30‏/08‏/2012

في 'أثر النبي' لمحمد أبو زيد: متخيل الأزمة وأفق التغيير



د.محمد المسعودي*
(1)
توصلت برواية 'أثر النبي' من الصديق الشاعر والروائي محمد أبو زيد و'الثورة المصرية' في بداية عنفوانها: يوم 1-2-2011. قرأتها في يومين متتاليين أثناء متابعتي المتواصلة لأحداث مصر، فكانت هذه القراءة من وحي هذه الوقائع، وبإيعاز من أجواء الرواية التي لا تبتعد كثيرا عن معالجة واقع الإنسان المصري والعربي خلال المرحلة الراهنة تخييليا.
ومحمد أبو زيد نموذج للشباب المصري المثقف الذي آمن بالتغيير كتابة وحياة، وبشر به في أعماله الشعرية التي حملت بذور الرفض والتمرد والحلم بآفاق ممكنة للحرية والكرامة والعدالة وقيم الخير والسلام. ونظرا إلى أن الروائي خرج من صلب الشاعر، ونظرا إلى العناية بالسرد التي لابست قصائد الشاعر منذ البداية كان لا بد أن نشير إلى تماهي الجنسين في كتابة محمد أبو زيد. ولعل هذا الامتزاج هو الذي أغرانا بالانطلاق من بعض نصوصه الشعرية لنقف من خلالها على خصائص متخيله الفني - الذي رصد أزمات المجتمع واستشرف التغيير- والكشف عن أبعادها الجمالية، قبل الخوض في روايته الأولى 'أثر النبي' للوقوف عند تجليات متخيل الأزمة فيها ومدى استشرافها للتغيير الممكن.
(2)
في ديوان 'قوم جلوس حولهم ماء' (دار شرقيات، 2006) نلفي صور الأزمة ضاربة بعمق في تربة المتخيل الشعري عند الشاعر، بحيث تستقصي كل مظاهر الاختلال وانعدام التوازن في شعرية شفيفة وجارحة. إننا أمام نصوص تقول الكائن وتبشر بالممكن في لمحات فنية دالة، وتعبر عن رغبة ملحاحة في الانعتاق من القيود وضيق أفق الحياة. يقول في مقاطع من نصه 'حتى يرتاح الأشرار' :
'7'    
'الوطن أقسى من الموت يا ميرفت'
ليس هذا ما أريد قوله
منذ زمن طويل وأنا أعرف ماذا أريد
الموسيقى مصلوبة على جدران البيت
رأسها مطأطئ
والدموع تصعد إلى عينيها
وسعاد حسني في 'الكرنك'
رفعت عينيها مستنجدة بالموسيقى
ولم ينقذها أحد
رفعت يديها فأغلقنا التلفاز.
8
الذين أحببناهم
لا يشاهدوننا في مراياهم
والذين أحبونا
غنينا لهم
'يا مسافر وحدك
وفايتني'
رغم أنهم
لا يحبون عبد الوهاب.
9
لا داعي لأن تكرري: نحن إخوة
نحن كذلك بالفعل
أما الحب
فهناك أكثر من طريقة للتخلص منه:
1 ـ المشنقة
2 ـ مصادقة الأشرار
3 ـ إغلاق الأبواب
4 ـ هذه القصيدة
10
افتحوا الباب
لقد اختنقت'(ص.41-44)
تجسد هذه القصيدة بإشاراتها المكثفة واقع الحال الذي انعدم فيه الحب وانتكست المشاعر والقيم الإنسانية حتى العدم. وينص الشاعر على أن ما يربط الإنسان بالحياة والتجديد يشهد حالة من الرثاثة والقهر: الموسيقى باعتبارها مصدرا للبهجة والفرح صارت مصلوبة تبكي حزينة، وكذلك حال الفن بما يحمله من قيم التغيير والتحول (الإشارة واضحة من خلال فيلم الكرنك وسعاد حسني). ويصور الشاعر مصير الحب باعتباره أسمى مشاعر الإنسان في ظل ظروف مختلة: الشنق- السقوط في يد الأشرار- الخنق عليه وحصره- البكاء عليه شعرا. ولذلك يصرخ الشاعر في المقطع الأخير من القصيدة طالبا فتح باب الحرية حتى يتحرر من اختناقه، ومن قهره، ومن موت حبه في ظل شروط غير إنسانية. وبهذه الشاكلة يجمع الشاعر في متخيله بين تصوير مفردات الأزمة وتمظهراتها وبين الإفصاح عن رغبة الانعتاق والتحرر في نبرة شعرية تجمع بين التلميح والتصريح.
وهذه النغمة الرافضة المنتقدة للحال والأحوال نلقاها في ديوان 'طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء' (دار شرقيات، 2008) منذ عنوانه الذي يشخص الطاعون، طاعون القهر وانعدام الحرية، في شكل إنسان لامبال يجلس على كرسيه متطلعا إلى عوالم خاصة به ساهيا عن الدمار الذي يحدثه. أليس هذا العنوان تلخيصا شعريا شفيفا لفوبيا نظام طاعوني يجثم على صدر مصر وأهلها؟
يقول الشاعر في قصيدة 'فضيلة النوم':
' في النوم
الحياة أبيض وأسود
أحتمي بحيادي وأفتح فمي
تاركا الصوت يخرج في أجولة مفتوحة

في النوم
أهرب من طاعون
يحبو على الأرض
طاعون في طرقات المستشفى
طاعون في العناية المركزة
في السوق
في الحافلة
في استراحات المسافرين
في حقائب الديناصورات الصغيرة

في النوم
أضع للقساة النمل في آذانهم
أخفض صوت الرعد
حتى لا يقلق جدي في غفوته
أقابل أصدقائي الموتى في الحانة
وأستعيد البحر
الذي سرقوه مني
في غفوتي السابقة'(ص.78-79(
أمام استشراء الطاعون لا يجد الشاعر من مفر سوى الحلم والرغبة في استعادة صوته المقموع وفتح أجولة احتجاجه عن آخرها أثناء إغفائه. وفي الحلم أيضا ينتقم من الأشرار ويذود الأذى عن الأحباب ويقابل الأصدقاء الموتى في المكان الذي يحب ويرضى، كما أنه يستعيد في أحلامه البحر الذي سُرق منه. بهذه الشاكلة يعبر الشاعر عن ارتباطه بالتغيير ولجوئه إلى التخييل قصد بناء رؤياه لحاضره وآتيه. ولعل تشخيص ما يحيط به بهذه اللغة الشعرية الموحية هو ما جعله يكتب نصه الروائي الأول بهذه الروح الرؤيوية التي تقف عند الكائن وتستشرف الآتي.
