28‏/12‏/2011

مدهامتان

عن دار شرقيات بالقاهرة، صدر ديوان "مدهامتان"، للشاعر محمد أبو زيد والذي يحلق من خلاله في أجواء صوفية، مستدعيا التراث الإنساني في كافة تجلياته، وخالقا قصيدة أقرب إلى البكائية لعالم يتهشم، تاركا الإنسانية عارية على الهامش، من التفاصيل الصغيرة ينطلق الشاعر في رحلة الرثاء للقصيدة المتمسكة بذاكرة الماضي، إلى القصيدة المفارقة للذات، وتشتبك بالآني الدامي والقاتل.

الديوان الذي يعد السادس للشاعر في مسيرته الشعرية، يشتبك من خلاله مع مفاهيم الشعرية المطروحة، وطريقة كتابة القصيدة الحديثة، وارتباطها بالهم بالعام والذاتي، ومفارقته للتراث الشعري العربي من أجل كتابة قصيدة مختلفة، وينقسم الديوان إلى خمسة أقسام، محمد ذهب إلى الحقل، فك رقبة، الخوارج، القصائد المرة، أحفر مقبرتي وأغني، القصيدة الأخيرة

محمد أبو زيد : شاعر وروائي مصري ، ولد في سوهاج (صعيد مصر ) عام 1980 ، حاز عددا من الجوائز الثقافية داخل مصر وخارجها، يرأس تحرير موقع الكتابة الثقافي ، صدرت له ستة دواوين شعرية ورواية: ثقب في الهواء بطول قامتي 2004هيئة قصور الثقافة ، قوم جلوس حولهم ماء 2005 عن دار شرقيات للنشر ، نعناعة مريم 2006 ديوان للأطفال عن كتاب قطر الندى ، مديح الغابة 2007 الهيئة المصرية للكتاب ، طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء 2008 دار شرقيات ، أثر النبي (رواية) 2010، دار شرقيات.

ومن أجواء الديوان :

أصبحت أخاف

الكلاب الساكنة والمراهقين

أهتم بالنظارات وقياس الكوليسترول

بمصادقة طبيب عظام جيد

بأسعار المقابر في صحف الصباح

أصبحت الأشياء العادية مستحيلة

وكوب الشاي أبعد من المطبخ

رتيبة كاهتزاز القطارات الفقيرة

مُرٌة كفقدان الأحبة كل أسبوع

بعيدة ..

بعيدة كالحياة

07‏/12‏/2011

الطفولة ..خزانة الكتابة


طفل صغير ينطلق على دراجته ، الزرقاء صينية الصنع ، كل يوم من قريته الصغيرة في وسط الصعيد إلى المدينة لاستكمال دراسته الإعدادية ، و لشراء الكتب القديمة ، ومبادلتها ، أو استئجارها باليوم ، قصص تنابلة السلطان وكابتن ماجد ، وسلاحف النينجا ومجلة كابتن سمير ومغامرات عم دهب ، وقصة علاء الدين والمصباح السحري التي كانت مقررة علينا في الخامس الابتدائي ، وأهل ، أصدقاء ، ووجوه طيبة، وغيطان خضراء ، ومقابر تحتضنها البيوت ، وسكة حديدية يمر قطارها وهو يطلق صافرته المميزة ،وذكريات عن رصاص يتطاير في الهواء وطلقات تقطع صمت الليل في عمليات ثأرية بين عائلات متناحرة ، وسور أولى من القرآن الكريم أبدأ في حفظها ، وموت أقارب ، وسينما قديمة متهدمة ، وكسر في الذراع اليسرى لم يختف أثره بعد ، وساقية تدور كل أسبوعين ، وموسم قطف القطن ، وأغان للريس حفني ناصف والشيخ ياسين التهامي ، وأول قصيدة تنشر في مجلة محلية ، والعودة إلى البيت طائرا من فوق الدراجة ، وتفاصيل أخرى كثيرة أسترجعها الآن ، لم تمح من الذاكرة ، بل أصبحت زادا للكتابة، للتأمل ، للهروب من الواقع في أحيان كثيرة .

أدرك الآن أننا ككتاب أبناء لطفولتنا ، لذكرياتنا ، المرتبطة دائما بمرحلة عمرنا التي اختزنا فيها خبرات كثيرة ، لم نكن ندرك ذلك وقتها ، لم نفعل ذلك قاصدين ، ومن أين لنا أن نعرف ، لم نكن ندرك أن تلك الأيام التي تنقضي رويدا رويدا ، أن الأحداث العادية فيها ، الابتسامات الصغيرة ، الهزائم العادية ، الصداقات الطفولية , السهرات العادية ، ستضحي زادا لا ينتهي للكتابة ، ودليلا من جهة أخرى على البراءة .

لماذا يلح علي الآن أن معظم الكتاب المجيدين سواء كانوا في القصة أو الرواية أو الشعر هم أبناء لقرى أو مدن بعيدة عن العاصمة ، ربما لم يكسر القاعدة سوى نجيب محفوظ الذي تربى في العاصمة الفاطمية ـ فولكلورية الملامح ـ أما البقية الباقية فهم أبناء لقراهم ، لمدنهم ذات البعد الإقليمي أيضا ، أبناء لسماء تظهر واضحة جلية ، لصحراء شاسعة تقول الكثير ، لنيل يحكي لمن يسمع ، لأرض خضراء وصفراء ، وتحمل ألوان قوس قزح ، لماذا لم تنجب المدينة كتابا لها إذن ؟ هل لكونها مدينة آلية تحول من فيها إلى ماكينات دخل في ذلك ؟ ، هل أبراجها العالية التي تكتم على الأنفاس ، هذا ما أحسه ، زحام شوارعها ، سرعتها الجنونية ، تمنع الإبداع ، أم أن قرانا ، بالبراح أمامك ، بالتاريخ ، والحكايات التي تسمعها ، والقصائد التي تراها منحوتة على وجوه الناس هي التي تعطيك الفرصة للإبداع و الكتابة .

أعتقد أن القرية ، لم تغادر أيا من الكتاب الذين غادروها ، يعودون إليها كلما افتقدوا أنفسهم ولو كتابة ، يكتبونها ، أم تراها تكتبهم ، يخلدونها ، كما خلدتهم من قبل ، يهربون إليها عندما يشعرون بالوحدة ، ربما ليتحدوا بها المدينة ، لتعضدهم في التحدي .

