24‏/01‏/2017

#ادعم_شعر

تؤمن الشاعرة المصرية عبير عبد العزيز، بقدرة الشِّعر على الشفاء، سواء للبشر أو للوطن ككل، لذا قررت أن تجعل العام الجديد 2017، عاماً للشعر، عبر مبادرة أطلقتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حملت اسم "#ادعم_شعر"، قررت خلالها أن تنشر الشعر عبر وسائط مختلفة في كل مكان.
ربما يرى البعض أن الحديث الآن عن الشعر رفاهية، في ظل ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية طاحنة، فضلاً عن تفشي الأمية، لكن ما تعتقده عبير عبد العزيز، أن الشعر بإمكانه إصلاح ما أفسده الزمن والجهل والفقر، وما أفسده الشعراء أيضاً بجعل نتاجهم الأدبي مقصوراً عليهم، أو على نسبة ضئيلة للغاية من القراء.
فكرة عبير أن تصل بالشعر إلى كل الفئات المجتمعية، أن تنزله من برجه العاجي الذي لا يراه أحد، وتعيده كائناً حياً يتنفس ويمشي في الأسواق، ويتواجد في كل مكان، وهي هنا لا تستهدف فئة المثقفين، بل تود الوصول إلى طلاب المدارس، لذا قررت أن تذهب وتقدم مبادراتها للطلبة، أن تصل للعمال في المصانع، والباعة في الشوارع وركاب المترو والأتوبيسات ومرتادي المقاهي والأمهات في المنازل، أن يصبح الشعر لسان حال البقال والجزار والسباك، وهي فكرة طموحة، تحتاج إلى جهد مؤسسات كاملة، لكن عبير قررت أن تقوم بها وحدها.
ليست هذه هي المحاولة الأولى لعبير لإيصال الشعر عبر وسائط مختلفة إلى القراء، فقبل ثلاثة أعوام ـ حسبما أذكر ـ أطلقت حملة أخرى طموحة للشعر حملة اسم "ذات للشاعرات"، ضمت من خلالها عدداً كبيراً من الشاعرات المتميزات، واستطاعت أن تجول في عدد من المراكز الثقافية والمحافظات وأن تصل إلى مئات القراء والمستعمين، ولم تكتف فيها بتقديم الشعر، بل أدخلت فنوناً أخرى مع الإلقاء، مثل العرائس والموسيقى، والفن التشكيلي، والكاتريكاتير والوسائط التكنولوجية، كما قدمت قبل حوالي العام، تجربة أخرى مميزة، وهي المزج بين الشعر والأبراج في كروت بوستال.
بدأت عبير الحملة الجديدة بفكرة مبتكرة قبل بداية العام بيومين، حيث حوّلت "شجرة الميلاد" التقليدية، إلى شجرة من الشعر، علّقت عليها "طوابع شعرية" تضم مقاطع شعرية ولوحات تشكيلية، واستطاعت الشجرة بشكلها المختلف أن تجذب "القارئ العادي" الذي تسعى عبير للوصول إليه.
ولا تنحاز عبير في اختياراتها الشعرية إلى ذوق شعري معين، فهي تقدم نصوصاً من العامية والفصحى، لشعراء مصريين وعرب وأجانب، وقصائد عمودية وتفعيلة ونثر، وقصائد من التراث العربي وأخرى حديثة، وتختار نصوصاً لكبار الكتاب وشبابهم، وهكذا قدمت، في فترة وجيزة، حوالي 160 شاعراً دون انحياز لأحد، سوى للشعر وحده، بالإضافة إلى نفس العدد تقريباً من الفنانين التشكيليين، حيث تصاحب كل نص لوحة مناسبة له في الطابع.
استطاعت حملة #ادعم_شعر خلال أسبوعين أن تخلق حالة مختلفة عبر فيس بوك، وأن تحقق جزءاً من طموحها بأن تصل إلى آلاف القراء، من خلال عشرات الطوابع، وعبر نشاط مكثف في المشاركة والمتابعة والرد على القراء ودعوة الشعراء للمشاركة بنصوصهم، من خلال دور ومجهود كبير تقوم به القاصة السكندرية رانيا منسي، كما تجهز عبير عبد العزيز إلى 11 مبادرة شعرية أخرى مختلفة، بواقع مبادرة لكل شهر من شهور السنة.
ما تفعله عبير عبد العزيز، هو دور مؤسسي كبير، كان يجب على المؤسسات الثقافية الرسمية أن تقوم به، لكن عبير اختارت أن تؤديه بحب ورضا وإيمان بقوة الشعر ومكانته التي يستحقها، وربما أقل ما يمكننا فعله ككتاب وشعراء هو دعم هذا المشروع والوقوف إلى جواره، كما على وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية الخاصة والمكتبات الكبرى أن تدعم هذا المشروع، إن لم يكن مادياً، فمعنوياً من خلال الترويج لشعار الحملة (#ادعم_شعر) على الأقل، وهناك عشرات الأفكار البراقة لدى عبير تستحق التنفيذ من خلال الحملة، لكنها فقط تحتاج إلى دعمنا جميعاً لها.

