17‏/05‏/2007

الجستابو


قصائد الحب تبدأ عادة
بقمر يخنق حديقة
بعنكبوت يموت إكلينيكيا
بدمي يجر دبابتين
على أسنان دراكولا
فيما أسير في طريق طويل
لا تعترضني فيه سوى
جنازة مرحة
تسأل عن الطريق إلى رمسيس
فأرفع يدي وأشير إلى هولاكو
يغلق التلفاز
ويغير موضع المحبة في مقدمة الشقة
ولا يعرف ميرفت عبد العزيز

الحانة التي خلت علي
سأقاطعها
والذين كتبوا على الحائط
" للذكرى الخالدة "
سأبادر بنسيانهم
فور عبوري الشارع
والذي قتلنا في النادي اليوناني
سأوصي الخواجة " يني "
ألا يعطيه من البسبوسة التي
يخبئها في المطبخ من النازيين
الآن فقط أستطيع أن أكتب
فلا أحد هنا سواي
انصرفت الملائكة والشياطين
وجهي أزرق
الماء تبخَّر من البراد
ولا شاي في حوزتي
وقطتي تغفو خارج المنزل
في فم أفعى مرفهة

أريد أن أفعل أشياء لا طاقة لي بها
أريد أن يدهسني قطار
أن أبكي كالمجنزرات
أن أقتل ، أن أدمر ، أن أضحك
أن أزرع فمي بالديناميت
أرفع يدي للتحية
فتتطاير الأصابع
كقاذفات اللهب
أمشي فتخلف قدماي
آبارا وحفرا وبالونات مقتولة
أضحك فتتقافز الدموع
فوق الطاولة كقرد قعيد

أيتها السماء التي رعتنا طويلا حتى عرفنا
ميدان العتبة وال
pass woord
وطعم الدماء
هل يجب أن نتعذب طويلا
حتى ترضى عنا القصائد ؟

15‏/05‏/2007

نكبة جديدة في ذكرى النكبة













تذكروا جيدا أن اليوم هي الذكرى التاسعة والخمسين لنكبة فلسطين
تذكروا أننا لم نتعظ
تذكروا أن اليوم يشبه الأمس يشبه الغد ، إن لم يكن الغد أسوأ
تذكروا أننا منذ 59 عاما ونحن نقول أن فلسطين عربية ، ولا نزيدعلى القول فعلا
تذكروا أن القدس تبتعد عنا كل يو م أكثر من الذي سبقه
في البداية كنا سنلقي إسرائيل في البحر
ثم طالبنا بعودة فلسطين كاملة
ثم طالبنا بحدود 67
ثم طالبنا بالتعايش السلمي فقط
هل تبقى لنا ما نطالب به في الغد
فلسطين ضاعت ، وتضيع ، والقتال الفلسطيني الداخلي لا ينفض
اليوم نكبة جديدة ، في ذكرى النكبة