في قصيدة لي بعنوان "جثث وحيدة " نشرتها في ديوان " قوم جلوس حولهم ماء " " قلت " " أيها الغرباء ، أحسنوا ضيافة حزني ، فهو طيب كحمامة ، هادئ كصنم ، مسالم كمَيِّتٍ " كنت أتعامل مع أصحاب المدينة أنهم الغرباء ، هم الغرباء بالتأكيد عني ، لكن بعد فترة يصبح البون شاسعا ، أصبح أنا الغريب الذي يهرب من غربته إلى قصيدة في مديح الطفولة ، أو في هجاء المدينة ، لذا تكمل القصيدة "" إذن ، حاولوا ألا تتذكروا أولادكم ، ولا غبار شارعكم، ولا نكتة ألقاها جنى، فضحكتم عليها حتى الصباح ، ولا القلق ينبت في أعينكم ، وأنتم تنتظرون ، خروج زوجاتكم من غرف الولادة ، حاولوا ألا تتذكروا مقهى بلدتكم ، ولا حلاقها الذي يجرحكم متعمدا ، فتنزفون ضحكا ، أيها الغرباء ، أشعلوا في ذاكرتكم النسيان "

تصبح التفاصيل الصغيرة ، أبسط التفاصيل دليلا على الحنين والهروب ، نبتسم عندما نجد شخصا ينطق حروفه بالجيم المعطشه ونسأله على الفور " إنت منين ؟ " ، وفي البداية نرفض شراء الطبعات الأولى من الجرائد ليلا لأننا تعودنا على قراءتها صباحا ثم ينتهي كل شيء بعد سنوات "" لا تشتروا جرائد الغد الآن ، ففي بلادكم تقرؤونها في موعدها ، وليس في الليلة السابقة ، حاولوا ألا تركلوا السيارات ، فهي عنيفة كذئب ، وانتم طيبون ، طيبون كسحابة ، سرقت منها الأجنحة "

كلما ابتعدت في العمر عن فترة الصبا ، كلما اشتقت إليها أكثر ، وكلما حاولت المدن الأسمنتية أن تأخذنا من طفولتنا ومن قريتنا ، من براءتنا ، كلما اقتربنا منها أكثر ، الكتابة تجسيد لهذه البراءة .

في أحيان كثيرة أتساءل وأنا أتصفح موقع يوتيوب ، أو موقع الفيس بوك عن هذا الكم الكبير من المجموعات التي تعيد نشر مقاطع فيديو لفترة الثمانينات ، سواء كانت أغان أو كارتون أو برامج ، حيث عشنا طفولتنا ، وهذا الإقبال الكبير عليها ، هل هو الحنين ، هل هي النوستالوجيا لزمن براءة نفتقده ، أم هو عدم قدرة على التعايش مع معطيات الوقت الراهن ، فنضطر للهرب .

شذرات صغيرة ستجدها في ديواني الأول " ثقب في الهواء بطول قامتي " عن الطفولة والقرية، ربما لأنني كنت وقتها قريبا منها ،فلم أكتبها جيدا ، لكني لما ابتعدت عنها ، صارت معظم شخوصا أبطالا في ديواني الثاني " مديح الغابة " ، وديواني الثالث " قوم جلوس حولهم ماء " ، سواء كان بالتلميح أو التوضيح . عندما أرى أمام كتاب في الطريق لدى باعة الكتب القديمة ، قرأته وأنا صغير ، أتوقف ، أتوقف طويلا ،أشتريه وأعيد قرأته ، حتى لو لم يكن له قيمة كبيرة ، لكنه بالنسبة لي يمثل جزءا من ذاكرتي .

قريتي قد لا تبين لها معالم واضحة في قصائدي ، لكنها تلعب دور المحرك للقصائد ، تلعب بعاداتها وتقاليدها ، وحكاياتها ومآسيها دور عين الصقر الذي يرى الواقع الآن ويعلق عليه ، دور الراوي الذي لا يقوم بدور في الرواية لكنه يعرف كل شيء ، ما مضى وما جاء وما سيحدث .

ديواني الأخير ، لم استطع أن أكتبه في المدينة ، كلما حاولت الكتابة أفشل ، كنت أستغل فترات سفري القصيرة للعمل في مناطق مختلفة خارج القاهرة ، في أماكن مفتوحة ترى السماء تشبه قريتي جاءت قصائد الديوان هجائية لتغول المدينة داخلي ومرثية لطفولتي ولي .

الآن ، أبتسم عندما يسألني قاهري عن مكان ما وسط العاصمة الواسعة الشاسعة ، وأجيبه كواحد منها ، لكني في الحال أعود إلى شوارع ترابية وبيوت صغيرة مبتسمة ، أعود إليها فقط وقت الكتابة ، أردد مع من لست أذكر اسمه بيني وبين نفسي " ردني إلى بلادي " .