هذا المقال هو تحية خالصة للشاعرة عبير عبد العزيز، لإيمانها بقوة الشعر، ودورها في إيصاله لكل الفئات، متحملة كل التكلفة والمنغصات، ودون أن تنتظر أي مقابل، سوى أن ترى العالم أكثر جمالاً بالشعر، وأن توصل رسالتها. هذا المقال رسالة للعالم: #ادعم_شعر.
................
نشر في صحيفة "المصري اليوم"

ديجافو

انتهى العام 2016، وبدأ العام 2017، ولا زالت الدماء العربية من سوريا إلى اليمن إلى ليبيا إلى العراق إلى مصر تتصدر المشهد، كأننا نعيش حالة من "الديجافو" التي تتكرر فيها المشاهد من عام إلى الذي يليه، وكأننا عشناها من قبل. لكن منذ متى لم تكن هذه عادتنا؟ منذ متى لم نودع عاماً ونستقبل آخر، ونحن ننعي أنفسنا، وهزائمنا التي تتزايد عاماً تلو الآخر؟
ربما تبدو الإجابة على هذا السؤال صعبة لكثرة الماسي العربية، حتى أننا لن نذكر متى بدأنا منحدر الهبوط، وبدأنا نأكل أنفسنا، بعد أن شبعنا من أكل بعضنا، وما هي النقطة التي غادرتنا فيها الحضارة، فغرقنا في القتل والدم.
في فيلم أمريكي شهير، يحمل اسم "ديجافو"، قام ببطولته دينزل واشنطن، وأخرجه توني سكوت، يقوم بطل الفيلم بالعودة إلى الماضي من خلال نفق زمني لمحاولة إنقاذ سفينة من محاولة تفجير إرهابية، وبغض النظر عن فكرة الفيلم الخيالية، لكنها تجعلنا نطرح سؤالاً ـ خيالياً أيضاً ـ حول النقطة الزمنية، التي إذا كان يمكننا ـ كعرب ـ أن نعود إليها لنغيرها، سنصبح أفضل، ما هي اللحظة التي بدأ فيها مشهد الدماء يصبح هو المشهد الوحيد الذي يراه العالم لنا؟
هل كانت البداية مع نكسة 67، حين انهار حلم عبد الناصر بالقومية العربية، وأدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان؟ أم كانت البداية حينما قرر السادات إطلاق التيارات الإسلامية لمحاربة اليساريين والناصريين فبدأ الوحش الجهادي يتضخم ليبدأ أول أعماله باغتيال السادات نفسه، ثم تنطلق الفكرة إلى باقي العالم؟، أم كانت البداية حين قرر رؤساء العالم العربي الخلاص من الجهاديين في بلادهم بحجة دعم الإسلام، فأرسلوا مئات الشباب إلى أفغانستان لمقاتلة الاتحاد السوفيتي، فوضعوا بذور تنظيم القاعدة؟
هل كانت البداية حينما قرر رئيس عربي، لأول مرة في التاريخ، باحتلال بلد عربي مجاور، بعد أن أعماه جنون العظمة والقوة، فكانت البداية لضياع العراق، والإيذان بدخول أمريكا والغرب رسمياً إلى منطقة الخليج العربي، ولم تغادرها من يومها؟ أم كانت البداية حين قرر مجنون عربي آخر باسم الإسلام أن يستهدف برجي التجارة الأمريكيين، فيقتل ثلاثة آلاف أمريكي، ويعطي الإشارة لقتل وتشريد مئات الآلاف من العرب والمسلمين باسم الحرب والإرهاب؟
هل كانت البداية حين قفزت الجماعات الراديكالية المتشددة على انتفاضات الربيع العربي، فأطاحت بحلم الشعوب في غد أفضل؟، وهكذا مرت خمس سنوات على نزيف مستمر للدماء في سوريا، ومثلها في ليبيا، واليمن، بعد أن ضاع حلم التغيير تماماً.
أم كانت البداية أقدم قليلاً، مع وعد بلفورـ وعد من لا يملك لمن لا يستحق ـ الذي وضع بذرة الدولة اليهودية في المنطقة، أم  مع انحدار العالم العربي على يد الدولة العثمانية، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تنطلق إلى عصر الحضارة والازدهار، أم مع اتفاقية سايكس بيكو لاقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، أم  مع نكبة 1948 وهزيمة الجيوش العربية، وبداية التغريبة الفلسطينية التي لم تنته حتى اليوم، ولا يعرف أحد متى ينتهي؟
هل من حقنا أن نقول أن البداية كانت قبل ذلك بقرون، حينما بدأ الاقتتال على الخلافة، وفتنة مقتل عثمان بن عفان، والفتنة الكبرى بين فريقي علي ومعاوية، وبداية النزوع المذهبي بين الشيعة والسنة، الذي لا زلنا ندفع ثمنه حتى الآن.
الحقيقة هي أن هناك عشرات النقاط الزمنية في تاريخنا تحتاج إلى تغيير، والتي ما إن تنتهي واحدة، حتى تنشأ أخرى أقسى وأشد، وكأنها تقول إن العيب ليس في الزمن، ولا في العدو، ولا في التاريخ، بل فينا نحن وليس في أي أحد آخر.
...................
*نشر في صحيفة "المصري اليوم"
 

