الكويتية» لسان حال القوميين العرب في الكويت آنذاك وقد استقبل ناجي هذا العمل بحفاوة وتحولت «الطليعة» إلي همه الأساسي التي من خلالها يمارس هوايته ويقول رأيه وأصبحت منبره ا لأسبوعي لمخاطبة قرائه ثم تنقل ناجي بعد ذلك إلي عدد من المراحل الفنية ارتبطت بجرائد عربية شهيرة بدأها بمرحلة جريدة «السفير» اللبنانية «1974 ـ1976» و«1978 ـ 1983» ومرحلة جريدة «القبس» الكويتية «1983 ـ 1985» وأخيرا مرحلة جريدة «القبس الدولية» «1985 ـ 1987» والتي قضاها بلندن بعد أن ضغطت منظمة التحرير ودولة خليجية أخري علي الحكومة الكويتية لإخراج العلي من أراضيها وهو الإبعاد الذي اعتبر فيما بعد مقدمة لتصفيته جسديا.
< خبزنا اليومي
أتذكر ناجي العلي فأتذكر علي الفور القصيدة الشهيرة لبيرم التونسي «ليه يا بنفسج بتنهج وانت زهر حزين» هو الرجل الضاحك، رغم آلامه، هو الذي يفجر كاريكارتيره الدموع في الأعين بدلا من الضحكات، أتذكره فأتذكر مقولة محمود درويش عنه: «أغبطه كل صباح، أو قل إنه هو الذي صار يحدد مناخ صباحي، كأنه فنجان القهوة الأول يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها فيدلني علي اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد الذي سيعيد طعن قلبي، خط، خطان، ثلاثة ويعطينا مفكرة الوجع البشري، مخيف ورائع هذا الصعلوك الذي يصطاد الحقيقة بمهارة نادرة كأنه يعيد انتصار الضحية في أوج ذبحها وصمتها، إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، فلسطيني واسع القلب، ضيق المكان سريع الصراخ وطافح بالطعنات وفي صحته تحولات المخيم.
ويقول درويش: «احذروا ناجي فالكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم أنه لا يأخذ المخيم إلي العالم ولكنه يأسر العالم في مخيم الفلسطيني ليفيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره، ناجي لا يقول ذلك ناجي يقطر يدمر، ويفجر ودائما ما يتصبب أعداء».
هذا هو ناجي العلي.. أم ترانا في حاجة إلي معرفة ناجي العلي أكثر، ربما تبدو شخوصه التي اختارها علامة واضحة للوحاته أفضلمن يتحدث عنه. ومن ينسي الصبي الصغير حنظلة؟! الصبي الذي يقف ويعطينا ظهره ويداه مشتبكتان ينظر إلي كل هذا الظلم كل هذا القبح الذي تعج به الدنيا، قميصه مرقع، وشعره كأنه الشوك، كأنه الصبار الذي مرر حياتنا ومنحه اسمه «حنظلة».
ولد حنظلة لأول مرة في الكويت عام 1969 في السياسة الكويتية، ولم يطلب به ناجي الشهرة أو التميز عن باقي الفنانين بقدر ما طلب أن يحكي به عن نفسه، عن همومه عن لجوئه فحنظلة مثله أيضا ينتمي إلي مخيم عين الحلوة رسمه صبيا في العاشرة من عمره واختار أن يكون طفلا ليعبر عن الأمل الذي قد يكون قادما يحمل الوطن معه، وأسماه حنظلة ربما ليعبر عن المرارة التي نعيشها ويعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي بداياته قدمه ناجي صبيا فتيا مقاتلا متفاعلا فتارة يكون شاعرا وتارة يكون جنديا وفي مستوي آخر فإنه في الفترة الأخيرة من حياة ناجي قدمه بصورة مغايرة تماما وذلك بعد حرب 73 فقد أدار حنظلة ظهره للقراء وتشابكت يداه الصغيرتان معا خلف ظهره.