26‏/11‏/2011

وسعوا من وش العقلاء..في العباسية


لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر "يخلع"، قيصر جديد. المجلس العسكري ما زال يسير على خطى مبارك، الذي تربى في كنفه، بالمسطرة، رئيس وزراء من عهد مبارك، ومظاهرة لتأييده من أنصار مبارك أيضا.
لا تحلموا بمجلس عسكري يأخذ قرارات ثورية أو يحل الأزمات بطريقة حاسمة، فالعسكري قرر أن يحل أزمة حكومة الإنقاذ الوطني بأن جاء بكمال الجنزوري، رئيسا للوزراء من على الرف الذي تركه مبارك، رافضا أن يأتي بالبرادعي الذي طلب صلاحيات "رئيس وزراء" حقيقية، لا أن يكون مجرد "سكرتارية" للمجلس.
المجلس العسكري ما زال يسير على خطى مبارك، ليس في قتل المتظاهرين، أو اختيار وزراء مبارك رؤساء لوزاراته فحسب، وإنما في حشد أنصاره، ليعلن أن له مؤيدين، لكنه قرر أمس أن ينقلهم من ميدان مصطفى محمود، إلى ميدان العباسية، بما يحمله ذلك من معان، ربما لقربه من المنشآت العسكرية، التي تواجهها عددا من المباني الحكومية، منها على سبيل المثال لا الحصر، مستشفى العباسية للأمراض النفسية.
المفارقة التي تؤكد أن المجلس العسكري يسير على خطى مبارك، هي أن من كانوا يؤيدون مبارك، أصبحوا يؤيدون العسكري الآن بدلا منه، ف"نزلاء" ميدان العباسية أمس، الذين رفعوا شعارات "إحنا آسفين يا عسكري"، لم يختلفوا كثيرا في عددهم الضئيل عن الذين رفعوا قبلهم، شعارات "إحنا آسفين يا ريس"، هي نفس الوجوه التي كانت تدين بالولاء لمبارك، ولكنهم قرروا هذه المرة أن ينقلوا أماكن تواجدهم من "شقة واحد صاحبهم"، ومن ميدان مصطفى محمود إلى ميدان العباسية، صغير المساحة ، والذي لا يصل حتى إلى نسبة 5 في المائة من مساحة ميدان التحرير.
هذه المساحة الصغيرة، والعدد الضئيل "لمرضى" الحكم العسكري، في "العباسية"، لم تشفع للتليفزيون المصري حتى يقول الحقيقة هذه المرة أيضا، بل أصر على مواصلة انحنائه لمن يملك، وتزييفه للحقيقة، حيث قسم الشاشة إلى نصفين، نصف للتحرير بدت فيه الصورة بعيدة غير واضحة المعالم، ونصف للعباسية، قامت الكاميرات بتقريبه، حتى يبدو عدد مريدي "العسكري"، كبيرا وواضحا، ومهولا.
الأمر لم ينته عند الصورة التي ينقلها التليفزيون المصري، فالمتحدثون والمراسلون، ظلوا يتحدثون عمن في العباسية، وكأنهم صوت العقل، الذي يريد الاستقرار، وهو ما يستدعي إلى الأذهان أوبريت العقلاء، في فيلم إسماعيل ياسين الشهير، الذي يقول "وسعوا من وش العقلاء".
ورغم العدد الضئيل لمحبي "العسكري"، في العباسية، فقد تردد، أن عددا كبيرا منهم، ما هم إلا بعض الجنود والمتقاعدين من العسكر الذين يرتدون زيا مدنيا، الذين يسكنون، بالمناسبة أيضا، في عمارات "الجيش"، القريبة من العباسية، وهو ما يذكر بما يفعلونه أيضا في مباريات طلائع الجيش، التي يرتدي فيها الجنود، ملابس مدنية، ويجلسون في المدرجات لتشجيع "زملائهم".
المشهد الذي بدت عليه مصر أمس، في ميداني التحرير، والعباسية، وأصر التليفزيون المصري على تأكيده، يؤكد أن مصر تسير إلى انقسام، بدأه المشير طنطاوي حين أكد في خطابه أنه قد يدعو إلى استفتاء حتى يرحل عن الحكم، واكتمل المشهد أمس بانقسام مصر إلى فريقين، واحد في "التحرير"، والثاني في "العباسية". وربما يكون لكل ميدان نصيب من اسمه.

25‏/11‏/2011

"مش فاضل حاجة" .. عدودة في رثاء الحياة

محمد أبو زيد

مثل عدودة جنوبية محملة بالحزن والفقد والألم، يأتي ديوان الشاعر محمود فهمي الأخير "مش فاضل حاجة"، الصادر أخيرا عن "دار العين"،عدودة للحياة، يرثي فيها الطفولة، والعمر، والأصدقاء، والذات، والحلم.

فكرة العدودة تتبدى أول ما تتبدى في الدلالة التي يعطيها اسم الديوان، الانتهاء، لا شيء متبق، قد يكون الذي انتهي هو العمر، قد يكون هو الذكريات، والحنين لزمن ماض يراه الشاعر جميلا، قد تكون الطفولة التي لم يتبق منها سوى قصائد يكتبها الشاعر، "مش فاضل حاجة"، قد تشمل أيضا "مش فاضل حد"، فتبرر وحدة الشاعر في قصائد الديوان، وربما يكون الذي قد انتهى هو أغنيته، التي تشبه ما ضاع منه كما يستدل بفؤاد حداد، فالشاعر الذي يعاني من الوحدة والانعزالية، يكتبها في قصائده، وربما تكون امتدادا لديوانه الأول الصادر قبل سبعة أعوام باسم "لوحدك"، حالة الديوان التي رصدها الديوان الأول، استمرت في الديوان الثاني وإن كانت بنضج أكبر، فالشاعر الذي يواجه العالم، الذي لم يتبق منه شيء، يواجه منفردا وحيدا، بقصائده، كفارس يحارب منفردا طواحين الهواء

يشعر قارئ الديوان من الوهلة الأول أن كاتب الديوان رجل في آخر أيام عمره، يترك مرثيته لهذا العالم، في قصيدة، وفي قصيدة أخرى يتشبث بالطفل الذي كان بداخله، لينقذه، لينقذ أحدهما الآخر، بل هو يتلبس هذا الطفل، عبر حالة من الحنين ، والشجن المؤلم.

الديوان قسمان، الأول اسمه "ريحة البن اللى جايه م الماضى"، يبدو فيه الشاعر كعجوز في غرفة مظلمة، يبحث فيها عن مخرج بالذكريات "ماسك فى ديل الطفولة، خايف تروح منى"، الطفولة هنا، ليست مجرد مخرج، بل هي الذاكرة التي تشعره أنه لا زال حيا، الطفولة هي الأم، التي يمسك في ذيل ثوبها، تماما كما يفعل الطفل مع أمه في سوق كبير يخاف أن يضيع منها، بالضبط تبدو حالة الشاعر هنا، تمسكه بالحياة ذاتها هو تمسكه بتفاصيل هذه الطفولة، بحلوها ومرها، الطفولة هي التفاصيل التي لا تنسى، العالقة في الذاكرة كشمس تطل من السماء فتنير "فرحان بمنظر لمة الكتاكيت/ على السطوح / والشمس فى يناير/ والراديو داير ع الاغانى /وصوت/عبد الحليم طالع من المنور/ماتغرقينى فى دنيتك اكتر" هذه الغنائية الجميلة في هذه القصيدة تكشف عن مدى فرحة الشاعر باستعادة هذه التفاصيل، هذه الطفولة، والغناء لها.