18‏/01‏/2017

the lobster

 بقيت والدتي لوحدها
عندما أغرم والدي بامرأة كانت بارعة في الرياضيات
كان لديها شهادة الدراسات العليا، على ما أظن، بينما والدتي كانت مجرد خريجة
كان عمري 19 عاماً حينها
دخلت والدتي هذا الفندق لكنها لم تنجح وتحولت إلى ذئب
واكتشفت أنه تم نقلها إلى حديقة الحيوانات
كنت أتردد كثيراً هناك لرؤيتها
وأعطيها لحماً نيئاً
وكنت أعرف أن الذئب يحب اللحم النيئ
لكني لم أتمكن من معرفة أي من الذئاب هو أمي
لذا، كنت أعطي القليل منه لكل واحد منهم
في أحد الأيام قررت أن أدخل القفص
حقاً كنت أفتقدها وأردت أن أعانقها
تسلقت السور وقفزت للداخل
جميع الذئاب تجمعت وهاجمتني
في نفس وقت
الجميع ماعدا اثنين وقفا بلا حراك
أظن أن أحدهما لا بد أن يكون أمي
وصل حارس حديقة الحيوانات إليّ بسرعة وأخذني إلى المشفى
لم أفقد ساقي
فقط أعاني من هذا العرج
وتلك أيضاً إحدى علاماتي المميزة
 ..............
 من فيلم the lobster