(3)
إن الطقس الجنائزي والبناء الدرامي المتصاعد يبدأ من الفصل الأول في رواية 'أثر النبي' (دار شرقيات، 2010)، وهو الفصل الذي يعلن فيه السارد موت 'عادل هياكل' أحد الشخصيات المحورية في الرواية لتترى الأحداث ما بين الفصل الأول والأخير من النص في إيقاع سردي منساب يذهب بالمتلقي إلى أماكن عدة، وإلى حيوات شخصيات متنوعة لها صلة ببطل الرواية (الطالب الأزهري). حيوات تتقاطع فيها لحظات تراجيدية بأخرى كوميدية ساخرة. وعبر هذا البناء السردي المتوتر والمتشابك يستطيع السارد حبك عوالمه السردية المميزة. إن أول ما يطالع القارئ في الفصل الأول:'الدم'، هذا التركيب الجامع بين المأساة والملهاة:
' حلاق الجمعية الشرعية
ممنوع حلق اللحية'.
أتحسس الكلمات المكتوبة على الحائط بخط يحاول أن يبدو نسخا، أخطو أولى درجات السلم المظلم، قلبي يدق في عنف، مدركا أن عادل هياكل في الطابق العلوي يصارع الموت، أن الشرطة من الممكن أن تداهم المبنى في أية لحظة، أن عم رجب سيلقيني وحقيبتي من أعلى إلى الشارع، أنه لا أحد هنا، فقط: أنا.. وعادل.. ولافتة الحلاق الأعشى..'(الرواية، ص.11)
بهذا السرد المتوتر المنساب نجد أنفسنا في صلب حكاية عادل هياكل والطالب الأزهري الخائف من الشرطة ومن طرده من شقة الطلبة، وبهذا المفتتح نرى السخرية تقترن بالمأساة منذ البداية، وهي اللمحة السردية التي شكلت الرواية من خلالها رؤيتها إلى الواقع وتناقضاته، ومن خلالها بنت واقعها الفني المتخيل. وما بين هذه الافتتاحية التي تبدأ بالإعلان عن موت عادل هياكل غارقا في دمه وقيئه، وما بين الفصل الأخير في الرواية الذي يعود إلى نفس الحدث تتخذ الرواية البنية الدائرية في عرض الوقائع والتفاصيل والجزئيات التي تشكل متخيلها السردي. وعبر أحداث الرواية نجد أن محكيها المحوري يركز على حيوات شخصيات تتفاعل في سياق دار الطلبة التابع لحركة سياسية/دينية هي جماعة الإخوان المسلمين، وحيوات شخصيات أخرى تتقاطع معها في الزمان وتبتعد عنها في المكان، لكن تأثيرها حاضر عبر عملية الاسترجاع والتذكر (أم البطل، الجدة، الجد، الأب، وزوجة الأب)، أو عبر مناجاتها وتوجيه الخطاب إليها (زينب). إننا أمام قصص الشيخ سيد والقذافي وأبو العزايم ويوسف ومحمد خليل وحمدي وحجازي والبواب عم رجب وهشام وأدهم وعائشة، وشخصيات أخرى عديدة يتفاعل معها السارد، ولها حضور في حياته ووجدانه وفكره، وعبر حكاياها تتحدد القسمات الكبرى لمتن الرواية، وعبر تشابك مصائرها بمصير السارد وبما يجري في الحياة تتحدد علامات الأزمة التي تصورها الرواية، كما تتجلى لمحات من أفق التغيير الذي تنشده تلك الشخصيات ويتطلع إليه البطل/السارد.
نجد أغلب شخصيات هذه الرواية تتطلع إلى الهجرة خارج مصر، ولعل هاجس الهجرة كان أفقا للحلم والتخلص من وطأة الواقع المظلم وقهره. كما أن السارد يراوده، في يقظته ومنامه على السواء، الحلم بالطيران والتحليق أعلى، وهو الحلم الذي حقق بعضه في لحظة وجد صوفي نادر عندما شارك في حضرة صوفية أقامها أحد أصدقاء الشيخ سيد رفيقه في السكن، وهو شعور أحس به من قبل في حفل ذكر أحياه والده في البيت حينما أصيب بحالة كآبة عويصة إثر موت والدته، لكن حلمه بالطيران وحلم جميع أصدقائه بالهجرة وتغيير ظروف حياتهم ظل أسير قيود سياسية واجتماعية لم تفرج عنه أبدا.
ولعل الشدة ومعاناة القسوة والظروف الصعبة هي التي جعلت شخصية السارد والشخصيات الأخرى تنحو نحو الرفض والتمرد والسخرية بطرقها الخاصة التي يسردها الكاتب في براعة وإحكام، وخاصة الوقائع التي تدور في دار الطلبة، أو من خلال رسائل هشام... وقد كانت الرغبة في الخلاص من العزلة والوحدة، والرغبة في إرضاء الصديق القريب من النفس هي التي دفعت البطل إلى الاستئناس بأدبيات جماعة الإخوان، من جهة، ومن جهة ثانية، قبول الالتحاق ببيت طلبة الغورية حيث سيجد مهربا من عزلته ووحدته. وهكذا نرى أن بذرة التغيير انبثقت في وجدان شخصية السارد استنادا إلى أمرين:
-حب الآخر والعمل على إرضائه حفظا لأواصر الصداقة.
-الرغبة في الخلاص من واقعه الفردي المأزوم.
ولم يكن السارد يدرك حينها أنه سينخرط، بذلك، في واقع أشد إيلاما وأزمة سيجعله يتجاوز التركيز على معاناته النفسية الفردية، ليصبح الإحساس بالخوف والشعور بالمهانة والخشية من المصير المظلم المجهول أساس حياة يشترك فيها مع رفقاء سكنه من الطلبة ومع الشخصيات الأخرى التي عرفها وشكلت جزءا من كينونته ووجدانه. وقد ارتبطت هذه المعاناة بجو عام من القهر والإحساس بانسداد الأفق يصل إلى ذروته مع سقوط بغداد في يد الأمريكان في أبريل سنة 2003، بحيث يعلن محمد خليل أنه السقوط الأخير للعرب الذي لن تنهض لهم بعده قائمة. ووسط هذا الجو يركز السارد على تصوير وقائع تتصل بردود فعل الناس وطلبة الأزهر، وردود فعل من داخل مسكن الطلبة ذاته، كما يركز على تصوير إحباطه وتيهه، وتعرضه إلى الطرد من المسكن بعدما اكتشف الأستاذ أحمد اهتمامه بالسياسة، وهو الأمر الذي يقتضي نظام البيت أن لا يشتغل به الطلبة، وأن لا تحمل حقائبهم ومحتويات كتبهم ما يدل عليه. وتنتهي الرواية بمشهد دال يمتزج فيه صوت جمال عبد الناصر يعلن استقالته وتنحيه إثر هزيمة يونيو 1967، وصورة محسنة توفيق وهي تهرول صارخة 'هنحارب..هنحارب'، مع هرولة البطل في شوارع ضيقة تزداد ضيقا، وهو يحمل حقيبته الثقيلة التي تمزق كتفه، والدموع تسيل من عينيه، وكل ما حوله كئيب أسود.