الذكريات التي يسترجعا محمود في القسم الأول من الديوان يدرك في الجزء الثاني منها أنها انتهت ، وإنه "مش فاضل حاجة"، كما يسمي القسم، الذي يبدأه بقصيدة غاية في الإيجاز، والتكثيف و الجمال "ليه /دايماً باحس بغربه / والمترو / بيسيب الرصيف/ وبيبعد"، فليست الطفولة وحدها هي التي تترك الشاب العجوز، بل هو المترو، الذي قد يكون محملا بالذكريات، والصورة التي يرسمها محمود بهذه القصيدة، هي صورة شخص واقف في محطة المترو، ولا أحد سواه، فيشعر بالغربة، الغربة تجاه هذا العالم الذي تركه وحيدا، وانصرف، العالم الذي بلا طفولة ولا ذكريات حقيقية، هذه الذكريات التي ضاعت في قصيدة أخرى" بعد مااتشال مترو مصر الجديدة / واتشالت محطة القياده المشتركة / ومعاها / أكوام من الذكريات/ اللى سبناها عليها".

الذكريات في القسم الأول، تتحول إلى إغراق في التفاصيل في القسم الثاني، وإقامة علاقة مع هذهالتفاصيل ، حتى لو كانت كلمة مكررة مثل "مساء النور"، مثلما في قصيدة مطلوب فتاة العمل، وانسحاب تفصيلة من هذه التفصيلة، قد يهدم كل تفاصيل الحياة التي غزلها، والصورة التي التقطها.

يركز محمود على تفاصيل الحياة الصغيرة، يرسم عالما ومكانا قبل أن يبدأ الكتابة ، فأنت ترى تفاصيل المنزل الذي يسكنه، أو تسكنه الروح الطفلة، أو تسكنه شخوص النصوص"الاوضة الضلمة / اللى فى بير السلم / يخبى جواها الكشاكيل"، والسينما "الدرجة التالتة / اللى بتعرض اربع أفلام"، و "وانت داخل من باب الشقه / هتلاقى على شمالك أوضتين/ سيبك م الاوضه الاولانيه / الاوضه المقفوله ع الصالون المدهب / خليك فى الاوضه التانيه/ الاوضه الصغيرة / اللى فيها بلكونه / فى ركن منها هتلاقى الزرع"، هو يسحب القارئ من يده ليدخل معه عالمه الخاصة، ويحذره بحميمية "ماتقعش / بسبب سلمه مكسورة /مابين الدور التالت والرابع / متهيألى / انك / حفظت أماكن القطط/ اللى نايمين ع السلالم / فبلاش تقلقهم"

محمود قد لا يكتفي بأن يلتقط صورة، ويغزل منها عالمه الشعري، أحيانا يخلق هذه العالم ويرسمه كما في قصيدة " لوحة ناقصة"، حيث "رسمت شارع / وميدان واسع / ورصيف طويل / مشيت عليه بنات حلوين جداً / وقعدت على القهوه اعاكس فيهم / لحد ما واحده منهم ابتسمت لى / نسيت احاسب الجرسون / وفضلت ماشى / ماشى / ماشى / لحد ما خلصت الصفحه".

وفي القصيدة التي تحمل اسم الديوان، يتأكد هذا المعنى، فالبيت القديم ، الذي يحمل ذكريات الطفولة يتحول إلى شاهد قبر، وحكاية الحب القديمة، وكل التفاصيل الصغيرة التي يرويها لا يتبقى منها سوى "سور حديد لجنينه اتردمت "، والحديقة التي تعبر كلاسيكيا عن عالم جميل ، تم ردمها، تماما كميت يدفن، ثم يغطى بالتراب.

الديوان في مجمله يبدو قصيدة حب غير مكتملة، لحبيبة غائبة تماما، يراها الشاعر ويتحدث معها، لكنها لا تتحدث أبدا، يصفها الشاعر في قصائده، لكنها لا ترد، لا تظهر، لا تتحرك، "جوه بحور العطر من صوتك/ حتى سكوتك /يشبه الاحلام"، لكنه يعيش هذه الحالة من الحلم الدائم في قصة الحب غير المكتملة، التي تبدو من طرف واحد في كثير من الأحيان، "ليه بسمة البنت الجميله/ الصبح/ ربكتنى ؟؟/ خلتنى أبدأ نهار / ماهوش معقول"، لكن هذا الطرف الآخر لا يتحرك إلا في الحلم، فيتحول هو إلى حالة الثبات "باحلم على حجرك انام/ وتفردى شالك غطا/ وتفردى كفك يمام/ شدينى من وسط الزحام/ ودينى دنيا بتبتدى بيكى الربيع"، هذه الحالة من التشبث بالحبيبة، بالوطن، بالطفولة بالأم، يبررها في نهاية قصيدة جنة الحواديت "انا مش هاضيع/ لوحضنك الدافى الوسيع/ بيضمنى وقت البكا".

الحبيبة لدى محمود "بنوته تشبه للقمر / بنوته تشبه للصباح/ تفتح ضلام الشباكين/ تطلق عصافير الغنا"، والحب يرتبط بالحنين إلى الماضي، بحكايات ناقصة "انا اللى سرحت روحى/ مع ريحة البن اللى جايه م الماضى"، وربما هو الإحساس بالعمر الذي يضيع، وينفلت من اليد "صوت خطوة البنت ع الاسفلت/ خلانى لـيه انشـغلــت/بلحن لغنوه منسية"، قصة الحب ليست لفتاة واحدة فهو "واقف ع الرصيف/ استنى البنات / اللى خارجين م المدرسه الثانوى/ يمكن تكون فيهم بنت / بتشبه لايناس"، و "البنت / اللى باتعمد اسيب كل الاماكن /اللى فى المترو/ واقف قدامها/وهى بتتكلم مع صاحبتها / وبتحاول تهرب بعنيها / من نظراتى".