لكن الأكيد أن حنظلة كان يعبر عن ناجي نفسه فقد خرج ناجي من مدينة الناصرة وهو في سن حنظلة وعاش تجربة المخيم وبدأ وعيه السياسي والحياتي يتفتح علي التوق إلي الحرية وحين قدمه للقراء قدمه علي أنه هويته ويعرفه بقوله «اسمي حنظلة» واسم أبي «مش ضروري»، أمي اسمها النكبة.. جنسيتي أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش كويتي، مش مصري، مش حدا... إلخ.. باختصار معيش هوية ولا ناوي.. محسوبك إنسان عربي لهجته مصرية وفلسطينية وسودانية.. وما سبق ربما يبدو تعبيرا عن أفكار ناجي نفسه وليس أفكار حنظلة وحده.
من الشخصيات التي قدمها ناجي في لوحاته شخصية فاطمة الفلسطينية المكافحة والتي رسمها مستلقية علي ظهرها قرب قبة الصخرة وهي حبلي إلي حد الانفجار ومقيدة القدمين بأنبوب نفط.
< اغتيال
تذكروا جيدا يوم 29 أغسطس 1987 ففيه مات ناجي العلي فيه خرجت جميع المجلات العربية والأجنبية تنعيه وتبكي عليه ما عدا مجلة «الكرمل» التي كان من مؤسسيها فلم تذكر رحيله بكلمة.
لكن البداية لم تكن هكذا كانت حوالي الساعة الخامسة وثلاث عشرة دقيقة ظهر أربعاء يوم 22 يوليو 1987 حينما كان ناجي يتأبط رسومه متجها إلي مكان عمله في لندن حيث جريدة «القبس الدولية» كان ناجي يسير في شارع أكزويرت بليس، أ.س.دبليو 3، ثم مشي في شارع درايكوت أفتيو، ثم انطلق في شارع إيفز في وسط لندن حيث تقع مكاتب القبس، وروي أحد زملائه في الجريدة أنه رأي ناجي وهو يسير باتجاه المبني من نافذة غرفته المطلة علي الشارع حيث كان يتبع خطاه شاب شعره أسود وكثيف يرتدي سترة من نوع «الجينز».
لونها أزرق فاتح من طراز «دينيم» وبعد ذلك بثوان عدة سمع دوي نار نظر علي إثره من النافذة فوجد ناجي ملقي علي الأرض، في حين شاهد الشاب الذي كان يتعقبه يلوذ بالفرار إلي جهة مجهولة من شارع «إيفز» الضيق.
اخترقت الرصاصة صدغ ناجي الأيمن وخرجت من الأيسر، وسقط ناجي علي الأرض، ظلت دماؤه تنزف قبل نقله إلي المستشفي التي مكث بها 38 يوما يصارع الموت.. لكنه لم يستسلم للموت إلا بعد أن عرف صعوبة نقله إلي قبر والديه في مخيم الحلوة.. عندها استسلم للموت ورقد في القبر رقم 0230190 في لندن.
يموت ناجي العلي.. لكنه يترك خلفه 40 ألف كاريكاتير يسخر فيها من أنظمة الحكم العربية، ومن الوعود التي تمنحها أمريكا، ويترك حنظلة واقفا حافي القدمين يعطينا ظهره ويتطلع إلي الأفق لعله يري فجرا قارب علي الوصول ولعله يقرأ الأبنودي مرة أخري وهو يرثي صاحبه «أهلي ولا أهلك.. ولا أهلك ساعات أهلك، ماتحكيليش ع اللي قتلك مش حاخدلك تارك ، ما أملكش غير أحسدك خالص علي قتلك، قتيل في غربة بيفرق عن قتيل الدار، يا ماشي للنور ومش ماشي علي مهلك.. وإحنا خطاوينا يم الموت تجيب العار»

أيوه .. الدنيا دي كلها شبابيك




الدنيا دي كلها شبابيك

الشبابيك هي عيون البيوت التي تطل على الشارع والتي تحرسها من الغبار والذباب ، وهي التي يطل أصحاب البيوت منها على الشارع في الليالي الصيفية الحارة ، وهي التي يغلقونها في الليالي الباردة ، وهي التي إذا دخل الفقر من الباب قفز الحب منها ، وهي المدخل الطبيعي للصوص ، اسمها الشبابيك والنوافذ ، والعيون التي تغلق ليلا لتنام .