ولعل هذه النهاية التراجيدية التي اختتمت بها الرواية تنبع من صدق تصوير واقع الأزمة وصعوبة الانعتاق من قهر الواقع المتردي سياسيا واجتماعيا، وإذا كان صوت جمال عبد الناصر المنبعث من شاشات تلفزات المقاهي يقر بالخلل السياسي ويعلن الهزيمة، فإن الصوت الثقافي/الفني/العلمي ممثلا في احتجاجات الطلبة ومحسنة توفيق يؤكد الإصرار الشعبي على المواجهة والاستمرار، على الرغم من المشهد الكئيب الذي تختتم به الرواية، وفي ذلك استشراف للمستقبل وتأكيد على الرغبة في التخلص من الأزمة.
(4)
ينتهي قارئ هذه الرواية المكثفة القصيرة إلى أن صاحبها لا يقف عند حدود كشف المستور من وضع المجتمع المختل وإشكالاته العويصة، بل إنه يكشف، أيضا، عن مقدرة فنية/سردية لا تخلو من مكر روائي، ومن قدرة على تحقيق نوع من اللعب الفني الذي يستند إلى طاقات حكائية متنوعة، منها استدعاء الرسالة وتوظيف الخبر الإعلامي وصيغ المنشور السياسي والمحاكاة الساخرة لنقل مباراة كرة قدم... وغيرها من أشكال الخطاب بحيث تصبح هذه العناصر جزءا مكونا للنص الروائي وعوالمه المتخيلة، وعبرها تتشكل رؤيته الرافضة/ الساخرة لما يجري في الواقع الاجتماعي، واستشرافه للآتي من خلال تركيزه على تصوير تحولات المجتمع وصراع جماعة الإخوان مع الأمن المركزي ومعاناة طلبة الأزهر خاصة بما ينبئ عن تفجر الوضع وبداية انتفاضة الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري، وفي المجتمعات العربية، وهي الفئات التي أصرت على المضي قدما نحو تحقيق التغيير والخروج من ظروف الأزمة التي أحكمت قبضتها على الواقع بكل معطياته. ولعل اختيار الإمكانات السردية التي ذكرناها، إلى جانب الميل إلى التكثيف السردي، والدقة في تصوير الأحداث وحالات الشخصية الوجدانية ومواقفها الفكرية، جعلت هذه الرواية الأولى لمحمد أبو زيد تتميز بطاقة شعرية في لغتها ومناحيها التعبيرية في الغالب، مما يؤكد ما أشرنا إليه في بداية هذه القراءة، وهو هذا التماهي بين السردي والشعري في كتابته الشعرية والروائية معا. وإنا ننتظر من الروائي محمد أبو زيد أعمالا سردية أخرى فاتنة ومنخرطة في معالجة اختلالات وضعنا العربي الذي لم يتخلص بعد من أزماته السياسية والاجتماعية والثقافية.. على الرغم من هذه الأحداث التي نشهدها الآن
ــــــــــــــــــــــ
*ناقد مغربي

10‏/08‏/2012

باب الخلق.. مصر بين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر

في مشهد دراماتيكي يجلس الأمير أبو عبد الله، أو محفوظ زلطة، أو الفنان محمود عبد العزيز، العائد من أفغانستان، مع اثنين من أعضاء الجماعات الإسلامية في مصر، لمحاولة إقناعهما بسماحة الإسلام، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب، والمفارقة هنا أن محفوظ زلطة الذي قضى 20 عاما من عمره بين المجاهدين الأفغان، حتى لو حرص المسلسل على عدم تسميتهم، تنقل فيها ما بين الحرب ضد الاتحاد السوفيتي إلى الحرب ضد  أمريكا، هو الذي يقنع الجماعات المصرية بنبذ الجهاد.
غير أن هذه ليست هي المفارقة الوحيدة في المسلسل، الذي يقدم الشخصيات الجهادية، في أفغانستان بشكل كارتوني، يذكرنا بالأفلام الدينية القادمة، والتي يبدو فيها الكافر كافرا من زيه وماكياجه، حيث يبدو أعضاء تنظيم القاعدة، الذين لم يسمهم أيضا، متجهمين طوال الوقت، يتحدثون العربية الفصحى كأنهم خارجين من فيلم فجر الإسلام والشيماء، دون أية أنسنة أو اقتراب من البناء النفسي للشخصيات، بل تبدو إحدى الشخصيات المحورية، وهي "أبو خليفة"، أقرب إلى البلطجي منها إلى الجهادي الذي يملك مبررات ويرددها كالببغاء، يؤمن بها، تبرر ما يقوم به.
ومن المفارقات المهمة أيضا، الشخصيات التي تدير العملية الأمنية في مصر، والتي لم يذكرها المسلسل صراحة في البداية، فتظن أنها إما المخابرات العامة أو الأمن القومي، ثم يذكر المسلسل بعد عدد من الحلقات أنها جهاز أمن الدولة "المنحل"، والذي يقدمه بصورة أقرب إلى الملائكية للصورة التي نعرفها عنه، والتي تذكرها أدبيات الجماعة الإسلامية في شهادات أعضائها عن التعذيب الذي لاقوه في المعتقلات، وعلى أيدي ضباط هذا الجهاز. أما الشخصيات العاملة في هذا الجهاز فيبدو رئيس الجهاز الأمني (الفنان أحمد فؤاد سليم) أقرب إلى البلاهة، ويبدو الضباط الذي يتعامل ( الفنان أحمد فلوكس) متعاطفا إلى حد كبير مع الأمير أبو عبد الله،  كما أن طريقة تعامل الضباط مع الموقوفين أو المعتقلين تقوم بغسيل سمعة للجهاز، الذي تم حله شعبيا، بسبب المعاملة القاسية التي لاقاها منه كل النشطاء السياسيين فضلا عن المعتقلين من الجماعات الإسلامية والذين فقد الكثير منهم حياتهم داخل الزنازين جراء التعذيب.
