14‏/11‏/2014

كشبحٍ يرفُّ بجناحٍ واحدٍ



ذات مرة، استيقظت في الصباح، فوجدت نفسي فوق سطح قمر. كان ذلك منذ زمن بعيد، فلم أعد أذكر التفاصيل. ما أذكره أنه كان عالماً غير العالم، حياة غير الحياة التي عرفتها، أخطو بخفة العائم في منطقة انعدام الجاذبية، ويدي تجري فوق الورقة كمريض مشرف على الموت اكتشف علاجه السحري. كنت في الصف الرابع الابتدائي، وفي يدي ورقة مملوءة حتى نهايتها بكلام من صفين، آخر حروفه متشابهة، لكنها جميعاً تحتج على الموت.
كانت أول قصيدة لي عن الموت. قبل ربع قرن تقريباً، أرثي أمي. أرثي العالم. تبتسم مُعلّمةُ اللغة العربية، وتربت على رأسي، بعدها بثلاثة عشر عاماً صدر ديواني الأول، كان عن الموت الذي لم أفك شفرته، لا قبل ولا بعد، فقط أحاول مصادقته من نص إلى نص، من قصيدة إلى قصيدة، من بيت إلى بيت.
ذات مرة، استيقظت، فوجدت أنني الوحيد الذي يتنفس على سطح قمر. كان ذلك منذ زمن بعيد، ربما منذ عشرين عاماً، كمن اكتشف باباً سحرياً للحياة فقرر أن يدخل، كمن وجد حبلاً سرياً يقوده إلى أعلى الجبل فقرر أن يتسلقه، كشبح يرف بجناح واحد اكتشف قدرته على الطيران، كميّتٍ عرِف طريق العودة إلى الحياة. كنت أظن أنني الوحيد الذي أستطيع فعل ذلك، مع الوقت تتكشّفُ الدهشة، يتبدّى الانبهار، أقفز على النظرات الغريبة والمتسائلة، وأواصل الدخول، التسلق، الطيران، العودة إلى الحياة.
أتذكر ذلك جيداً الآن، كنت أبكي كمن أصيب بمسٍّ. أبكي وأرتجف دون سبب، ثم أكتب فأهدأ. أهدأ تماماً. تنتظم أنفاسي. أهدأ. فأكتب، وأكتب، وأكتب، ولا زلت أكتب من وقتها حتى الآن. أول قصيدة لم تختلف عن ثاني قصيدة عن القصيدة العاشرة عن آخر قصيدة، لم تختلف الأسئلة بل تزيد، تتراكم فتخلق نصوصاً جديدة، لا إجابات، فأعيش معذباً بالأسئلة، بلعنتي، بقصيدة تدور في الفراغ. نعمتها حياتي، نقمتها الجواب الذي لا يصل.
ذات مرة، استيقظت فوجدت نفسي في العراء. لا شيء حولي سوى عواء الريح، والحياة التي لا تحتمل في الخارج، الحياة التي لا أحتملها، فقررت أن أُحصّن نفسي ببيت، أُجرّب أشكال الكتابة المختلفة، أتنقل ما بين السرد، والشعر، ما بين القصيدة العمودية إلى التفعيلية إلى قصيدة النثر، يعلو البيت ويظلني، يدفعني لمواصلة الحياة، تتراكم القصائد كحائط صد ضد الموت، الموت الذي يقترب كلما ابتعدت القصيدة.
ستة دواوين متراصة لا تقول شيئاً، أم تقول؟. أمد يدي فأُخرِجُ يدي، ذراعي، جسدي، روحي، هل قُلتُ شيئاً، لم أقل. بعد كل ديوان جديد أقرر أن أبدأ من البداية، أقول لنفسي: لم يكن هذا ما أردت قوله، لم أكن أقصد هذا. أنتهي لأبدأ من جديد، لا أكاد أنتهي حتى أبدأ، لا أعرف هل أشعر بالامتنان أم بالحنق، تتراص الدواوين كأدلة اتهام، كمشانق متجاورة فارغة من رأس كان معلقاً فيها.
أفكّر الآن في الطفل الذي فقد أمه فقرر أن يكتب قصيدة يسائل بها الموت، عن الفتى الذي كان يقود الدراجة خمسة كيلومترات كل يوم إلى المدرسة وعينه تُحوّل الحقول حوله والمقابر والسيارات إلى نصوص، يتوقف في منتصف الطريق ويكتب، عن الشاب الذي ركب القطار، فرأى نصوصه في وجوه الفقراء النائمين غير مهتمين باهتزاز العربات العتيقة، عن الطائرة التي حطّت، عن السيارة التي وصلت، عن القطار الذي هدر ثم صمت؛ فغادرهم كهلٌ، لا يحمل شيئاً، وحيدٌ كالحرية، لا يعرف كيف يكمل الرحلة، ولا متى سيصل.
ذات مرة، استيقظت، فوجدتني هنا، بين تسع وتسعين باباً مفتوحاً، وباباً واحداً مغلقاً فتحته فوجدتني هناك. في الحياة. الكتابة حياة. القصيدة حياة.