الاحتفاء بالحب بهذا الشكل في الديوان، يكشف عن شعور عارم بالوحدة في بقية الديوان، وهذه الوحدة، ترتبط بحالة البرودة، والاحتفاء بالشتاء في معظم القصائد" ازاى راح اوصف ؟/ طعم الصباح الدافى/ فى نص يناير البردان"، فالشاعر المهزوم، الذي يقف بردانا تحت مطر يناير، إذا وجد حبيبته قد تتغير القصيدة، قد تتحول العدودة إلى غنائية "شعرك/غطايا/دفايا /حضنك بيت"، لذا فهو يوجه لها سؤالا "شايفك ندى / حاسك خضار / باحلم دفا / وقنديل ودار / سايبانى/ ليه تحت المطر ؟؟"، والشتاء هو الجو المناسب للموت والانتحار أيضا "نطيت مابين /مية مطر / بيغرق الدنيا / وف ثانيه / لقيتنى ع الكوبرى القديم / بافرك ايديا/ وبانتظر / لو لحظه تيجى تشدنى / أصبح غريق"، أو قوله : " طعم المراره جوا قلبى بينكسر/ وانا باستمع صوت المطر"، البرد يحضر في قصيدة ديسمبر، مع الأسئلة المريرة، ومع اكتشاف الشعر أنه هرم فجأة، فيحاول عقد مقارنة بينه وبين صوره طفلا فلا يستطيع، لأنه أصبح شابا عجوز، لا يفعل شيئا سوى أن يكون "واقف فى البلكونه/ لوحده / فى عز البرد"

واللافت هنا هو أن نهاية الشتاء، ونهاية المطر، تعني عند الشاعر عودة الحياة، ونهاية حالة الوحدة والرغبة في الموت والانتحار "سكت المطر / رجعت أغانى البياعين / والايدين / رجعت تدوَّر ع الايدين / والفوانيس نورت / وبينفرط عنقود دموع / على حافة الكوبرى الحديد"،

الشاعر في هذا الديوان صعلوك يسير في الشوارع، في "يناير البردان"، يتفقد شارعه القديم ، يقف في محطة الاتوبيس، يسير في الشارع، يذهب إلى العمل، لكنه في كل هذا يصف الناس، علاقته بالناس وبالأشياء من منطق الرؤيا، عيناه كاميرا فوتوغرافيا تقيم العلاقات مع الناس من هذا المنطق، وتصف المشاعر، وتقيمها بناء على هذه الصور التي تلتقطها عيناه طوال الوقت، حتى أحاسيس الخيانة والحب، قائمة على هذه الصور الملتقطة طوال الديوان

مع هذه العلاقات غير المكتملة، تتولد فكرة الخيانة، " شايفك هناك / بتواربى فى الشباك / وبتضحكى لغيرى"، فالخيانة هنا تتقاطع مع فكرة الحبيبة غير المكتملة، وقصص الحب القائمة على الرؤية، وهي العين الموجودة طوال الديوان، لترصد وترى، وتكتب، لكن فعل الخيانة كما أراد له عنوان القصيدة أن يكون هو مواربة الشباك، والذي يعني غياب الرؤية، والنظر، والضحك للآخرين، و الثلاثة أفعال الموجودين في الديوان يكشفان طبيعة العلاقة "عاشق لا يفعل سوى النظر، وحبيبة توارب الشباك / تكاد أن تغلقه في وجهه/ وتفتحه في اتجاه أحد آخر، والفعل الثالث هو الضحك لآخر.

في الديوان دائما بيت قديم، وهناك دائما نافذة، والنافذة لدى محمود في هذا الديوان تفصل بين زمنين، وبين حالتين، حالة الحب والخيانة كما في قصيدة "خيانة"، وحالة الصبا والطفولة، كما في قصيدة "تحت شباك الحنين"، "من هنا عدى الولد، من هنا عدى الحنين/من هنا عدى الشجن، الضرفتين مش مفتوحين، متعفرين ليه بالتراب، البنت راحت بس فين"، لكن الإحساس بالزمن يسقط ويصبح العمر يومين فقط، حين يرتد إلى الطفولة مرة اخرى، قبل أن يدرك الحقيقة "دى لسه كانت من يومين / دى لسه كانت من سنه / دى لسه كانت من سنين"، وقوله "فى الدور التانى / بنت / باشوفها واقفه فى الشباك / ومواربه الشيش / أنا فاكر /مره ابتسمت لى / ودخلت من غير ماتقفل الشباك"

يحضر الأب كقوة قاهرة في قصيدة اللحظة المناسبة، حيث يبدو على اعتبار أنه ربما النقطة التي تجعل الشاعر يفاضل بين حاله وطفولته " يرجع / بيجر ف أحزان الحب الاول / وبيجهز نفسه / لعصاية ابوه النايمه / تحت سرير / باربع عمدان"، هذا القهر يتبدى في قصيدة الأوضة اللي ما بقتش بتاعتي، فهو يحكي بحميمية شديدة عن كل تفاصيل غرفته، وكأنه يعيش فيها، ويحكي كل تفاصيلها، الزمانية والمكانية ، قبل أن يكتشف القارئ "إنه الإوضة دي " خلاص / مابقتش بتاعتى / من يوم ماطردنا ابويا من البيت /المكتب بعته / مالوش مكان فى الشقه التانيه / والسرير / مارضيش يسيبه / واداه لابنه"، هذا الإشكالية تحضر، مرة أخرى في قصيدة "حاجة ما اعرفهاش ، حث يتحدث عن علاقة مثالية بين أب وبنته وابنه، ثم نكتشف في نهاية القصيدة أن "كل الحاجات دى / ويمكن اكتر / هتحصل / لما يبقى عندى ولد وبنت / يمكن ساعتها اعرف / شكل العلاقة اللى مابين أب واولاده / العلاقة اللى ما اعرفهاش / مع انى ماكنتش يتيم".

الحياة طفولة يعقبها موت، والموت ربما لا يكون موتا حقيقيا بقدر ما هو موت معنوي، لكنه يقدم مبررات هذا الموت في قصيدة انتحار، فالشاعر يترك مبررات هذا الموت في قصيدة أو "جواب على حافة المكتب / ونازل"، ربما ليبحث عن الماضي ، وربما لهذا يبحث عن اسمه على مقعد المترو "بقالى اكتر من 13 سنة/ باحاول الاقى الكرسى /اللى كتبنا عليه اسامينا/ فى أخر يوم/ فى امتحان الثانوى/ وكإننا بننقش/ على شاهد قبر / لدنيا بتروَّح"، وربما يكون هذا هو التعبير الأمثل، فالشاعر يفتش عن الماضي كمن ينبش قبرا بحثا عن شيء يدرك أنه لن يجده، وابتعاد الطفولة هو المرادف للموت لديه، ومن ثم الموت الفعليفي قصيدة العيال "يا عيال انتوا فين يا عيال /انا قلبى مال للحزن وانتوا بعيد".

الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقف أمام هذا الحزن وهذا الموت، أن يعود إلى طفولته مرة اخرى "أرجع ولد / بيلم أمطار الغنا / ويا العيال / والامهات م الشبابيك القدام / تنده لنا"، سر التمسك بهذه الطفولة تكشفه قصيدته التي يصبح العمر فيها غاربا، بينما تتواري الطفولة وذكرياتها بعيدا " الدنيـا وش غــروب / ولاعــادش فيها سطوح /ولاعــادش فيها جيران / ولا كحك ولا بسكوت / عالـم برىء بيغــيب / عالـم برىء بيمــوت"، فغياب هذا العالم ، الذي يصفه مرتين بالبراءة، يعني الموت".