من المفارقات المهمة أيضا أن المسلسل لا يميز بين الجماعات الإسلامية الراديكالية في مصر، على اختلاف توجهاتها، وهذه آفة يقع فيها معظم صناع الدراما، فهم يتعاملون مع أي ملتح باعتباره جهاديا، وبهذا فهم يضعون الإخوان المسلمين والعائدين من ألبانيا وأفغانستان والجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وجماعات التكفير والهجرة والسلفيين في سلة واحدة، وهذا مناف للحقيقة، بل إن هذه الجماعات المختلفة تنظر للموضوع الواحد من زوايا مختلفة ويكفر بعضها الآخر، وإذا كان هذا ليس وقت المقارنة الفكرية بين أفكار هذه الجماعات إلا أنه من المهم الإشارة إلى تغير موقف بعض الجماعات من الجهاد، فالجماعة الإسلامية التي اشتركت مع تنظيم الجهاد في اغتيال السادات، وقاد قادتها التاريخيين أحداث أسيوط 1981، والتي هدفت إلى انقلاب على الحكم والسيطرة على مديرية الأمن هناك، تغير موقفها بالكلية، بعد مراجعاتها الفكرية، بداية من مبادرة وقف العنف التي أعلنتها عام 1997، وقبل أشهر قليلة من مذبحة الأقصر، والتي تبرأت الجماعة منها، (يشير المسلسل إلى أن أبو خليفة شارك في هذه العملية)، بل قام القادة التاريخيون  للجماعة بعد ندوات في السجون لإقناع معتقلي الجماعة بالتحول الفكري ونبذ العنف، فضلا عن إصدارهم عددا من الكتب الفقهية تضمنت مراجعاتهم الفكرية مدللا عليها من الكتاب والسنة. ليس هذا فقط، بل قام أمير جماعة الجهاد السابق، والمعتقل حاليا في سجن العقرب شديد الحراسة، الدكتور فضل (يحمل اسمين آخرين في أدبيات القاعدة هما السيد إمام الشريف، والشيخ عبد القادر عبد العزيز) قام بإصدار مراجعات فكرية، قبل خمسة أعوام، تراجع فيها عن فتاواه السابقة بخصوص الجهاد،(وثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم، وهي مراجعات كتبها عام 2007، التعرية لكتاب التبرئة، وهو كتاب رد فيه على الظواهري في رده على وثيقة ترشيد الجهاد) ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أدبيات جماعة الجهاد تكشف أنه كان على خلاف بينه وبين الدكتور أيمن الظواهري على الإمارة.
هذا الخلفية التاريخية البسيطة تبدو مهمة لفهم بعض التفاصيل التي يقدمها المسلسل، خاصة أن إحدى الشخصيات التي يقدمها، وهي أمير الجماعة المسجون (قام بدوره الفنان سناء شافع)، والتي تبدو متماسة مع شخصية الدكتور فضل في بعض الأحيان، حيث تصدر التعليمات للقابعين هناك في جبال تورا بورا، أو مع إحدى الشخصيات العام كما تبين التواصل السريع بين تنظيم القاعدة، والمعتقلين في مصر، وهو ما يكشف بدوره عن عجز الأجهزة الأمنية؟
قسم زعيم القاعدة الراحل الشيخ أسامة بن لادن، عقب أحداث سبتمبر 2011، العالم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، على حد تعبيره، ويبدو هي الطريقة التي اتبعها مسلسل باب الخلق، حيث جاءت معظم الشخصيات حادة الانحياز، ما عدا شخصية الأمير أبو عبد الله، التي استطاع الفنان محمود عبد العزيز رسم ملامحها ببراعة، والتي تقدم عددا من التناقضات ما بين تحوله من جهادي سابق إلى نجم فضائيات، ومطارد من تنظيم القاعدة، أيضا شخصية محامي الجماعات الإسلامية (الفنان عزت أبو عوف)، الذي يلعب على كل الأحبال، وهو نموذج معروف لعدد من المحامين الذين أداروا هذه الملفات في مصر السنوات الماضية، ومن المهم هنا الإشارة إلى الجهد الذي بذله المخرج عادل أديب لتقديم صورة مختلفة للدراما المصرية، واستخدام تقنيات جديدة في المونتاج وفصل الألوان وتحريك الكاميرات، فضلا عن اللمسة الكوميدية التي تغلف بوليسية الأحداث.
وعلى الرغم من حالة التقليدية التي قدمها المسلسل في بناء بعض الشخصيات، إلا أنه من الواجب الإشارة إلى أنها المرة الأولى التي يقدم فيها رصد لما تقوم به بعض الجماعات الجهادية داخل الحدود المصرية، حتى لو شاب تقديمها بعض الأخطاء، كما أنه قدم أيضا تداخل عوالم المال والسياسة والإعلام والحزب الحاكم واستخدام الجماعات الجهادية في تنفيذ المصالح السياسية.
ــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في أخبار الأدب

06‏/08‏/2012

حلمي سالم.. آخر الخوارج

"لماذا لم أكتب شعرا عن أمل دنقل؟"، يطرح الشاعر الراحل حلمي سالم هذا السؤال على نفسه، إثناء تحضيره كتاب "عم صباحا أيها الصقر المجنح" الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة محتويا علي القصائد التي كتبها الشعراء في رثاء أمل دنقل بعد رحيله الأليم في مايو 1983، ثم يجيب بأن السبب هو خوفه من "السرطان" الذي انتشر في الهواء، والذي أخذ منه مجموعة من أعز الناس جعله يجفل من رثاء دنقل، حتى لا يكون في مواجهة مباشرة مع السرطان.
ما خاف منه سالم تحقق، فالحذر لا يمنع القدر، حيث رحل مريضا بالسرطان أيضا، سرطان الرئة. لكن ما يجمع دنقل وسالم ليس المرض فقط، ولا أن كليهما كتب ديوانا عن تلك التجربة، حيث كتب دنقل "أوراق الغرفة 8"، وكتب سالم "معجزة التنفس"، بل أن كلاهما يدخلان في جوقة الشعراء الخوارج، والمقاتلين، وأصحاب القضية.
يرفض الكثيرون من النقاد وجود الأيديولوجيا في الأدب، ويرى آخرون أن الانخراط في العمل السياسي التنظيمي قد يضر المبدع، غير أن حلمي سالم، استطاع أن يحطم هذه التابوهات التي وضعها النقاد، ليكتب قصيدته، التي تعبر عن موقفه الأيديولوجي، التي يتخلى فيها عن خطابة السياسي، ويتمسك فقط بموقف المبدع الذي يرى العالم يتعرض للتشويه، فيحاول تجميله بقصيدة.
بالنسبة لي، أؤمن أنه لا فن بلا أيديولوجيا، وأعتقد أن حلمي سالم واحد من أولئك الذين  يعبرون عن سلامة هذا الاعتقاد عندي، حيث استطاع الحفاظ على ذلك الخط الرفيع ما بين الاثنين، وهو يتنقل ما بين حصار بيروت أوائل الثمانينيات حين انضم إلى المقاومة الفلسطينة هناك، أو في غرفته الزجاجية في حزب التجمع، مدافعا عن يساريته، ليحافظ  في هذا كله، على شاعرية طازجة مختلفة، وموقف سياسي واضح، من ديوان إلى الآخر، بل فعل ما وصف به دنقل في مقال له من أنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي.