08‏/05‏/2007

محطة مصر.. مصنع البشر الذي لايتوقف عن الدوران

صفير قطار يتعالى، باعة جائلون يرفعون أصواتهم بالنداء على بضاعتهم، أحد الأشخاص يدفع ثمن صحيفة ويجري مهرولاً، أم تقبل ابنها وهي تودعه عبارة س.ح.م مكتوبة على أحد القطارات، صوت عامل المحطة.. يرتفع ليؤكد أن القطار قارب على الوصول.. شخص يجر حقائبه ويجري مهرولاً. يدان لولد وبنت يقبضان على بعضهما والدموع تترقرق في أعينهما، حمال يقترب من المارة ويهتف "حمال يابيه" محصل التذاكر سريعاً وهو يخبط بآلة معدنية على دفتره "تذاكر تذاكر"، فلاحون وصعايدة، ورجال ونساء، أطفال وشيوخ، مشاهير ومغمورون، لصوص وشرفاء، نجوم وكومبارس.. أجانب وعرب وأولاد بلد، عساكر يريدون أن يعودوا إلى بلادهم في انتظار القطار الحربي.. وطلاب ينتظرون قطاراتهم للعودة إلى بيوتهم.. وباعة لب وسجائر وفول سوداني ومناديل وكتب ممنوعة. باعة مصاحف وجرائد صفراء وكتب عن الأبراج والحظ وتعليم اللغة الانجليزية في أربعة أيام .. زحام.. أناس تجري. واناس تزحف، وعجزة ومتسولون وكرماء وبخلاء.. الجميع في انتظار القطار القادم.. يتدافعون أمام الرصيف في انتظار وصوله.. كل يحمل حقيبته في يده.
هذا جزء بسيط مما يدور في محطة مصر.. المحطة التي يرتادها جميع المصريين في مراحل سنية مختلفة من أعمارهم، ويدخلها ويخرج منها الآلاف يومياً .
محطة مصر هي مصنع البشر ، مصنع الحياة.. يدخلها جميع الأجناس جميع الفئات جميع الألسن والديانات ويختلطون ليكونوا مزيجاً واحداً اسمه محطة مصر.
محطة مصر تقع في أشهر ميادين القاهرة.. ميدان رمسيس، ومنها تنطلق القطارات إلى جميع محافظات مصر.. فالسياح يركبون منها ذاهبين إلى المحافظات الأثرية والصعايدة يعودون إلى مصر العليا والفلاحون يذهبون إلى الدلتا.. والذين من محافظات الإسماعيلية أو بورسعيد أو السويس يستقلون القطارات المتجهة إلى محافظات القنال.
ميدان رمسيس الذي يحيط بالمحطة يبتلع يومياً ملايين السيارات والمسافرين.. ينقل ضجيجه إلى قلب محطة مصر.
أشهر كائنات محطة مصر العساكر الذاهبين إلى الجيش، أو العائدين منه.. دائماً في ملابسهم الزيتية يتوزعون على أرصفة المحطة الإحدى عشر، ينامون على الأرصفة في انتظار القطار الأرخص والذي يسمح لهم بخصم على تذاكرهم.. ينتظرون القطار "الدرجة الثالثة" الذي تستطيع نقودهم أن تغطي تكاليفه والذي يستطيعون فيه أن يشتروا علبة سجائر رخيصة وولاعة "بنصف جنيه" وباكو بسكويت يأكلونه في سكة السفر الطويلة، وقد ينتظرون أيضاً "القطار الحربي" الأرخص والأأمن بالنسبة لهم.. وفي كل هذا لا ينسون أن يحترسوا من عساكر الشرطة العسكرية "يحافظون على ملابسهم وعلى الكاب فوق رأسهم.. ينظرون حولهم خوفاً منهم وهو يترقبون بشوق صافرة القطار الذي سيقلهم إلى بيوتهم يل\قضوا 24 ساعة يغسلون جلودهم ويغيروا ملابسهم ويأكلون "اللقمة نظيفة" قبل أن يعودوا مجدداً إلى التعب في "الجيش".

رصيف نمرة 5 هو اسم فيلم شهير لفريد شوقي، لكن الأشهر منه هو "رصيف رقم 11" هذا الرصيف الذي يعرفه كل من دخل محطة مصر، رصيف رقم 11 يخص الصعايدة فقط فعليه تجدهم بجلابيبهم المميزة. بكراتينهم المحملة بأحلام الصغار في لعبة أو "جلابية جديدة" أو "2 كيلو فاكهة" أو "عباءة للزوجة" رصيف رقم 11 هو الأشهر لأنه يشهد قصص الصعود والهبوط.
فعليه يصل الصعيدي غالباً صغيراً في العاشرة من عمره يجيء من قريته باحثاً عن عمل، عن لقمة عيش، عن طريقة للصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي. ويبدأ العمل من القاع ليصل في أحيان كثيرة إلى القمة.
رصيف القطار ليس له قلب، لذا فهو لا يكترث كثيراً بشهقات البكاء ولا الدموع التي تبلله حزناً على رحيل ابن للسفر بعيداً والخوف من ألا يعود.. أو توديع صديق بعد انفضاض قصة زمالة طويلة.. أو دموع فتاة تركها خطيبها أو زوجها وسافر للبحث عن مورد رزق جديد.. مابين صيحات الفرح، وشهقات البكاء تعيش أرصفة محطة مصر لكن كما قلت لكم يظل رصيف رقم 11 هو الأشهر.. ربما لأنه الأفقر.. ولأنه الأكثر أملاً، ولأنه ذلك الملقى بعيداً في آخر المحطة في انتظار من يغيثه.
الصعايدة تفاجئ عيونهم دائماً القاهرة من فوق هذا الرصيف، يدخلونها وكأنهم يدخلون كوكباً آخر.. كل شيء حولهم مختلف ، العادات والتقاليد والأحلام.. والأشخاص والمأكل والملبس، حتى الصداقة مختلفة لكنهم حين يغلبهم الشوق سيغنون "يابابور الساعة 12 يامسافر ع الصعيد، خد مني سلام وتحية وروح لحبيبي في يوم العيد" ، لكنهم أثناء عودتهم عادة مايكونوا قد اكتسبوا خبرة كبيرة.. وفقدوا أشياء في المقابل.. فقدوا أنفسهم.