 إخراج:  يورجوس لانثيموس

07‏/01‏/2017

محمد أبو زيد فى “سوداء وجميلة”.. قصائد برعشة الحنين

بقلم :حسام وهدان
من الألم ينطلق الإبداع.. هذا ما يأخذنا إليه شعر محمد أبو زيد فهو يخاطب أعماق الروح الإنسانية بملامسته للألم فيقترب من منطقة النبوءة والكشف عندما ينظر للحياة بعيون نسر يحلق فى السماء.
بداية يبدو عنوان الديوان وكأنه إجابة عن سؤال ما أو كإعلان عن موقفه من الحياة سمراء صفة للحسن وهو الاحمرار الذى يميل للسواد مع وجود بياض أصيل أما السواد ففيه قتامة وحزن ولو قال سوداء جميلة لكان الجمال صفة للسواد، ولكن استخدام حرف العطف أعطى سوداء قيمة أكبر فكأن السواد قيمة فى حد ذاته يضاف إليها الجمال «سوداء وجميلة». والديوان يرفع رايته فى وجه العالم صارخا معلنا جماله حتى وإن أنكره واقع زاف، إنه دعوة لتمجيد الحياة، دعوة للهجرة إلى مدينة الروح الساحرة، وإعادة رسم ملامح الإنسانية المتلاشية.
يبدأ الديوان برسالة للقارئ فى عالم تلاشى فيه كل شيء ولم يعد يبق فيه سوى القارئ والشعر فقط حيث لم يتمكن الواقع بكل قوته من إفنائهما فى عالم فنى فيه كل من فقد فى داخله بريق الحياة «مات الكهول فى الجنازات» والحياة فقدرت قدرتها على الميلاد «انفجرت الأجنة فى أيدى الأطباء» ثم يرثى لحال القارئ «ماذا ستفعل وحدك يا قارئى المسكين؟".
قسم الشاعر الديوان لأجزاء وقد بدا التقسيم وكأنه شهادة الشاعر على الحياة، أو كأنه يكتبه بعد هدوء أعاصيرها داخله. فالقصائد تشهد على العالم والحياة دون أن تتورط فى حماقاتها. بدأ الديوان بالهوامش والهوامش فى اللغة هى حاشية الكتاب للتعليق ما جاء فى المتن وإيضاحه وكأنه يمهد نفسية القارئ لتلقى المتن ويشير إلى أننا فى فوضى هذا العالم لا يمكننا استكشاف أنفسنا والآخرين بشكل مباشر، كل شىء يلفه الضباب وكأن الشاعر يمنح لقارئه أجنحة يحلق بها عاليه ليتعرف على عالمه الشعرى وتخيله وفهمه وكأنه يستكشف مدينة ما من نافذة طائرة قبل الهبوط عليها مما يثير غريزته للفهم والتأمل ويبدو الديوان وكأنه صفحة أخرى من كتاب نبوءة يحمله الشاعر إلى قارئه ويقر الشاعر بداية أن هذا العالم يحمل داخله عوامل انهياره وفنائه وأن عدم فنائه للآن ليس لقوة فيه ولكنه يرجع ذلك لأسباب تحمل سخرية من الحياة «كتعطل المنبه/ أنتم تعرفون البضائع الصينية الرخيصة» وربما لعجزه حتى عن ادراك نهايته «ربما توقف قليلا فى الطريق ليريح قدميه من آلام الروماتيزم» وربما أيضا لوجود بقايا انسانية داخله «يلقى لقمة يابسة فى جيبه لقطة تأملها شاردا» أو «دندن مع عبد الوهاب فنسى نفسه» ولكن مهما كانت الأسباب فهى غير قادرة على إنقاذه من مصير يستحقه فالعالم نفسه يأس من ذاته وصار عاجزا عن مواصلة الحياة بل صارت سعادته الوحيده هى فناؤه «ثم يدفع كرسيه المتحرك إلى الأمام بأقصى طاقة مبتسما فى سعادة»، «قصيدة دروس ضرورية لاحترام الوقت» وفى جزء الهوامش يحدد لنا الشاعر ملامح انسانة كما يتخيله فما زال قادرا على الاحلام «كيف يجرؤ أحمق مثلى/ أن يترك الباب مفتوحا هكذا/ وقلبه مربوط فى رجل الكنبة» ويؤمن تماما أن الجمال فى الجوهر وأن ظاهر الحياة لا يستدل به على قيمتها أبدا فيقول مخاطبا سكارليت جوهانسون رمز الأنوثة والجمال «صدقينى كل شىء سينتهى/ جمالك هذا سيذوى/ ستصبحين عجوزا/ تسكنين قرية مهجورة» كل شىء سيفقد حرارة الروح ولن يكون هناك مكان لرعشة الحنين والشعر وستطغى قوانين المادة حتى على الشعر «دعه يعمل/ دعه يمر» ويقول «لن تكون هناك مشاعر/ ولا حكايات» إنسان فى مواجهة أعاصير الحياة امتلك الحلم «كان يمكن أن أمد قدمى فألمس الماء/ كان يمكن أن أمد ذراعى فتصافح السحاب/ كان يمكن..» ولكن للأسف كل شىء يذوى وعاد مهزوما من ملكوت الأحلام «لكننى هنا الآن/ حيث لا شىء/ سوى طنين الصحراء فى الخارج» الانسان اللاهى عن مصيره من الازل للأبد «أشخاص يشربون الشاى ساخنا/ وهم يتطلعون إلى النافورة» وعندما أعاد كتابة القصيدة بعد عشرين عاما «كان الناس يصوبون كاميرات هواتفهم كالبنادق/ وهم يتبادلون النظرات/ فى انتظار وصول الجثث» هو الانسان اللاهى المغيب عن مصيره منذ القدم ويؤمن الشاعر أن ما مضى لا يستحق ولا يمكن أبدا أن يستمر «فلا شىء يستحق أن يدخل التاريخ/ لا الدمار ولا القتلة ولا تحيات الملوك» ويؤمن أن الخلود يكمن دوما فى التفاصيل البسيطة ولكنها تحمل النقاء والبراءة وفتنة البكارة «ليس إلا قطعة شوكولاتة/ متروكة فوق باب سيارة/ سر فى قصيدة لا يعرفه سوى اثنين/ دقات الثانية صباحا/ وشوارع المدينة خالية/ إلا منى/ كأن من فيها/ أكلتهم الحرب» وهو يرثى للأزمنة القديمة حين كانت تقودها الاحلام «فتاة تدلى شعرها ليصعد العشاق» ويبكى لزماننا الأجوف «لم يعد بإمكاننا سوى أن ندمع ونقول «حكايات رخيصة» ويتملكه الاحساس بالضياع اللانهائى فى فراغ لا محدود يلتهم الكل ويصبح الرابط الوحيد لهؤلاء الغرباء الذين التقوا صدفة عابرة فى إشارة مرور هو الغربة وهو ينظر إليهم من وراء حجاب فلا سبيل أصلا لتواصل بشرى حقيقى «فى إشارة المرور أنظر من خلف الزجاج إلى سائق صينى فى سيارة مجاورة/ فيدير وجهه إلى سائق هندى/ يدير وجهه إلى باكستانى/ يدير وجهه إلى الفراغ../ الفراغ الذى يلهمنا جميعا» ونأتى للجزء الثانى وهو «كتاب الإنسان.. الذنوب الكاملة» وكأنه يتأمل مسيرة الإنسان فى الحياه بعد انتهاء أعاصيرها وصراعاتها وهو لا يريد منها سوى إطلالة عليها وحيدا هادئا بعيدا عن حماقاتها«يكفينى من الحياة شرفة/ أشرب فيها الشاى على كرسى هزاز» ويقول «شرفة معلقة فى الهواء/ مثل طائرة صغيرة بدون طيار/ أطل منها على الناس فى الشارع» والحياة سوى ذلك لا تملك ما تمنحها له «أدلى السلة إلى بائع/ لا يبيع شيئا» والخوف من المصير وبما يدفعنا للتفكير فيه رحيل من نحب «أرمق الأفق الذى يقف خلف البحر/ كأننا رجلين فى حلبة مصارعة/ ينتظر كل منا أن يبدأ الآخر» وتتجسد مأساة الحياة الحقيقية حين ندرك عبث كل ما عشناه وبعد أن يمر العمر ندرك الحقيقة وأن ما اعتقدنا أنه سيكون زاد أيامنا القادمة هو ما سيقتلنا «تتراكم الأشياء/ تنمو وأتضاءل/ تسد باب الحجرة/ تتجمع حولى/ فى يد كل منها سكين» وبعد أن خاض معارك الحياة بكل ما فيها من سخرية وبعد أن ضاع العمر فى معارك الهياء أدرك الحقيقة «اشتريت العتبة وبرج إيفل/ ركبت الحمار باتجاه القمر/ خسرت معاركى مع الذباب»، «وفى النهاية عرفت أننى/ لست إلا بالونا فارغا/ يهوى من أعلى إلى أسفل» الحياة تفقدنا أجمل ما نمتلك وبفقد الطفل الساكن كل منا أن يعيد لنا اكتمالنا وبراءتنا «يركب طفلى جسدى/ لكنه أبدا ملا يعثر على القطعة الناقصة» وفى الجزء المعنون «كتاب الحيوان» قصيدة متصلة تشبه بكائية حزينة للذات لإنسان لم تهزمه الحياة ولكنها هى الحياة من لا تستطيع أبدا أن تستوعب براءته وجسارة قلبه على أن يحلم هى الحياة من تعجز على السمو لقمته العالية وهو الحياة من تبدو ضئيلة أمام قمته العالية.
.....................
نشر في جريدة القاهرة