حلمي سالم هو شاعر التفاصيل الصغيرة، شاعر الاحتفاء بالحياة، وتدوينها، في فقه اللذة، والواحد الواحدة، ومدائح جلطة المخ، والشاعر والشيخ، وسيرة بيروت، وهو في كل هذا يجمع بين الأيديولوجي والشاعر، يلتقط الفن من كل تفاصيل الحياة، من الحب والسجن والمرض، ويصوغه شعرا هو المدهش، الذي يحافظ على صوره طازجة حتى السطر الأخير، سواء كان يكتب قصيدته التفعيلية أو النثرية.
حلمي سالم واحد ممن صنعوا شعرية جيل السبعينيات المختلفة عما قبلها وما بعدها، مع رفاق دربه جمال القصاص، وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان، وحسن طلب، وغيرهم، ليظل هذا الجيل محصورا طوال سنوات بين دورين "الظالم والمظلوم". البعض يراه ظالما لأنه نقل الشعرية بعيدا عن المتلقي العادي، مع أن المتلقي العادي لا يقرأ الشعر منذ عقود طويلة، ومظلوما لأنه ابن النكسة التي حاصرته، وابن عصر السادات الذي همش الثقافة، وابن عصر الانفتاح الاقتصادي الذي أعلى آليات السوق على الاهتمام بالصورة الشعرية، والقصيدة التي تصارع التشوه المجتمعي.
لكن حلمي سالم ورفاق دربه، استطاعوا الصمود في وجه هذا، وحافظوا على فرادة قصيدتهم، وتميز نصوصهم،  ليصنعوا، ما يعتبره البعض جيلا شعريا، وما أعتبره مدرسة شعرية، تقوم على الاهتمام بالتجريب والمغامرة، وتكثيف الصورة، والمغايرة.
كان حلمي سالم شاعرا مقاتلا، ليس لأنه ذا موقف أيديولوجي، بل لأنه كان يحب الاشتباك مع الحياة، وينتصر في النهاية بقصيدة أو ديوان جديد، كما فعل في أزمة "شرفة ليلى مراد"، وحاول الانتصار على المرض بديوانين "مدائح جلطة المخ"، وديوانه الأخير "معجزة التنفس".
كان حلمي سالم شاعرا غزير الإنتاج، ربما لأنه كان يرى كل ما حوله شعرا، ويرى أن  الحل في القصيدة، والقصيدة واحدة، فكان يصوغ كل ما يمر به شعرا، ورغم رحيله، إلا أنه سيظل أيقونة خاصة تدل على سلامة ارتباط الشعر بالأيديولوجيا، على أهمية ما قدمته جماعة "إضاءة" للشعرية العربية، على أن الشاعر لا يموت، ومن قال أن الشاعر يموت.
ــــــــــــــــــــــــ
*نشر في أخبار الأدب

خريف الثقافة في ربيع الإخوان

في مؤتمر صحفي كبير، عقد بمقر نقابة الصحفيين ظهرالأربعاء 3 مارس 2004، 12 محرم 1425، وقف المرشد العام للإخوان المسلمين، في ذلك الوقت، محمد مهدي عاكف ليعلن، مبادرة الإخوان للإصلاح في مصر، نشرت نصها جريدة آفاق عربية، وموقع إخوان أون لاين.
المبادرة التي جاءت في ثلاثة عشر محورا، كان الإصلاح في المجال الثقافي، هو محورها قبل الأخير،  وقد قال فيه عاكف ما نصه "نحن نؤمن بضرورة أن تنبثق ثقافتنا من مصادرها الإسلامية, تنميةً للفرد والمجتمع, وهذا يتطلب إصلاحاً جاداً لمفردات الثقافة القائمة ووسائلها من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز, بحيث تتأسس مادتها وتنطلق من المبادئ والقيم الإسلامية, تربية للفرد, وتعميقاً لهذه المبادئ والقيم في وجدانه, وذلك لحمايته من التغييب والتغريب, وبما ينأي بها عن مواطن العبث بالمبادئ الأخلاقية والسقوط في هاوية الفحش والبذاءات وما توافق الناس جميعاً علي تسميته ببرامج ومسلسلات وتمثيليات هابطة تخدش الحياء وتشيع الفحش, وتقوية هذه الوسائل بما يجعلها قادرة علي مواجهة عصر السماوات المفتوحة والفضائيات الوافدة, والإتصالات والمعلومات فائقة الزَّخم والسرعة".
وأضاف عاكف "وعليه, فيتمثل الإصلاح الثقافي - في نظرنا - فيما يلي : 1- صياغة رشيدة لنظام التعليم، 2- صياغة واعية للإعلام المقروء والمسموع والمرئي، 3- حرية وتدعيم نشر الكتاب، 4- تشجيع الندوات والمؤتمرات والمعارض، 5- تشجيع السياحة العلمية وسياحة المؤتمرات، 6- إعادة النظر في دور المجلس الأعلي للشئون الإسلامية, وكافة المؤسسات الثقافية, بما يكفل الإصلاح الثقافي المنشود، 7- ترشيد دور السينما والمسرح, بما يتفق ومبادئ وقيم الإسلام".
هذه الرؤية شديدة التقليدية والمحافظة للثقافة، و"الإصلاحية"، من وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين، والتي طرحها مرشد الجماعة السابق قبل ثماني سنوات، تبدو جديرة بالتدبر والقراءة الآن، خاصة أنها لم تتغير، ونحن نتابع طريقة اختيار وزير ثقافة مصر بعد الثورة، وبعد وصول الجماعة إلى الحكم، والذي من المفترض فيه أن ينفذ مفردات "مشروع النهضة"، في المجال الثقافي.
غير أن اللافت، والمثير للسخرية والأسى في آن، أن مشروع النهضة، الذي فاز من أجله الرئيس محمد مرسي، بالرئاسة، لا يحتوي كلمة واحدة عن تطوير المشروع الثقافي، وإذا كان البعض سيرى ذلك جيدا، حيث أنه سيعني ابتعاد الجماعة الدينية عن الثقافة، وأن الثقافة ليست في أولوياتها، إلا أنه يعني أيضا أن الجماعة لا ترى في الثقافة ما يستدعي النهضة، ولا ترى أن الثقافة، بأفرعها المختلفة من أدب وفن ومسرح، هي التي تصنع النهضة وتبني الأمم، ولا تعرف أن عبد الناصر في الستينيات، استطاع أن يؤثر في العالمين العربي والإفريقي، ليس عن طريق الاستعمار ولا الغزو، ولكن عن طريق القوة الناعمة الحقيقية لمصر، وهي الثقافة، ومن المهم هنا أن نذكر أن الرئيس محمد مرسي في خطبه الأولى، عقب توليه الرئاسة، لم يشر من قريب أو من بعيد إلى المثقفين والمبدعين، رغم أنه ذكر فئات مجتمعية مختلفة.