11‏/11‏/2014

قتلة بالفطرة

في أول مشهد من فيلم "قتلة بالفطرة" الذي كتبه كوينتن تارانتينو، وأخرجه أوليفر ستون، يقتل الزوجان السفاحان "ميكي ومولي" جميع رواد المطعم ثم يتركان شاهداً واحداً، لأنه هو من سيوصّل ما حدث للإعلام، وهو ما ظلا يفعلانه في كل جرائمهما فيما بعد، في إدراك منهما لأن الصحافة ستحولهما إلى نجمين أكثر شهرة من أوبرا وينفري.
الفيلم الذي أنتج عام 1994 وأثار الجدل مطولاً، يبدو هو الأقرب لوصف المشهد العربي الحاضر، من احتفاء بالعنف، سواء من الإعلام الذي يقوم بذلك، أو من القتلة أياً كان تصنيفهم، فبإمكان  من يتابع وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومواقع إخبارية أو قنوات فضائية أو مواقع تواصل اجتماعي، أن يدرك كم الجرائم التي ترتكب من شائعات وخلق مجرمين، والمساعدة على أن يصبحوا نجوماً يخطفوا الأنظار، وأن يصبح الدم مشهداً عادياً عادية المياه في الحياة اليومية، لا يلفت الانتباه أو يثير الاهتمام.
ولأي لعبة قتل طرفان، قاتل وقتيل،  لكن في هذه اللعبة يقوم الطرفان بالقتل الممنهج. يقومان به وهما يعرفان ما الدور الذي يقوم به، يعرف الصحافي أن ذلك سيساعده لكي يكون أكثر شهرة، ويعرف القاتل أن ذلك سيجلب له أتباعاً، ومتابعين وتابعين، عشاقاً، وخائفين، وأن صورته ستحل في الصفحة الأولى من الصحيفة إلى جوار الصحافي الشهور "الذي يبيع ويشتري الخوف" بحسب وصفه في الفيلم.
من أبرز الجماعات الراديكالية التي اكتشفت أهمية الإعلام، كان "تنظيم القاعدة" الذي كان حريصاً على توصيل رسائل زعيمه الراحل أسامة بن لادن إلى قناة الجزيرة عقب أحداث 11 سبتمبر، ومن بعده سار تنظيم داعش على نفس الخط، وهو ما يفسره نشاطه الغريب، على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك وتويتر ويوتيوب)، وحرصه الشديد على نشر صور الرءوس المقطوعة، وإطلاق الرصاص على المدنيين العزل، وعمليات القتل الجماعي، والرجم، وقطع الأيدي، والإعدامات، ومن يراجع جلّ هذه التسجيلات سيجد أن من قام بنشرها هو التنظيم بنفسه على خلفية أناشيد حماسية متوعدة، ولم يكتف التنظيم بهذا بل أعلن عن نيته إطلاق قناة فضائية، كما لجأ أيضاً إلى إصدار مجلة إلكترونية حملت اسم "دابق"، باللغة الإنجليزية، وهو ما يدعو للتساؤل لماذا يلجأ تنظيم يقول إنه إسلامي ويسعى إلى إعادة الخلافة إلى إطلاق مجلة بالإنجليزية وليس بالعربية، والإجابة طبعاً في كلمة واحدة وهي "الإعلام". فكما شاهدنا في فيلم أوليفر ستون الناس من كل أنحاء العالم وهو يتابعون جرائم السفاحّين بشغف وحب لدرجة أن حولاهما إلى نجمَين تتصدر صورهما أغلفة المجلات، لدرجة أن هذا الجمهور "يتظاهر" احتجاجاً على اعتقال القاتلّين، نرى على أرض الواقع "الجهاديين الأجانب" الذين ينضمون إلى داعش، والجهاديات اللائي يسافرن بحثاً عن "رومانسية الحرب" بحسب تعبير إحدى الوكالات الإخبارية.