من أشهر كائنات محطة مصر أيضاً طلاب الجامعة ، هؤلاء تجدهم طوال السنة الدراسية يتدفقون بالآلاف صباحاً على أرصفة المحطة ليلحقوا بجامعاتهم، أحياناً يأتون مبكرين.. إذا كان القطار يأتي مبكراً، لذا فهم يضطرون إلى الانتظار طويلاً، حتى تدق ساعة الجامعة بداية المحاضرات ، وهم عائدون ينتظرون أيضاً طويلاً القطار الذي قاموا بعمل "اشتراك" فيه، لتوفير المصاريف قليلاً على أهلهم.
على أرصفة محطة مصر تبدأ علاقات عاطفية كثيرة بين طلاب وطالبات الجامعة بعضها ينتهي بالزواج ، وبعضها ينتهي بالانفصال.. وبعضها لاتبقى منه سوى ذكرى.. قد يتذكرها أحدهما إذا ركب القطار يوماً بعد انتهاء الدراسة الجامعية فيبتسم .
تتعدد أرصفة محطة مصر بتعدد اتجاهات قطاراته.. وبتعدد وجوهه.. وبتعدد الأقدام المهرولة الذاهبة والراجعة تسأل "القطار الذاهب إلى الأسكندرية رصيف كام".
يفضل السياح أن يركبوا القطارات من محطة مصر لكي يروا وجه مصر الآخر.. وجهها الحقيقي، وجهها الذي تختلط فيه كل الوجوه فتنتج شعباً جميلاً مختلفاً فاتناً. وهم عادة يركبون من رصيف 8 القطارات المتجهة إلى أسوان والأقصر.. ويأتون في جماعات.. ينظرون في دهشة إلى هذه الوجوه الحقيقية لمصر.. هذه التي لم يروها في بوسترات الدعاية ولا الكروت الملونة الجميلة. يأتون في أفواج تصحبهم قوات أمنية لحراستهم.. مع أنهم لو تركوهم فلن يصابوا بأي أذى، فهنا لا أحد يلتفت إلى أحد هنا الكل يهرول بحثاً عن قطاره.
من معالم محطة مصر الشهيرة الساعة الكبيرة في ميدان المحطة، وباعة الكتب والجرائد الذين يلفون قلب المحطة والذين يبيعون عادة كتب أنيس منصور ومصطفى محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي وبعض الكتب الأجنبية، أشهر معالم محطة مصر "الحمال" .. ذلك الشخص البسيط الذي تجده يقترب منك ليقول "حمال يابيه" عادة يرتدي ملابس قديمة يسميها ملابس العمل يحمل الحقائب، ويهرول إلى القطار يعرف موضعها جيداً، ينفض يده ويقول "أي خدمة ياباشا" منتظراً رزقه.
الحمالون هم ملوك محطة مصر.. لهم ورديات، ولهم أماكن محددة، كل "حمال" له رصيف محدد لايستطيع تجاوزه، قدمهم المخرج يوسف شاهين في فيلمه "باب الحديد" والذي قام ببطولته مع الفنانة هند رستم التي قامت بدور هنومة.. ليقدم عالماً صعباً يدور داخل محطة مصر.. مليئاً بالحياة، الحياة التي لايلتفت إليها أحد.