لذا فإن خلو  مشروع النهضة، من أي حديث عن الثقافة، أو تنميتها أو تطوير مؤسساتها أو دورها، يثير المخاوف من تهميش هذا الدور، الذي يبدو غائبا في مشروع الجماعة، كما كان غائبا في تاريخها، لحساب مشروعات أخرى. ولا يعني هذا اعتراضا على ما جاء في البرنامج من مكافحة الفقر، والبطالة، وتحسين أوضاع العمال والفلاحين، ومواجهة ظاهرة أطفال الشوارع، وتحسين أوضاع أصحاب المعاشات، ومنع التلوث ومحاربة منظومة الفساد.. إلخ. فكل هذا حسن في حال تحققه، لكن يبقى السؤال: أين الثقافة؟.
لكن قبل الحديث عن  طريقة اختيار أول وزير ثقافة لهم بعد وصول الإخوان إلى الحكم، يبدو من المهم أن نقرأ أيضا طريقة اختيار وزير الثقافة في الفترة الانتقالية، التي حكم خلالها المجلس العسكري مصر، حيث يلاحظ أن جميع الوزراء، تقريبا، جاءوا من المؤسسة الثقافية الرسمية، أو من العاملين في مؤسسات الدولة بشكل عام، وينطبق هذا أيضا على باقي المؤسسات الثقافية، مثل المجلس الأعلى للثقافة، ويبدو ذلك متسقا مع التفكير العسكري، الذي يؤمن بالتراتبية الهيراركية في تولي المناصب، وترقية البعض، لتولي المسئولية، ولهذا لم يثر اختيار وزراء الثقافة احتجاجا في الوسط الثقافي.
لكن إذا انتقلنا لطريقة اختيار الرئيس محمد مرسي لرئيس حكومته ووزير ثقافته، يبدو من المهم أيضا في البداية، أن نتحدث عمن اختارتهم الجماعة ليمثلوا لجنة الثقافة والإعلام في مجلس الشعب "المنحل"، حيث جاء على رأس اللجنة، محمد عبد المنعم الصاوي، وهو أحد المرشحين للوزارة الذين قابلهم رئيس الوزراء هشام قنديل لتولى المنصب، وخرج بعد اللقاء ليتحدث عن أهمية ضم وزارة الآثار إلى وزارة الثقافة، لضمان تمويل الأنشطة الثقافية.
ومن اللافت هنا، أن الإخوان المسلمين، في الحالتين، تغاضوا عن اعتراض المثقفين على تولي الصاوي الوزارة  في حكومة أحمد شفيق، بل إنه كان أقصر من تولى المسئولية في عدد أيام لا يتجاوز أصابع اليدين، وكانت المبررات وقتها أن الصاوي رجل أعمال يدير مشروعا تجاريا في جوهره "ساقية عبد المنعم الصاوي" كما أنه يقدم ثقافة "هشة"، ليس لها علاقة بالبعد الثقافي المصري، فضلا عن قيامه بالرقابة علي الأعمال الفنية المعروضة في الساقية، ومصادرة بعض الأعمال التي يرى أنها مخالفة للقيم الدينية من وجهة نظره.
ورغم أنه تم اختيار الدكتور صابر عرب وزيرا  للثقافة، إلا أن رئيس الوزراء كان قد قابل أيضا الدكتور أسامة أبو طالب الأستاذ بأكاديمية الفنون، رئيس البيت الفني للمسرح الأسبق، أحد المرشحين للمنصب، وهو ابن أحد القيادات التاريخية للجماعة في الشرقية، كما أن له عدد من الكتب والدراسات في المسرح الإسلامي، مثل و"البطل التراجيدي مسلما"، و"الإسلام وظاهرة التراجيديا"، ومن الملاحظ هنا أن من كانوا يقومون باختيار وزير الثقافة كانوا  يفكرون خارج توقعات المثقفين، ولا يفكرون خارج صندوق الجماعة المحافظ والتقليدي، ففي حين يتحدث البعض أن الوزارة قد تحتاج مثقفا في هذا المرحلة للحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، تأتي اتجاهات اختيار الإخوان إما في اتجاه تسليع الثقافة، عن طريق اختيار وزير يؤمن برأسمالية العمل الثقافي، أو في اتجاه  اختيار وزير محافظ بخلفية إخوانية.
وفي ظل خروج الرموز ذات الرؤية الإصلاحية من الجماعة مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والدكتور محمد حبيب، وسيطرة التيار القطبي، ربما يكون من الضروري قراءة رؤية الإخوان المسلمين للثقافة، وما الذي تعنيه بالنسبة لهم في تفرعاتها المختلفة، من شعر، ورواية، ومسرح، وسينما، وموسيقى، وفن تشكيلي، وتتبع ما قدمته الجماعة أيضا عبر تاريخها الطويل "84 عاما"، وما قدمه أعضاؤها في هذه المجالات، وما تنوي تقديمه أيضا خلال الفترة القادمة.
لا يرى الإخوان الأدب إلا أدبا إسلاميا، يساعد في تأكيد هذه الفرضية وجود رابطة الأدب الإسلامي العالمية والمنتشرة في أكثر من 22 عاصمة عربية، والتي أسست عام 1982، وأيضا وربما يمكن الرجوع في هذا إلى معظم الكتب التي وضعوها، على مدار العقود الماضية، للتنظير لتلك القضية ويمكن هنا ذكر كتب من عينة "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، لنجيب الكيلاني، و"نظرية الأدب في ضوء الإسلام" لعبد الحميد بو زينة، و"مقدمة  لنظرية الأدب الإسلامي"، لعبد الباسط بدر، و"مقدمة في دراسة الأدب"، لكن يغيب في تاريخ الثقافة المصرية والعربية ذكر أي مبدع إخواني، سواء كان شاعرا أو روائيا، اللهم إلا نجيب الكيلاني، الذي قدم عددا من النصوص المحافظة، ويرصد مسعود حامد في دراسة له عن الكتابات في مجلة الأدب الإسلامي الصادرة عن الرابطة سالفة الذكر، فيجد طغيان مذهب نقدي  بعينه وتبنيه بديلا وحيدا للنقد الإسلامي هو النقد الكلاسيكي وطغيان نوع أدبي  هو الشعر "القصيدة العمودية تحديدا"، على حساب ما عداه من قصة ورواية ومسرح، فضلا عن غياب الاشتباكات المعرفية والمعارك الأدبية مع الآخر.
إذا كان هذا فيما يتعلق بالنتاج الأدبي، فإن النتاج الفني "الموسيقى، والغناء، والتمثيل"، يبدو منعدما، إلا من بعض الألبومات الغنائية، التي تقدم الأناشيد الحماسية، وإن كان البعض يعتبر المطرب حمزة نمرة، أحد إرهاصات ظهور فن جديد ينال قبول الإخوان. وإذا كان نمرة ينفي انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين،  فإنه قدم ألبومين "إنسان"، و"نحلم ببكره"، لاقيا نجاحا في أوساط مختلفة، حيث يمكن توصيف ما يقدمه بأنه فن إنساني هادف، يتماس في بعض مناطقه مع ما قدمه من قبل محمد منير ووجيه عزيز وعدلي فخري، من أرضيات أيديولوجية مختلفة.
