28‏/12‏/2011

مدهامتان

عن دار شرقيات بالقاهرة، صدر ديوان "مدهامتان"، للشاعر محمد أبو زيد والذي يحلق من خلاله في أجواء صوفية، مستدعيا التراث الإنساني في كافة تجلياته، وخالقا قصيدة أقرب إلى البكائية لعالم يتهشم، تاركا الإنسانية عارية على الهامش، من التفاصيل الصغيرة ينطلق الشاعر في رحلة الرثاء للقصيدة المتمسكة بذاكرة الماضي، إلى القصيدة المفارقة للذات، وتشتبك بالآني الدامي والقاتل.

الديوان الذي يعد السادس للشاعر في مسيرته الشعرية، يشتبك من خلاله مع مفاهيم الشعرية المطروحة، وطريقة كتابة القصيدة الحديثة، وارتباطها بالهم بالعام والذاتي، ومفارقته للتراث الشعري العربي من أجل كتابة قصيدة مختلفة، وينقسم الديوان إلى خمسة أقسام، محمد ذهب إلى الحقل، فك رقبة، الخوارج، القصائد المرة، أحفر مقبرتي وأغني، القصيدة الأخيرة

محمد أبو زيد : شاعر وروائي مصري ، ولد في سوهاج (صعيد مصر ) عام 1980 ، حاز عددا من الجوائز الثقافية داخل مصر وخارجها، يرأس تحرير موقع الكتابة الثقافي ، صدرت له ستة دواوين شعرية ورواية: ثقب في الهواء بطول قامتي 2004هيئة قصور الثقافة ، قوم جلوس حولهم ماء 2005 عن دار شرقيات للنشر ، نعناعة مريم 2006 ديوان للأطفال عن كتاب قطر الندى ، مديح الغابة 2007 الهيئة المصرية للكتاب ، طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء 2008 دار شرقيات ، أثر النبي (رواية) 2010، دار شرقيات.

ومن أجواء الديوان :

أصبحت أخاف

الكلاب الساكنة والمراهقين

أهتم بالنظارات وقياس الكوليسترول

بمصادقة طبيب عظام جيد

بأسعار المقابر في صحف الصباح

أصبحت الأشياء العادية مستحيلة

وكوب الشاي أبعد من المطبخ

رتيبة كاهتزاز القطارات الفقيرة

مُرٌة كفقدان الأحبة كل أسبوع

بعيدة ..

بعيدة كالحياة

07‏/12‏/2011

الطفولة ..خزانة الكتابة


طفل صغير ينطلق على دراجته ، الزرقاء صينية الصنع ، كل يوم من قريته الصغيرة في وسط الصعيد إلى المدينة لاستكمال دراسته الإعدادية ، و لشراء الكتب القديمة ، ومبادلتها ، أو استئجارها باليوم ، قصص تنابلة السلطان وكابتن ماجد ، وسلاحف النينجا ومجلة كابتن سمير ومغامرات عم دهب ، وقصة علاء الدين والمصباح السحري التي كانت مقررة علينا في الخامس الابتدائي ، وأهل ، أصدقاء ، ووجوه طيبة، وغيطان خضراء ، ومقابر تحتضنها البيوت ، وسكة حديدية يمر قطارها وهو يطلق صافرته المميزة ،وذكريات عن رصاص يتطاير في الهواء وطلقات تقطع صمت الليل في عمليات ثأرية بين عائلات متناحرة ، وسور أولى من القرآن الكريم أبدأ في حفظها ، وموت أقارب ، وسينما قديمة متهدمة ، وكسر في الذراع اليسرى لم يختف أثره بعد ، وساقية تدور كل أسبوعين ، وموسم قطف القطن ، وأغان للريس حفني ناصف والشيخ ياسين التهامي ، وأول قصيدة تنشر في مجلة محلية ، والعودة إلى البيت طائرا من فوق الدراجة ، وتفاصيل أخرى كثيرة أسترجعها الآن ، لم تمح من الذاكرة ، بل أصبحت زادا للكتابة، للتأمل ، للهروب من الواقع في أحيان كثيرة .

أدرك الآن أننا ككتاب أبناء لطفولتنا ، لذكرياتنا ، المرتبطة دائما بمرحلة عمرنا التي اختزنا فيها خبرات كثيرة ، لم نكن ندرك ذلك وقتها ، لم نفعل ذلك قاصدين ، ومن أين لنا أن نعرف ، لم نكن ندرك أن تلك الأيام التي تنقضي رويدا رويدا ، أن الأحداث العادية فيها ، الابتسامات الصغيرة ، الهزائم العادية ، الصداقات الطفولية , السهرات العادية ، ستضحي زادا لا ينتهي للكتابة ، ودليلا من جهة أخرى على البراءة .

لماذا يلح علي الآن أن معظم الكتاب المجيدين سواء كانوا في القصة أو الرواية أو الشعر هم أبناء لقرى أو مدن بعيدة عن العاصمة ، ربما لم يكسر القاعدة سوى نجيب محفوظ الذي تربى في العاصمة الفاطمية ـ فولكلورية الملامح ـ أما البقية الباقية فهم أبناء لقراهم ، لمدنهم ذات البعد الإقليمي أيضا ، أبناء لسماء تظهر واضحة جلية ، لصحراء شاسعة تقول الكثير ، لنيل يحكي لمن يسمع ، لأرض خضراء وصفراء ، وتحمل ألوان قوس قزح ، لماذا لم تنجب المدينة كتابا لها إذن ؟ هل لكونها مدينة آلية تحول من فيها إلى ماكينات دخل في ذلك ؟ ، هل أبراجها العالية التي تكتم على الأنفاس ، هذا ما أحسه ، زحام شوارعها ، سرعتها الجنونية ، تمنع الإبداع ، أم أن قرانا ، بالبراح أمامك ، بالتاريخ ، والحكايات التي تسمعها ، والقصائد التي تراها منحوتة على وجوه الناس هي التي تعطيك الفرصة للإبداع و الكتابة .