أشهر النوافذ ،نوافذ السجون ، ونوافذ عربات السجن ، تصبح بالنسبة للمساجين الرمز الوحيد للحرية ، ويفضل الرسامون أن يرسموا يدين تقبض على قضبانها ، حجمها مربع صغير ، به قضبان متجاورة ، عالية ، يتسلل الضوء في النهار منها ، قافزا فوق أسوار القيد ، وفي المساء ينسحب الضوء رويدا رويدا مخلفا المساجين يتطلعون إلى النافذة الحديدية في أمل .
بالنسبة إلى الكثير من المساجين فإن شباك عربة السجن يظل هو الملاذ الأخير لهم، الباب الأخير الذي يفتح ناحية الحرية ، أمام مديرية أمن القاهرة بباب الخلق رأيت عيونا كثيرة تتقافز خلف الشباك الضيق ،وأمهات خارج العربات يحاولن أن يقفزن من بين أيدي الجنود لكي يعطوا لأبنائهم هؤلاء القابعين داخل العربة الزرقاء المغلقة بعض السجائر والساندوتشات ، أكثر من يد كانت تمتد ناحية الشباك لترتفع بالساندوتشات ناحية العربة لتلتقطها أصابع رفيعة من الداخل ممدودة فب أحيان كثيرة بالنقود ، في شارع درب سعادة الكائن خلف المديرية كان المحتجزون ينادون على أهلهم في الخارج ، بينما الأهل ينادون عليهم بالتبادل ، يطمئنونهم بأن المحامي سيقوم باللازم ، يمكن تخيل الموقف بالداخل هكذا ، شخصان يرفعان آخر ، فيما عشرات الوجوه تتزاحم كل يريد أن يخاطب أهله ، حاملين داخل أعماقهم امتنانا كبيرا للشباك .
الشباك ابن شرعي للمشربية ، الذين ذهبوا إلى القاهرة الفاطمية يعرفونها ، والذين صلوا في المياجد القديمة يتذكرونها ، والذين قرءوا ثلاثية نجيب محفوظ التي تدور في ثلاثينيات القرن الماضي تخيلوها جيدا .
سميت المشربية بذلك لأن بروزها كان يكثر هواءها فتوضع فيها قلل الماء للشرب ،وهي تصنع من خرط دقيق من الخشب ، واسم المشربية مشتق من الأصل "يشرب " ، ويطلق على النوافذ المصنوعة من الأعمدة الخشبية الرفيعة المتشابكة وتتقارب القطع الصغيرة الدقيقة التي تتكون منها المشربية فلا تستطيع الجيران ولا المارة أن يروا ما بداخل البيت ، لكنها تأذن في الوقت نفسه بمرور الضوء الخافت والهواء إلى الداخل ،وفيها فتحات صغيرة يمكن فتحها أوقات الضرورة .
الفتيات يحببن الشباك بحكم العادة ، ولأن الشبابيك أكثر ارتباطا بالنساء منها بالرجال ، في مجتمع شرقي يرى أن مكان المرأة خلف الشباك تطل منه إلى الشارع في انتظار عودة رجلها إليها ، مروة لم تعرف بماذا تجب عندما سألتها عن علاقتها بالشباك ، الأمر بالنسبة إليها لا يحمل أيأبعاد فلسفية ، الشباك كما قالت أحيانا يصبح منشرا جيدا ، إذا لم يكف منشر البلكونة المجاورة ، كما أنه بالنسبة إليها مدخل البيت الذييجب أن تحافظ عليه فعن طريقه يستطيع الجيران الذين يسكنون البناية المقابلة أن يكشفوا _ على حد تعبيرها _ البيت وما فيع ، ولذا فهي تحرص على إغلاقه ، أو عدم الجلوس أمامه ، عن طريقه أيضا عرفت زوجها ، ابن الجيران السابق ، عن طريقه سقطت أول وردة تحت قدميها ، أول رسالة حب في ورق مفضض ، أول صباح الخير بشكل مختلف .