ربما يبدو السؤال الأكثر إلحاحا هنا : لماذا ينحاز محمود إلى عالم الطفولة لهذا الحد ؟، لأن عالم الأطفال به "عيال كتير/ وبيضحكوا / وبيفرشوا الشارع غنا /وبيرسموا الحواديت جنان / ولا أى شىء بيهمهم / غير ماتش كوره فى الميدان / ولا عرفوا ايه معنى الالم / ولا عرفوا طعم الحزن ايه / ولا يعنى ايه بتكون وحيد / فى ركن منسى من الزمان"، في هذا المقطع يجيب الشاعر عن كل الأسئلة التي يطرحها الديوان، وربما يصف حالته الآن المكونة: من الوحدة ، والحزن كما يقارن بين العالمين.

قصيدة العيال، يقدمها ببيت شعر دال لرجب الصاوي " مليانه يادنيا العيال بالهنا"، وفيها يكشف الشاعر، أو يكشف المأزق الحياتي له ولجيله بأكمله" انا محمود الجديد / اللى مايشبهش محمود القديم خالص / نزلوا العيال يلعبوا / وانا كنت ماشى ع الرصيف بانهج / حاطط ايديا فى جيوبى / واقف اتفرج / واعدل النضاره / انا لسه واقف على أول الحاره / صبح يوم العيد / لكنى خالص مش سعيد"، هذه القصيدة الجميلة المليئة بالشجن تلخص حالة الديوان بالكامل، حالة الصراع بين محمود الطفل، ومحمود الذي كبر مع الحياة، لكنه ما زال يبحث عن طفولته، لذا فهو لا يشعر بالسعادة يوم العيد، يستعيد كل تفاصيل الطفولة، لكنه لا يستطيع أن يستعيد ذاته.

هذه القصيدة تجرنا للحديث عن الموسيقى في ديوان محمود، فمحمود يكتب قصيدة التفعيلة والنثر، لكنه يبدو أكثر انحيازا لقصيدة التفعيلة، وربما لأنه صدر ديوانه بمقطع لفؤاد حداد يقول "غنوتى شكل اللى ضاع منى"، والذي يعبر كثيرا عن مضمون الديوان، فهو قد كشف عن غير قصد عن حرصه على الغنائية في ديوانه، الغنائية التي قد تصل إلى حالة العدودة، في بعض القصائد، وإلى الغناء الراقص في بعض القصائد.

يرفض محمود ارتداء عباءة فؤاد حداد، التي ارتدتها أجيال كاملة تأثرت بحداد، لكن محمود يفضل أن يكون له صوت الخاص، في لغة عذبة سلسة، بسيطة، تحمل في مضمونها طاقة شعرية هائلة، وتختصر صورها البسيطة حالات شعورية كاملة.

يمتزج الغناء بالسرد، تماما كما يفعل المعني الشعبي، لكن محمود يقبض على نهايات الحكايات، ويترك قارئه يفكر في النهاية، التي يدرك بعدها، إنه مش فاضل حاجة، تنتهي الحكايات حكاية وراء اخرى، كأن الحياة تنتهي "بتخلص الحواديت / كإنى بانزل سلالم/ وبارد باب البيت"، الحكاية جنة في رأي الشاعر، لأنها تعيده طفلا مرة أخرى "ماتدخلينى جنة الحواديت، وترجعينى طفل من تانى"، وفي قصيدة حواديت زمان، التي يبدأها بلزمة الحكي، المرتبط بعالم الطفولة، يكشف محمود عن مأزق السرد لديه "كان ياما كان / ليه القصيده بتبتدى بحواديت زمان؟"

هذا الغرام بالتفاصيل والذكريات يبدو واضحا جدا في قصيدة "الاوضه اللى مابقتش بتاعتى"، التي تبدو مرثية لعمر مضي، الديوان كله يبدو مرثية لمحمود فهمي، ولجيله بأكمله، مرثية جميلة، وحزينة، تجعلك تعيد قراءة الديوان مرة ومرة، مرثية تكشف عن شاعر حقيقي ، وديوان جميل.

ــــــــــــــــــــــــ

*نشر في أخبار الأدب

كراكيب نهى محمود..تحيا الحياة

محمد أبو زيد

1

يعرف من يقرأ مدونة "نهى محمود"، أنها أمسكت أذن الحمار ـ يا للعجب ـ وركبت الجمل ـ كما نشرت صورا لها وهي تعتلي سنامه ـ عندما زارت أسوان والأقصر، يعرف أنها ذهبت إلى سوهاج لزيارة زينب، وفتيات من قارئاتها من هناك، يعرف أنها تكره البطيخ، وتعتقد أن شكله الأخضر المزيف يخفي خلفه أسرار مجرم حرب هارب من الحرب العالمية الثانية، وإدمانها المطبخ، ويعرف أيضا أنها تكره الكاتشب بقدر ما تحب كاظم الساهر.

لن يكون القارئ بحاجة لأن يكون صديقا شخصيا لنهى حتى يعرف كل هذه التفاصيل، فزيارة مدونتها كفيلة بهذا، هذا لأن نهى تعتبر أن صديقتها الحميمة، وربما الوحيدة، هي المدونة، التي تبوح لها بأدق تفاصيل حياتها، بأسرارها، وأحزانها، وأفراحها، وجنونها، وهلاوسها أيضا، وأفلامها المفضلة.