أحمد، العسكري الذي أخذ أجازة 48 ساعة من الجيش كان ينام على رصيف 11، واضعاً حقيبته القديمة المليئة بالثقوب تحت رأسه، أحمد الذي يستيقظ على صفير القطار القادم من الجهة الأخرى على رصيف 4 من اسكندرية قال لي أنه أخذ أجازة 48 ساعة فقط سيعود إلى بلدته في المنيا (الصعيد) ليستحم ويأكل "لقمة نظيفة" ويجلب نقوداً قليلة لكنها ستكفيه لشراء السجائر وسندوتشات الفول من كانتين الجيش.
أحمد لم يعرف بماذا يجيب علي حين سألته هل يحب محطة مصر وأجاب "عادي" ثم أردف، لكن بصراحة حين أصلها أشعر بالراحة وأشعر أنني أصبحت قريباً جداً من بلدي.
على غير بعيد كانت أم تودع ابنها الذي يستعد للسفر إلى جامعة جنوب الوادي وتوصيه خيراً بنفسه، وبأن يأكل جيداً، وقالت لي : "التنسيق وداه آخر الدنيا".
دموع كثيرة تتساقط على أرصفة محطة مصر لكن أشهرها بلا ريب تلك التي سقطت حين احترق القطار المتجه إلى الصعيد منذ عامين، وبه مئات الأحلام لأشخاص كل ذنبهم أنهم حلموا يوماً بالسفر إلى العاصمة للبحث عن عمل دموع فرحة بلقاء الأحباب، ودموع حزن لفراق الأحباب.. والجميع يهرول بحثاً عن حقيبته، بحثاً عن عربته، بحثاً عن موطأ قدم.
محطة مصر تم انشاؤها عام 1851، لتصبح تاني أقدم محطة سكة حديد في العالم بعد خط السكك الحديدية الذي يربط بين مدينتي مانشيستر وليفربول في انجلترا، تحرك أول قطار منها عام 1856 متجهاً إلى الأسكندرية وتضم متحف السكك الحديدية الذي أنشأه الملك فؤاد عام 1933 ويضم بانوراما شاملة لقصة القطار في مصر من خلال مقتنيات أصلية وميداليات.
يتكون المتحف من طابقين ويحتوي على قطار الخديوي سعيد الذي أهدته له فرنسا عام 1862 وهو عبارة عن قاطرة وصالون ضخم ملحق به وظل حكام مصر يستغلونه حتى عام 1898 للذهاب به إلى الأسكندرية في الصيف فقط أما الطابق الثاني فيحتوي على نموذج قطار صنع في الخمسينيات في القرن الـ19 واقتصر استعماله على العائلة المالكة فقط.
أتجول في المحطة.. مستمعاً إلى صفير قطار قادم.. صوت الميكروفون يرتفع باسم رقم القطار واتجاهه.. صديق يلوح لصديقه.. أم توصى ابنها.. رجل يهرول ناحية شباك التذاكر.. رجل يقرأ تذكرته فتاة صغيرة تحتضن كراريسها وفي عينيها نظرة حزن.. القطار يقترب وعليه حروف "س.ح.م" اختصار سكك حديد مصر.. يتعالى الضجيج.. تتوه الملامح والأحلام والبشر.. أردد أغنية قديمة "ياوابور قل لي رايح على فين".