02‏/01‏/2017

عن تراجع الشعر المصري والجوائز وقصيدة النثر

ثمة إقرار بسيط، يجب أن يفكر فيه المهتمون بالشعر في مصر، إذا أردنا أن نتجاوز عدداً من الإشكاليات التي تجاوزها العالم من زمن لكننا لا زلنا عالقين فيها، مثل الاعتراف بـ"شرعية" قصيدة النثر. الإقرار، هو أن حضور الشعرية المصرية المعاصرة أقل من حضور الشعرية في دول المغرب العربي، ولبنان والشام، وحتى بعض دول الخليج.
قد يكون هذا الإقرار صادماً لكثير من الشعراء المصريين، وقد يرد بعض المنحازين لفكرة "الريادة"، بالدور الذي لعبته مدرسة البعث والإحياء في الشعر العربي الحديث، والدور الذي قام به البارودي من تطوير للقصيدة العربية، أو قد يُذَكّر البعض بدور الشعراء المصريين في تطوير الشعر في بدايات القرن الماضي، ويستشهد بما قدمته مدرستي أبوللو والديوان، أو بأن "إمارة الشعر" كانت لشاعر مصري هو أحمد شوقي، لكن الحقيقة هي أن أزمة الشعر المصري بدأت بعد ذلك.
وبعيداً عن الصراع التاريخي حول نشأة قصيدة التفعيلة، وهل بدأت على يد العراقية نازك الملائكة، أم المصري محمود حسن إسماعيل، فقد كانت تلك اللحظة هي المحك الحقيقي للشاعرية المصرية، ففي حين توقف الشعراء المصريون عند هذه اللحظة لسنوات طويلة، سارع الشعراء في لبنان وسوريا إلى تجاوز هذه التجربة إلى تطور آخر هو "قصيدة النثر"، وبرزت ملامحها مع العدد الأول من مجلة "شعر" اللبنانية، مع أسماء محمد الماغوط، وأدونيس، وخليل حاوي، وأنسي الحاج، وشوقي أبو شقرا وخالدة سعيد، وغيرهم.
وفي الوقت الذي كانت تتطور فيه قصيدة النثر في الشام، وفي المغرب العربي الذي عرف قصيدة النثر مبكراً مع شعراء فرنسيين رواد لها مثل شارل بودلير ورامبو وملاراميه، غرقت مصر في قصيدة التفعيلة، التي شهدت انتكاسة عقب هزيمة يونيو 67، دفع ثمنها جيل السبعينيات شعراً، فغرقت القصائد في الغموض والتقوقع على الذات والإغلاق.
ربما لم تعرف مصر قصيدة النثر بشكل صحيح إلا مع جيل الثمانينات، الذي أسس لها مصرياً، ودفع ثمن ذلك بالتجاهل، ثم جاء جيل التسعينات ليعطيها الدفعة القوية، لتنطلق بعد ذلك.
تأخرت مصر ثلاثة عقود عن قصيدة النثر العربية، ويمكن أن نضيف إليهم عقدين آخرين من عصر مبارك، سقطت الثقافة فيها في فخ المؤسسة، فبدا شعراء قصيدة النثر متمردون خارجون عن السياق، مستبعدون من أية فعالية رسمية بشكل عام، فضلاً عن سبب آخر هو أنه في حين كانت بلاد المغرب العربي تمتح من الثقافة الفرنسية، وبلاد الشام تأخذ عن الثقافة الإنجليزية، شهدت الثقافة المصرية حالة من الانغلاق، حتى عن نظيرتها العربية، وبعد أن كانت مصر في الستينيات تصدر الثقافة، توقف الأمر تماماً، فتقدم الآخرون خطوات وظلت الثقافة المصرية ـ عموماً ـ مكانها.
لا ينفصل ما حدث في "ملتقى الشعر العربي" الأخير، الذي عقد بالمجلس الأعلى للثقافة، وموجة الاعتذارات عن الحضور، والصراع حول شرعية قصيدة النثر ـ بعد أكثر من 60 عاماً من كتابتها عربياً، عن ذلك. فالصراع ما زال قائماً، وتتضح معالمه في المعارك التي نسمع عنها في لجان المجلس الأعلى للثقافة. كما لا ينفصل عن عدم وجود جوائز مصرية لقصيدة النثرـ اللهم إلا جائزة أسامة الدناصوري، التي أطلقها أصدقاء الشاعر الراحل العام الماضي ـ سواء كانت جوائز من مؤسسة رسمية أو غير رسمية.

لكن رغم "التأخر النسبي" مصرياً، في قصيدة النثر ـ وهو ما قاله شعراء عرب كثيرون بالمناسبة ـ إلا أن هناك انطلاقة شعرية لافتة للانتباه، بدأت مع الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، وعودة التقارب الثقافي العربي ـ فيسبوكياً على الأقل ـ وأنتجت عدداً كبيراً من شعراء النثر المصريين الشباب، الذين صاروا بفضل التكنولوجيا يقرؤون نظراءهم العرب في الدول الأخرى، ويعيدون قراءة ما كتب وترجم على مدار السنوات الماضية، وربما يكون بإمكان هذا الجيل إجبار المؤسسة ولجانها على إعادة قراءة ما يحدث ويثور ويتفاعل خلف جدرانها.
...............