الجيل الجديد ـ حسبما ترى مروة ـ لا يحتاج إلى الشباك لكي يدخل لافي قصة حب مع بنت الجيران ، مفهوم بنت الجيران أصبح مختلفا ، فالحياة الآن مفتوحة عن الماضي ، ابنها طوال الليل يجلس على الانترنت ليعرف بنت جيران مختلفه ، ويفتح نوافذ ،ويغلق أخرى .
نوافذ الانترنت مختلفة تماما عن النوافذ الخشبية المسكينة ، فنظام ال windows يفتح نوافذ من نوع مختلف ، ونوافذ الشات في مقاهي الانترنت وفي البيوت ، تؤكد أن مفهوم النافذة أصبح مختلفا .
جاءت الشرفة بعد اختفاء المشربية ، فيإطار مرحلة التحرر ، ففي حين كانت المشربية جزءا من حجاب المرأة أصبحت النافذة جزءا من انفتاحها على العالم في الخارج ، كما أن وقت الأصيل بالنسبة للكثير من الفتيات هو الوقت المناسب للاستراحة من عناء غسيل الأطباق أو المذاكرة والتطلع ، وبالنسبة لبعض ربات البيوت يصبح هذا الوقت وهذه النافذة هي المكان المناسب لتبادل أخبار الشارع ، وأهم ما جرى من أنباء عائلية ،وأحيانا يصبح غلق النافذة أو فتحها دليلا على التزام العائلة دينيا من عدمه ، تماما مثل طريقة نشر الملابس من خلال مناشر الغسيل .
وتلعب النافذة لدى بعض الأسر في الأحياء لشعبية دور حجرة الخزين ، حيث يتم تعليق الثوم والبصل ، فيها ، كما تحرص بعض الأسر على تغطية النوافذ بالحديد درءا للصوص ، أما أشهر النوافذ لدى المصريين فهي نوافذ المصالح الحكومية والتي يطل من خلفها الموظفون ،ويرددون عبارة " فوتعلينا بكره ياسيد " أو " الشباك التالت شمال " ، وهي الشبابيك التي ينتظر المصريون خلفها طويلا انتظارا لقضاء حاجة ، أو إنهاء أوراق حكومية أودفع إحدى الفواتير ، وترتبط هذه النوافذ بالطوابير الكثيرة التي تتقاطر أمام المصالح الحكومية بلا نهاية .
النوافذ القديمة تختلف عن الحديثة ، ففي حين تكاد تكون الحديثة ، قطعة مصمتة من المبنى ، و أحيانا تكون زجاجية ، لا يمكن تمييزها ، تتميز القديمة بذوق عال في التصميم ، يمكن ملاحظة هذا في عمارات وسط القاهرة ، كما أنها عالية بارتفاع البيوت ، ويصل طولها أحيانا طول أحد الأبواب الجديدة .
النافذة هي التي ينفذ منها الضوء ، وربما كان هذا سببا وجيها لتسميتها بهذا الاسم ، والشرفة مأخوذة من الاشراف على الطريق أسفلها ، والشبابيك هي التي غنى من أجلها محمد منير " شبابيك ، الدنيا دي كلها شبابيك ، دي عنيك ، شبابيك " أما المشربية فقد ذهب زمانها مخلفا ذكريات جميلة لدى من عاشوه ، وشرفات ، وعيون على الشوارع كثيرة .