أعتقد أن القرية ، لم تغادر أيا من الكتاب الذين غادروها ، يعودون إليها كلما افتقدوا أنفسهم ولو كتابة ، يكتبونها ، أم تراها تكتبهم ، يخلدونها ، كما خلدتهم من قبل ، يهربون إليها عندما يشعرون بالوحدة ، ربما ليتحدوا بها المدينة ، لتعضدهم في التحدي .

في قصيدة لي بعنوان "جثث وحيدة " نشرتها في ديوان " قوم جلوس حولهم ماء " " قلت " " أيها الغرباء ، أحسنوا ضيافة حزني ، فهو طيب كحمامة ، هادئ كصنم ، مسالم كمَيِّتٍ " كنت أتعامل مع أصحاب المدينة أنهم الغرباء ، هم الغرباء بالتأكيد عني ، لكن بعد فترة يصبح البون شاسعا ، أصبح أنا الغريب الذي يهرب من غربته إلى قصيدة في مديح الطفولة ، أو في هجاء المدينة ، لذا تكمل القصيدة "" إذن ، حاولوا ألا تتذكروا أولادكم ، ولا غبار شارعكم، ولا نكتة ألقاها جنى، فضحكتم عليها حتى الصباح ، ولا القلق ينبت في أعينكم ، وأنتم تنتظرون ، خروج زوجاتكم من غرف الولادة ، حاولوا ألا تتذكروا مقهى بلدتكم ، ولا حلاقها الذي يجرحكم متعمدا ، فتنزفون ضحكا ، أيها الغرباء ، أشعلوا في ذاكرتكم النسيان "

تصبح التفاصيل الصغيرة ، أبسط التفاصيل دليلا على الحنين والهروب ، نبتسم عندما نجد شخصا ينطق حروفه بالجيم المعطشه ونسأله على الفور " إنت منين ؟ " ، وفي البداية نرفض شراء الطبعات الأولى من الجرائد ليلا لأننا تعودنا على قراءتها صباحا ثم ينتهي كل شيء بعد سنوات "" لا تشتروا جرائد الغد الآن ، ففي بلادكم تقرؤونها في موعدها ، وليس في الليلة السابقة ، حاولوا ألا تركلوا السيارات ، فهي عنيفة كذئب ، وانتم طيبون ، طيبون كسحابة ، سرقت منها الأجنحة "

كلما ابتعدت في العمر عن فترة الصبا ، كلما اشتقت إليها أكثر ، وكلما حاولت المدن الأسمنتية أن تأخذنا من طفولتنا ومن قريتنا ، من براءتنا ، كلما اقتربنا منها أكثر ، الكتابة تجسيد لهذه البراءة .

في أحيان كثيرة أتساءل وأنا أتصفح موقع يوتيوب ، أو موقع الفيس بوك عن هذا الكم الكبير من المجموعات التي تعيد نشر مقاطع فيديو لفترة الثمانينات ، سواء كانت أغان أو كارتون أو برامج ، حيث عشنا طفولتنا ، وهذا الإقبال الكبير عليها ، هل هو الحنين ، هل هي النوستالوجيا لزمن براءة نفتقده ، أم هو عدم قدرة على التعايش مع معطيات الوقت الراهن ، فنضطر للهرب .

شذرات صغيرة ستجدها في ديواني الأول " ثقب في الهواء بطول قامتي " عن الطفولة والقرية، ربما لأنني كنت وقتها قريبا منها ،فلم أكتبها جيدا ، لكني لما ابتعدت عنها ، صارت معظم شخوصا أبطالا في ديواني الثاني " مديح الغابة " ، وديواني الثالث " قوم جلوس حولهم ماء " ، سواء كان بالتلميح أو التوضيح . عندما أرى أمام كتاب في الطريق لدى باعة الكتب القديمة ، قرأته وأنا صغير ، أتوقف ، أتوقف طويلا ،أشتريه وأعيد قرأته ، حتى لو لم يكن له قيمة كبيرة ، لكنه بالنسبة لي يمثل جزءا من ذاكرتي .

قريتي قد لا تبين لها معالم واضحة في قصائدي ، لكنها تلعب دور المحرك للقصائد ، تلعب بعاداتها وتقاليدها ، وحكاياتها ومآسيها دور عين الصقر الذي يرى الواقع الآن ويعلق عليه ، دور الراوي الذي لا يقوم بدور في الرواية لكنه يعرف كل شيء ، ما مضى وما جاء وما سيحدث .

ديواني الأخير ، لم استطع أن أكتبه في المدينة ، كلما حاولت الكتابة أفشل ، كنت أستغل فترات سفري القصيرة للعمل في مناطق مختلفة خارج القاهرة ، في أماكن مفتوحة ترى السماء تشبه قريتي جاءت قصائد الديوان هجائية لتغول المدينة داخلي ومرثية لطفولتي ولي .

الآن ، أبتسم عندما يسألني قاهري عن مكان ما وسط العاصمة الواسعة الشاسعة ، وأجيبه كواحد منها ، لكني في الحال أعود إلى شوارع ترابية وبيوت صغيرة مبتسمة ، أعود إليها فقط وقت الكتابة ، أردد مع من لست أذكر اسمه بيني وبين نفسي " ردني إلى بلادي " .