الأمر ليس متعلقاً بما تفعله التنظيمات الراديكالية فقط، فما شهدته المنطقة العربية، ولا سيما الدول التي شهدت تحولات سياسية جذرية، خلال الأربع سنوات الماضية، يكتشف أن للإعلام كانت اليد الطولى في الأمر، في إقامة المظاهرات، وإسكاتها، في الانحياز للنظام والصراخ ضده، في تحريك الشعوب وإخفاء صوتها. الصراخ الذي ينبعث من البرامج التلفزيونية يكشف عن أن كل ما يحدث من احتفاء بالدم أو سكوت عنه، ليس إلا لعبة في يد أفواه تتحرك ـ في أغلب الأحيان ـ كعرائس الماريونيت، تتبدل المواقف والآراء في ذات اللحظة، فهكذا تقتضي اللعبة التي تحتاج إلى مهارة في التعامل، وقدرة على التقاط الموجة الرابحة، سواء كان هذا لصالح رأس المال، أو لصالح شخصي، أو لصالح سلطة ما، أو رغبة في استمرار إضاءة الكاميرات التي تضيء في كل مكان، بحثاً عن تصريح لا قيمة له، من شخص يجلس ويخاطب الملايين، فلا يعرف "الجمهور"، مع التكرار اليومي، هل هو مجرد أراجوز أم خطيب مفوه.
في العام 2003 كنت أعمل صحافياً بجريدة الشرق الأوسط عندما احتلت الولايات المتحدة العراق، وكان عدد قتلى التفجيرات في العراق، يحتل المانشيت الرئيسي في الصفحة الأولى دائماً، في الصحيفة التي أعمل بها أو الصحف المصرية أو الأجنبية، لكن مع استمرار الأمر، تضاءل الخبر، وانتقل إلى طرف الصفحة، ثم انتقل إلى صفحة داخلية، ثم اختفي في صفحة تكاد تكون غير مقروءة بأقل عدد من الكلمات، لأن الناس اعتادت الأمر، وأصبح عدد القتلى مجرد "رقم" ليس أكثر، ولأن الإعلام ملّ الحدث، وبدأ يبحث عن ضحية جديدة يسلط عليها الضوء. كل هذا رغم استمرار القتل في العراق بصورة يومية طوال، تكاد أن تكون نمطية طوال تلك السنوات، ولكن دون اهتمام أو شغف إعلامي، إلى أن ظهر من جاء بالشغف بشكل جديد للقتل والتدمير والذبح والسبي وهو تنظيم داعش، فعادت الكاميرات مرة أخرى تنظر إلى هناك.
الإشكالية هنا في احتفاء الإعلام الذي يحول خبر القتل إلى خبر عادي، لم يعد مثيراً للشفقة ولا للغضب، ولا حتى للاستياء، ولا لأي مشاعر، وهو ما عبر عنه أوليفر ستون في مشهد رائع، عندما كانت السفاحة "مولي"، تحكي عن طفولتها وكيف أن زوج أمها كان يغتصبها، لكننا على خلفية هذه الحكاية المأساوية نسمع في الفيلم تصفيق الجمهور وضحكهم كأنهم يشاهدون مسرحية وليس جريمة بشعة.
في آخر فيلم "قتلة بالفطرة" يساعد الصحافي السفاحين على الهروب من السجن لكي يحظى بسبق صحافي، ثم يقتله السفاح "ميكي"، فهو لا يحتاج إلى شاهد على جرائمه، مكتفياً بالكاميرا التي تتابع تحركاته، وهو ما يمكن تفسيره بدلالات كثيرة، لكن قبل حادثة القتل يدور حوار مثير، فيقول ميكي: "قتلك وما تمثله هو تصريح علني، ففرانكشتاين قتل مخترعه"، في إشارة إلى أن السفاح من صنع الإعلام. فيرد الصحافي: "أنا مجرد طفيلي, ألستما بقاتلين؟ أنتم لنا، للملأ والإعلام، هكذا هي الأمور".
ما مضى ليس انتقاداً لدور الإعلام في كشف الفساد وجرائم القتل، بل لدوره في جرائم القتل، لاحتفائه بالموت، بتحويله إلى حدث مسلٍ وليس مأساوياً، بتحويله إلى حدث اعتيادي لا حرمة له، بسكب الجثث من شاشة التلفاز على موائد الأطفال.
غياب الإعلام لا يعني غياب الجريمة والقتل، لكن استخدام الإعلام مرة في يد رأس المال، ومرة في يد القاتل،  ومرة في يد السلطة، ومرة بحثاً عن الشهرة والسبق يساهم في زيادة كل ما مضى.

لم يطلب أحد من الإعلام أن يكون محايداً تماماً، لكن الجميع يعرف أن الإعلام يجب أن يكون لديه ضمير، وإلا لن نعرف الإجابة الحقيقة على سؤال: "من هم القتلة بالفطرة؟" المجرمون أم وسائل الإعلام؟.