من يريد أن يعرف نهى محمود جيدا، عليه فقط أن يدخل مدونتها، ليجد كل تفاصيل حياتها، ربما قبل أن يقرأ، سيكتشف أن شكل المدونة، يشبه غرفة مكتب خاصة بنهى، لون روز بناتي، صورها موجودة على سور المدونة، أغلفة كتبها الأربعة "نامت عليك حيطة"، " راكوشا"، "الحكي فوق مكعبات الرخام"، "كراكيب"، المقالات التي كتبت عنها، صورة كاتبتها المفضلة، قرينتها كما تحب أن تنادى، إيزابيل الليندي، روابط المقالات التي كتبت عنها وعن أعمالها، ولينك مدونتها الثانية "عالم صوفي"، وروابط مدونات أصدقائها في الكتابة والتدوين، وعداد زوار يقول إن عدد قرائها تجاوز حاجز ال125 ألف قارئ والذين تصفهم ب "المتلصصين"، فضلا عن بعض المقولات التي تحبها، تكشف عن أفكارها، واعتقاداتها، فلمدام دوستيل "الحب هو تاريخ المرأة وليس الا حادثا عابرا فى حياة الرجل"، ولفيويليتا بارا "الحب وحده بعلمه يعيدنا أبرياء"، وتضع تحت صورتها " ليه ترسمي الكون الوسيع صندوق ورق استسلمي واحلمي بكون جديد ومختلف اللي نلاقيه هوه المهم، وأي شئ بنخسره ماهوش مهم"، لكنها قبل هذا كله تضع تحت اسم مدونتها كلمة تخصها " الكتابة وردة روز في كتاب الحياة لا تذبل أبدا".

ما سبق هو تفاصيل غرفة فتاة، أو سطح مكتب الكومبيوتر الخاص بها، لكن نهى حولته إلى مدونتها الخاصة، التي يشاركها بهجتها أصدقاؤها، وقراؤها، وربما هو ما يفسر أيضا مغزى اسم المدونة "كراكيب"، ونسبة الكلمة إلى اسم نهى، يكشف عن أن المدونة هي كراكيب من عالم نهى الخاص، من تفاصيل حياتها، هكذا بدون ترتيب، تأتي بشكل اعتباطي، غير مرتبة، ولا مقصودة، بعضها قديم، وبعضها من الذاكرة، لكنه يأتي في شكل تدوينات جميلة.

هذا عن شكل المدونة الخارجي، لكن محتوى المدونة الداخلي لا يختلف كثيرا عن شكلها، ففيه تفاصيل أكثر عن نهى، عن حياتها، كتابتها، أصدقائها، ما يضحكها، ما يحزنها، أفلامها المفضلة، انكساراتها، وأعتقد أن المدونات في مصر لو حافظت على ما تتميز به مدونة نهى محمود من مصداقية، واقتراب من الذات، وتلامس معها، لم يكن لها أن تتراجع أمام الفيس بوك وتويتر، اللذين التصقا بالذات أكثر.

فقبل سبع سنوات عندما بدأت المدونات في غزو مصر، لم تكن كما هي عليه الآن، كان جزءا منها يقوم بدور سياسي وصحفي، مثل مدونة وائل عباس "الوعي المصري"، ولكن كان الجزء الأكبر منها يقوم بالتأريخ لمشاعر جيل افتقد الحرية، ووجد في المدونات ما يعبر عنه، فكتب عن كل شيء، لكن كان هو، أي هذا الجيل، في مقدمة الكتابة.

الفكرة الأساسية التي قامت عليها المدونات هو ما ذكرته سابقا، هو تدوين الذات، كتابة الذات، أن تصبح المدونة دفتر مذكرات للشخص، عن أهم مشاهداته، وتعليقاته، وحالته الوجدانية، أن ينتقل كشكول المذكرات الشخصية اليومية على الانترنت ليتشارك فيها مع الآخرين، أو لا يتشارك، وهو ما نجح الفيس بوك فيه في سحب البساط من تحت أقدام المدونات، فيما تحولت المدونات في جزء كبير منها إلى ما يشبه المنتديات، أو دور نشر لنشر الكتب والمقالات، أو بديلا للمواقع الشخصية، والمجلات لدى الكثيرين، ومع هذا ظل القلائل هم الذين يستطيعون الحفاظ على وجود مدوناتهم على حالها، وعلى تماسها مع ذواتهم، ومن هذه المدونات مدونة نهى.

منذ أربع سنوات تقريبا، بدأ موسم الهجرة الجماعي، من المدونين، إلى الفيس بوك، بدلا من مدوناتهم، بل وهجرة المدونات تماما مع كثير من الأشخاص، كان الفيس بوك عالما أكثر حميمية، التعرف وجها إلى وجه عن طريق الرسائل والشات والصور، والتعليقات القصيرة، بل والدخول إلى تفاصيل حياة الأصدقاء، بفرض صدقيتها، الأصدقاء الذين تم التعرف عليهم، غالبا على المدونات، عن طريق قراءة ما يكتبون، أو التعليق عليهم، وخلق عالم افتراضي سعيد، يقوم على العلاقة بين القارئ "المدون"، والكاتب "المعلق"، فقط، كسر الفيس بوك الهوة بين الاثنين، حطم ، لم ينجح موقع "فيس بوك"، كثيرا مع نهى في أن يحولها عن المدونة، كما فعل مع كثيرين، كان الفيس بوك يعني لها مزيدا من الفضفضة التي تحبها، والثرثرة العذبة، تماما كما تفعل في المدونة، لكن بشكل أكثر حميمية.

الكتابة وردة روز في كتاب الحياة، هكذا تتعامل نهى مع مدونتها ومع كتابتها، على اعتبار أنها وردتها التي لا تذبل أبدا، وتسعى للحفاظ عليها حية طوال الوقت، بكتابة صادقة، وطازجة في آن.

2

أول مرة التقي فيها نهى محمود، كان في كافيتريا على سطح فندق أوديون، في وسط البلد، بصحبة الصديقين الطاهر شرقاوي، وسهى زكي، والصغيرة نهى بكر، وأعتقد أن المناسبة كان احتفالا بعيد عيد ميلاد سهى، كانت نهى في ذلك اليوم منهارة تماما، فقد قررت أن تزيح جانبا كبيرا من حياتها جانبا، وأن تغلق مدونتها، دار النقاش، طوال ذلك الليل عن الأسباب والمبررات، وأهمية أن تظل المدونة موجودة، حتى لو قررت ألا تكتب فيها مرة أخرى، لأنها تؤرخ فيها جانبا من حياتها، وتفاصيل أيامها، لكن ما حدث في الليلة السابقة، كما حكت لنا نهى، أنها ظلت سهرانة تقرأ التدوينات التي كتبتها، تم تمسحها، تقرأ التدوينات ثم تمسحها، ومع آخر سطر في المدونة، كانت نهى قد ضغطت على آخر Delete لآخر "بوست" في المدونة، وأتت عليها كلها.