06‏/05‏/2007

عدت يا يوم مولدي


أفقدني
من أربع سنوات
أتناقص كل مساء
وأزيد قصيدة
يأتيني الحزن كرمح أعمى
ويمر الموت على أطراف أصابعه
فلا أسمعه
لست مناضل هذى المدن الصماء
لست جحا
لست هرقل ولا عيسى
لست أنا
لكني كل مساء أفقدني
فأغني لغيابي

03‏/05‏/2007

عين طفل تتجول بين فضاءين

عين طفل تتجول بين فضاءين
قراءة في ديوان " قوم جلوس حولهم ماء" للشاعر محمد أبو زيد
*جمال القصاص
عالم من فانتازيا الواقع، ولغة نصلية حادة، مفعمة بمشاعر الوحشة والفقد والألم، يظلل مناخات قصائد ديوان "قوم جلوس حولهم ماء" للشاعر : محمد أبو زيد، الصادر حديثا عن دار شرقيات بالقاهرة.
يتوزع أفق الرؤية في الديوان بين فضاء المدينة بصورتها الجهمة وتناقضاتها المميتة وناسها الخبثاء الأشرار، وبين فضاء القرية مخزن الأحلام والشهوات الأولى، وصورة العائلة التي تتراءى كبقايا غيوم منطفئة. وبعين طفل يتحرك الشاعر ما بين الفضاءين حاملا عذاباته وقلقه الفطري ، يموهه أحيانا بنثارات لدلالات وجلة و مرتعشة ، وأحيانا يحجبه منحازا إلى نور حنين يشع في داخله، تاركا لنا على الصفحة ظلا ساجيا لروحه، وحلما محبوسا في اندفعات شرايينه على لوحة العالم والواقع التي لا تنز سوى الحزن والكآبة.. يجسد ذلك قائلا:
"أحيانا
أنفخ في زجاج المترو
حتى يجيء البخار
فأكتب اسمي
واسم قريتي بحروف منمنمة صغيرة
ترتجف من الصقيع
أحيانا أربت على المراكب الراحلة
وأنا أغمس عيني
في أكواب البكاء"
يواجه الشاعر مدينته بحزمة من التعبيرات الصارخة الصادمة، وتشيع في القصائد التضادات المتوترة، كما تنتمي الصورة الشعرية لغويا وبلاغيا لمفارقات النتوء والشروخ والحافة.وتبدو القصائد أشبه بمرثية لشيء اختفى ، أو اندثر، أو ضاع، أو على وشك أن يصير كذلك،ولكنها مع ذلك تظل سلاحه الأعزل الوحيد حتى لصيانة هباء الذات.
في هذا الجو يعيد الشاعر الاعتبار إلى القيم المذمومة، فتطل دلالات ورموز الاحتقار، والابتذال والتقزز والاشمئزاز والقبح، ويوظفها في سياقات وصياغات ذات حيوية خاصة .. إنها مدينة تشبه الخرافة والمقبرة والأشباح حين يخاطبها الشاعر ويتحداها ويبادلها خوفا بخوف يكتشف أنها مجرد "قبور ملونة تصلح للدفن" بل إن عيون مصابيحها مفقوءة من كثرة "الجراد الذي يتجشأ الأرصفة" من كثرة "الأطباق التي امتلأت بالجماجم" وفي مرآتها دائما يرى نفسه "وحيد بما فيه الكفاية كدودة قز في فم ثعبان".. ولا غرو إذن أن يخاطب ناسها الغرباء، بل يستعطفهم "أيها الغرباء/ أحسنوا/ ضيافة حزني/ فهو طيب كحمامة/ هادئ كصنم/ مسالم كميت".
في هذا الجو يتكشف إيقاع المفارقة، ويتخذ شكل الضربات الخاطفة الواخزة، وتستحضر الصور الشعرية الآخر بضمير الأنا المفرد، والعكس صحيح. ونلاحظ أن هذا الإيقاع- في الغالب الأعم- ينبع من شبكة العلاقات والدلالات والرموز التي تفيض عنها القصائد، كما أنه ليس شيئا ناتئا أو خارجيا مقحما عليها، وهو ما يكسب المفارقة حرارة السؤال الملتبس المتعطش لما وراء الأشياء والعناصر، ويعصم في الوقت نفسه، الرصد المشهدي من التململ فوق حافة الحالة، ويشده إلى فضاء أكثر عمقا، تومض فيه الطبيعة كمقوم فني وإنساني، له جمالياته، بل فوضاه الخاصة، وهو ما يعبر عنه الشاعر في إحدى القصائد موحدا ما بين حزنه والبحر قائلا:
" رمال ميته/ موج نذل/ مراكب محطمة/ صيادون غرقى/ هلب تخنقه الطحالب/ أسماك مسممة/ نفط سائل يلتهم أحشاءك/ غربان تنعق فوقك وقمر يخيفك بفضته.. كل هذا وتقول إنك وحيد يا بحر".
وفي استعادته لأجواء القرية، يميل الشاعر إلى الممازحة واللعب، ويتخفف من نبرة السخط والاستغراب في مواجهته المدينة، ونحس بأنه لم يعد غريبا محبوسا في وحدته، أو حتى قصيدته والتي تتخفف بدورها من التضادات المتوترة، وتبدو مغمورة برزاز فانتازيا رشيقة، ووعي شقي، كما تتري المفارقة بروح كاريكاتورية عذبة.. في هذا الإطار يلملم الشاعر ظلال بورتريه لجدته قائلا:
" جدتي منذ أن مات جدي تخشى الظلام
مع أنها في غارات هتلر لم تصرخ
عندما سقط الشباك صريعا تحت قدميها
ولم تخف طوال عمرها من الفئران والصراصير
والذين سرقوا بقرتها في السبعينيات ندموا كثيرا
لانها قرأت عليهم "عدة ياسين"
أحدهم وجدوه منتحرا
والثاني لم يجدوه أصلا".
ولا يتوقف أفق الرؤية في الديوان عند هذين الفضاءين، لكنه يشتبك ويتقاطع مع قضاءات أخرى، سواء في رموز أشخاص بعينهم مثل: سلفادور دالي،ويوسف شاهين، ونجيب الريحاني ، وسعاد حسني ، ومحمد منير ، وغادة نبيل .. وغيرهم.أو في إشاعة جو من التناص الشفيف مع أشخاص مفترضين مثل شخصية ميرفت عبد العزيز. والطريف أن الشاعر لا يستحضر كل هؤلاء الشخوص من قبيل الفذلكة الشعرية، وإنما ليوسع مدار رؤيته بجعلهم نوافذ رحبة يتلصص منها على ذاته، ويفرح بلحظات شطحها ونزقها، حين تستعصي الرؤية أو تضيق العبارة عن احتواء ما يمور بداخله.إنه يشعر حينئذ بأن ثمة ورطة شعرية رشيقة وشجية تنعقد خيوطها بينه وبين هؤلاء الشخوص ، وليس مهما أن يفككها، بل المهم أن يلعب على خيوطها ،ويتلوها على نفسه كتميمة ضد الموت وشبحه الذي يسكن دائما خطاه، ويجعله يتخيل نفسه عجوزا ، يتسند بعكازه الهش على عتبته، منتظرا أن يلفظ الصرخة الأخيرة في وجه حياة تزداد كآبتها كل يوم .وهو ما يجسده بتهكم وسخرية في قصيدته " ينادونني في الشارع : يا ميت " حيث يناجي نفسه على هذا النحو :
" قل لي :
لماذا لم تنم منذ أسبوع
لماذا أنت محني الظهر
بلا صديق أو حبيبة
بلا عصا تدلك على الطريق
بلا أسنان تصنع الابتسامة
بلا هاتف يرن ليطمئنك أن في الحياة خيرا
أم أن أربعة وعشرين عاما أكثر مما يجب ؟ "
من الأشياء المهمة في هذا الديوان الوعي بإيقاع المشهد، واختزاله في خطوط وومضات لغوية خاطفة أحيانا ، وأحيانا أخري تنداح رأسيا في تكثيف سردي محكم ، يطرح الأشياء والعناصر في شكل سؤال مفتوح دوما على البدايات والنهايات ،لا يبحث عن إجابة أو يقين، وإنما يوحي لك بأن تعيش رقة المشهد وتتفاعل مع تداعياته وتعبث بظلالها، وتتحسس فيها حريتك وشهوتك الأولى .. يقول في إحدى القصائد:
" لم يكن يعرف يوسف شاهين
ولا يحب الزيت في الطعام
ولم يردد يوما كصوفي :
" لا تعترض فتنطرد "
لذا.. حين رأى الباب مفتوحا
مرق خالعا حذاءه
حتى لا يسمع نحيبه أحد ".
يعضد هذا الإيقاع تعامل الشاعر مع المكان ونظرته إليه ككائن حي يتنفس الأزمنة والبشر والعناصر والأشياء ، وليس مجرد حيز ومساحة وجغرافيا، إنه مرآة يتأمل فيها عزلة الإنسان ووحدته ، ومرثيته لذاته وواقعه ، وهو ما تشير إليه قصدية التشكيل المراوغة في عنوان هذا الديوان الجميل، وما توحي به كذلك من سكونية مشمسة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في مجلة الشعر *