لم يعرف عن أحد الممثلين أنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، لكن الجدل الذي أثير مؤخرا حول مسلسل الداعية الإسلامية "زينب الغزالي"، يبدو جديرا بالتأمل، ومن قبله الاعتراض على مسلسل "الجماعة"، الذي تناول قصة صعود الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة، وتأكيد الجماعة أنها ستقدم عملا دراميا عن حياته لم ير النور بعد، وأيضا بعد الأفلام الروائية القصيرة، إذا جاز أن نطلق عليها ذلك، التي تقدمها قناة "مصر 25"، التابعة للجماعة، والتي تنحي التقنيات الجمالية جانبا، من كتابة وإخراج ومونتاج وإضاءة، لتؤكد في نهاية "الفيلم"، أو "المشهد التمثيلي"، على الحكمة التي تريد توصيلها للمشاهد.
قد يبدو إذن فهم جماعة الإخوان المسلمين للفن، بتنوعاته، قاصرا، وتقليديا، وقديما، وقادما من متحف التاريخ، على الرغم من أن مؤسس الجماعة حسن البنا اهتم ببعض الجوانب الثقافية ، فأنشأ  فرقا مسرحية، أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة، والتي قدمت عددا من المسرحيات منها ما هو تاريخي ومنها ما هو أخلاقي، وربما يبدو هذا هو التصنيف الأمثل لرؤية الإخوان للفن إذ ينحصر ما بين "التاريخي"، الذي نستفيد فيه من دروس التاريخي، وما هو "أخلاقي"، الذي يقدم الموعظة الحسنة للمشاهدين.
لكن إذا كانت الجماعة قد نسيت الثقافة في "مشروع النهضة"، فإنها كانت حاضرة في برنامج حزب الحرية والعدالة، بشكل يبدو متماسا إلى حد كبير مع تلك الرؤية الإصلاحية التي تحدث عنها مهدي عاكف، عام 2004، والتي تحدثنا عنها في البداية.
فتحت عنوان "الثقافة و الفن"، يذكر برنامج الحزب، أن ثقافة المجتمع تتأسس على الهوية الحضارية التى ينتمى إليها الشعب، وتعد الحضارة الإسلامية العامل الرئيس فى تشكيل عقل الإنسان المصرى ووجدانه، بما يؤهله للتعامل الذكى مع مختلف الثقافات الأخرى، دون إقصاء أو إزراء بثقافة الآخر، ويتسع مفهوم الثقافة بحيث يعنى "طريقة الحياة" فالثقافة هى المرآة العاكسة لهوية المجتمع وقيمه وإرثه الحضارى، وتتحدد ملامح الثقافة فى تصورنا عبر عدة محددات منها، أن الثقافة تتسم بالوحدة والتنوع فى آن معا، فهناك نمط ثقافى عام ينتظم البشرية هو الثقافة الإنسانية التى تعنى بالحق والجمال والفضيلة والمساواة .. وهناك فى الوقت نفسه ثقافة محلية تميز إقليما من آخر، وبيئة من أخرى، ويكتسب النمط الثقافى العام لمجتمع ما ثراءه بمدى مساهمة الأنماط الثقافية المختلفة فيه، والأمر هنا ليس حاصل جمع بل هو نتاج تداخل وتمازج أشبه بالمزج العضوى الملتحم .
غير أن اللافت في رؤية الحزب للثقافة هو ما يلي "ترتبط الثقافة بالدين على نحو لا يمكن إنكاره، فالثقافة المصرية تتشكل فى مجملها تأسيسا على الهوية الإسلامية دون إقصاء أو إهمال لثقافات أسهمت فى مرحلة تاريخية "وما زالت" فى تشكيل المجتمع بملامحها المميزة كالمصرية القديمة والمسيحية، ولقد مثلت الحضارة الإسلامية إطارا لوحدة الأمة يسمح بالتعددية، ويحافظ على التنوع الداخلى وتعدد العقائد، وعليه فلا مجال للصراع الثقافى وإنما هو تلاقح الثقافات، وتفاعلها، وتمازجه، وتمثل الثقافة المصرية بملامحها السابقة حائط صدّ منيعا ضد أساليب الغزو الفكرى المدمر، وألاعيب التذويب الماكر من ثقافات غريبة تفسد ولا تصلح، وتسهم فى تمييع الانتماء الوطنى المصرى والقومى العربى، وتستطيع ثقافتنا بأصالتها ومرونتها أن تستخلص من الثقافات الوافدة ما يتوافق معها ويسهم فى نهضة الأمة، كما يمكنها أن تطور تراث الأسلاف بإعادة قراءته وعصرنته "، ويوصى البرنامج بإعداد ميثاق للشرف الإبداعى طبقا لقيم المجتمع وأخلاقياته وآدابه تعده لجنة من كبار المتصلين بالشأن الثقافى والإبداعى، ويتم طرحه للحوار والتشاور والصقل، لإقراره وبدون تدخل أو وصاية من جانب الدولة ومؤسساتها ليكون بمثابة دستور غير مكتوب للإبداع فى مصر يلتزم به ضمير المبدعين، وأجهزة الرقابة المعنية .
وإذا كانت الجماعة تتحدث في برنامجها عن دعم الترجمة والنشر والكتاب، لكن بقراءة سريعة لما سبق، يمكن استخلاص ما يلي: أن حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين يرى أن ثقافة مصر دينية بالأساس، حتى لو كانت هناك ثقافات أخرى موجودة في المجتمع، كما أن الجماعة تنظر إلى الثقافة من منظور أخلاقي بحت، ورغم أنها تؤمن بعدم الرقابة على الفن، فعلى الرغم من قولها إنها ترفض وصاية الدولة إلا أنها تطالب أيضا بإعداد ميثاق للشرف الإبداعى طبقا لقيم المجتمع وأخلاقياته وآدابه، ولا أعرف كيف سيجلس الشعراء للاتفاق على "ميثاق شعري"، لا يتجاوزونه.
وأنه على الرغم من تحدث الجماعة في برنامج حزبها عن تلاقح الثقافات، وتفاعلها، وتمازجه، إلا أنه من الواضح أنها تعاني من أزمة مع الآخر، في عصر انفتاح الثقافات وتلاقيها، فهي ترى أنه يقوم ب"الغزو الفكرى المدمر، وألاعيب التذويب الماكر من ثقافات غريبة تفسد ولا تصلح، التي تسهم فى تمييع الانتماء الوطنى المصرى والقومى العربى".
كما تتحدث الجماعة في رؤيتها لتطوير السِّينما والإنتاج الدرامي، عن أهمية دعم صناعة الفيلم الديني والوطني والوثائقي والتاريخي الذي يتناول هموم وتاريخ مصر وقضاياها، والارتقاء بمستوي المسلسل التِّليفزيوني والفيلم السِّينمائي والتَّليفزيوني المصري؛ ليُمارس دَوْرِه في نشرِ القِيَمِ الرَّفيعة، والامتناع عن الأعمال الهابطة والمثيرة للغرائز والدافعة لارتكاب الجرائم، وتحسين الذَّوْقِ العام؛ عبر انتقاء النصوص والشخصيَّات ضمن إستراتيجية أكبر لصناعة الرمز في مختلف مجالات السينما والرياضة والمسرح والأدب والصحافة والإعلام.. إلخ، وفي الغناء تتحدث الجماعة عن توجيه الأغنيَّة المصريَّة إلى أفق أكثر أخلاقيَّة وإبداعًا واتساقًا مع قيم المجتمع وهويته، ودعم شركات الإنتاج التي تلتزم بهذا التوجيه، ودعم الأغنيَّة الوطنيَّة والدِّينيَّة وإعادة الزَّخم السَّابقِ لها، والاهتمام بتراثنا فى الموسيقى العربية، وفنون الموشحات وإشاعتها فى المحيطين الوطنى والعربى لتغذية الوجدان بالفن الراقى الجميل".
وحتى لا يبدو ما أنقله انتقائيا، فإن الجماعة تقدم ما يمكن اعتباره جيدا في هذا المجال من دعم المواهب الشابة، وتأسيس حركة نقدية واعية, ومنع الاحتكار، ومواجهة التَّعديات القائمة علي المناطق الأثريَّة بما في ذلك تعديات المحليات،  وتنشيط حركة الكشوف الأثريَّة، واستعادة الآثار المصريَّة التي تمَّ تهريبها من مصر، غير أن اللافت فيما ذكرته من رؤية الجماعة لتطوير السينما والغناء، أن هناك اتجاها حقيقيا لأخونة الفن، وتديينه، وفرض رقابة صارمة على الفن بدعوى الحفاظ على قيم ومبادئ المجتمع، وتقييد الحريات بمبررات أخلاقية، وهو ما أشارت إليه الجماعة بحديثها عن دعم الفيلم الديني، وأن يقوم بنشر القيم الرفيعة, وتقديم أغنية أخلاقية.
وإذا كان البعض يرى أنه من الجيد أن تنتج مصر أفلاما دينية، أو تنشر القيم الرفيعة من خلال المسلسلات أو تقدم أغان أخلاقية، فإن المشكلة أن الجماعة لا ترى في الفن غير ذلك، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحكم على ثقافة مجتمع بمنظور ديني، كان واضحا في مواقف الجماعة من قضايا حريات التعبير طوال السنوات الماضية داخل مجلس الشعب، هذا المنظور الذي يمكن تلمسه من خلال رصد ما جرى في لقاء سابق بين الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ونقيب الفنانين الفنان أشرف عبد الغفور  والذي أكد فيه على "أهمية وضع ميثاق شرف لكل مهنة تضبط أداء العاملين بها ويلزمون بها أنفسهم من أجل الرقي بالوطن الحبيب"، وما قاله بديع أيضا في رسالته الأسبوعية من أن شهر رمضان يعتبر مشروعا مثاليا للتقوى، وأن "مسلسلات رمضان  معوقات من خارج الإنسان، كشياطين الإنس الذين يزينون المعاصي ويسرقون الأوقات الغالية واللحظات الثمينة، موضحا أن "كثرة المسلسلات خطة متعمَّدة لسرقة وقت الإنسان ولحرمان الأمة كلها من ثمرة المشروع الكبير المتمثل في (تحقيق التقوى)"، رغم أنه بدا مهتما بالمسلسلات إلا أنه لم يتحدث عن رأيه في المسلسلات الدينية، أو القضايا المثارة حول تجسيد الصحابة فيها.
ثمة حقيقة مؤلمة يجب أن نعترف بها، وهي أن الثورة المصرية لم تقم بسبب حشد المثقفين، ولا بدعواتهم، ولا بمؤلفاتهم، وبعيدا عن ادعاء كل المثقفين أنهم تنبئوا بالثورة، يمكن القول إنها فاجأتهم كما فاجأت غيرهم من قطاعات المجتمع المختلفة، وأن من قام بها  الطبقتين الفقيرة والوسطى اللتان  انشغل المثقفون عنهما بكراسيهم العاجية، لذا يبدو التخوف أن يستمر المثقفون في سباتهم في الوقت الذي تواجه فيه الهوية المصرية تصحيرا واضحا.
الخطر الحقيقي في رأيي، في ظل انشغال الإخوان بالمعارك السياسية مع القوى المدنية، وفي ظل صعوبة تغيير هوية مصر، يبدو في الذراع السلفية للتيار الإسلامي، القادمة بأفكار من الصحراء العربية، والتي قد يتم استغلالها لتمرير أفكار، لا يمكن التصريح بها في البيانات الرسمية المنمقة.
تواجه الثقافة، في ضوء ما سبق، خريفا حقيقيا، تبدو معالمه واضحة ، تتمثل في الاتجاه إلى تديين وتدجين الأجيال القادمة، في ظل الصراع على وزارة التربية والتعليم، وتتمثل في تخلي مصر عن ثقافتها الكوزموبوليتانية، التي تميزها والتي اكتسبتها على مر العصور، هذا لأن من يديرون الحكم الآن في مصر لم تقترن الثقافة بمشروعهم على مدار 84 عاما، وهو ما قد يبرره البعض بانشغالهم باللعبة السياسية طوال هذه السنوات، لكنه يعني أيضا أن الثقافة تأتي في مرتبة متأخرة في مشروعهم، فضلا عن رؤيتهم التقليدية والمحافظة لها والتي تجاوزها الزمن منذ عقود.
وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم عبر الصناديق، وباختيار الشعب، بل كان مرشحهم هو الخيار الوحيد أمام عودة النظام السابق ورموزه، لذا ومع احترام إرادة الشعب في اختيار من يمثله، في هذه المرحلة الزمنية، يبدو من المهم أن يكون لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله، بمعنى أن ينصرف الإخوان إلى تنفيذ برنامجهم السياسي، ومشروع النهضة، الذي يخلو من الاهتمام بالثقافة، وأن يتركوا الثقافة لأهلها، ومن جهة أخرى تبدو هذه هي الفرصة الأخيرة أمام المثقفين، ودورهم الذي نذرهم له التاريخ، وهو الحفاظ على الهوية، وعلى الثقافة المصرية من أية "أخونة" محتملة، ومن أي طمس قد يبدو في الأفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة أخبار الأدب