لم اكن أعرف نهى جيدا، فقد كنت أول مرة أقابلها، كنت أعرفها من خلال مدونتها، وتعرفني من خلال مدونتي، ونتبادل التعليقات على ما نكتب، ثم اكتشفنا أن بيننا أصدقاء مشتركين، لكنها كانت في تلك الليلة تبكي، ولم أكن أعرف لماذا، هل تبكي بسبب الموقف، الذي جعلها، وربما أجبرها، على حذف المدونة، أم تبكي لأنها مسحت مدونتها، وهي لم تكن تحتفظ بتلك التدوينات مكتوبة على الكومبيوتر لديها، لأنها كما عرفت فيما بعد، تكتب مباشرة على المدونة؟

ما حدث بعد ذلك يمكن وصفه بمظاهرة في حب مدونة "كراكيب نهى محمود"، قادها القاص طه عبد المنعم، حيث أنشأ جروبا على الفيس بوك باسم "محبي مدونة كراكيب نهى محمود"، كان الهدف الأساسي للجروب، هو دعوة نهى لإعادة فتح مدونتها، في أقل من ثلاثة أيام، كان أعضاء المجموعة قد تجاوزوا، المائة عضو، وامتلأ حائط المجموعة على الفيس بوك بعبارات تدعوها للإقلاع عن جريمتها النكراء، أول تعليق كتبه طه " كتبت نهى محمود، المدونة مغلقه لنفاذ الغرض منها، وكتب طه عبد المنعم: إيه معنى التهريج اللى أنت عاملاه على مدونتك،ولكنها لم ترد"، وكتب أحمد علي عبد النور " ايه يا نهى طبعا انا مش عارف ايه اللى حصل بس شكلك مزعله الناس منك وده عيب، صلى على النبى وشوفيهم عايزين إيه"، وبعد أن انضمت نهى للجروب، كتب الروائي نائل الطوخي معلقا " هي نهى محمود انضمت للجماعة التي تطالب نهى محمود بفتح مدونتها ولا أنا فاهم غلط يا جماعة؟،يعني نهى الآ، تشكل جزءا من طاقة الضغط على نهى؟، لكن يبدو أن كلام نائل كان يحمل جانبا كبيرا من الصواب، فنهى نفسها كانت تريد عودة المدونة، وفي يوم 5 ديسمبر 2007 ، وتحت عنوان يحمل دلالة واضحة "عودة الروح"، كتبت أول تدوينة جديدة لها في المدونة تقول " الكتابة هي الحالة الموازية للحزن في الحياة، وللحلم في النوم، وللحب في عالم موحش لا يسكنه بشر، الكتابة .. تلك المساحة المصبوغة بالدم..هنا تتجسد مشاعري واقعا ملموسا أستطيع أن أراه وأرقبه عن كثب، أقبله كإيمان أو أتبرأ منه، هنا حدود لعالم يعرفني وأطمئن له، أي غضب ذلك الذي سكنها لحظة أن قررت تشويه ذلك الجزء الحميم من عالمها ، وصمة القبح في تلك النقطة الرائقة من تاريخها المهووسة بكتابته على جدران المعابد كالفراعنة، المهووسين بدورهم بالخلود، أرادت ان تحفظ لحظة الغضب هذه تحديدا ان تجمدها، توقف خطوط الزمن وناموس النسيان بأن تدمر شئيا تحبه جد تدمره فتحمل وجع وخطيئة تكفيها مائة عام، لتتذكر ألا تسامح ،ربما تبدو اسباب الرحيل غامضة، لكن أسباب العودة واضحة تماما،أعتذر لكم جميعا وتعجز كلماتي عن وصف امتناني ومحبتي".

3

تحولت مدونة "كراكيب نهى محمود"، أو أجزاء منها، إلى كتابين، الأول بالاشتراك مع القاص والكاتب الساخر محمد فتحي باسم "نامت عليك حيطة"، والثاني باسم "كراكيب"، وفي الكتابين تتماس خيوط السيرة الذاتية مع الكتابة الأدبية، وهو أكثر ما يميز مدونة نهى محمود.

البعض لا يعرف الفارق بين الأدب والسيرة الذاتية، وكتابة المذكرات، لذا يقع قارئ مدونة نهى دائما في المساحة الفاصلة بين الخيال والواقع، أو كما تقول هي في روايتها الأخيرة، قد يلف حبل الحقيقة على المتخيل، تسحبه التفاصيل شديدة الواقعية، ليعتقد أن المتخيل هو الواقعي الأكيد، وشتان بين الاثنين، وربما لهذا كتبت نهى ذات مرة عن صديقة لها غضبت منها لأنها أفشت سرا بينهما على المدونة، دون أن تعي هذه الصديقة، فكرة مزج الخاص بالعام، التفاصيل الحياتية الصغيرة، بالتفاصيل المتخيلة الكبيرة، أن المدونة عند نهى هي عالمها الخاص، مرآتها التي لا تخجل منها، تظهر كل تفاصيلها، فلماذا يخجل أصدقاؤها ما دامت هي لا تخجل.

ما يعجبني في مدونة نهى أنها لا تخجل مما تكتب أيا كان، فهي تكتب كما لو كانت عند أب الاعتراف في الكنيسة، أو أنها تقف أمام الله وتقول له يا رب أنا فعلت كذا وكذا، نهى المدونة، والروائية تكتب ، بهذا الشكل الذي يقع في المسافة الوسطى بين الاثنين، لذا لا تستطيع في المدونة أن تحدد أين يبدأ الاعتراف، وأين تبدأ الكتابة الأدبية، لكن ما يميز الاثنين هو "نهى المندهشة على الدوام".

لكن الحيرة التي يقع فيها قارئ مدونة نهى هو الشخصيات الموجودة على الدوام في التدوينات، حتى لتشعر أنها تفاصيل حياة، تقلب صفحاتها، تدويناتها، يوما بعد يوم، فهناك الأب، شديد الطيبة، الذي يعامل الابنة بحنان من يدرك أنه لا أحد لها سواها، ولا أحد له سواها، ويوافق على كل نزواتها، ويتقبل بحنان جنونها، وهناك الأخ المشغول بعالم الكومبيوتر، ولا يبدو معجبا كثيرا بالطعام، هناك مقهى سوق الحميدية، والأستاذ سيد، والأصدقاء، وهناك الكتب ، وهناك إيزابيل الليندي التي تطل بين كل تدوينة وأخرى، هناك عالم السينما الحاضر بقوة، من خلال الأفلام التي تتناول عالم النساء، هناك المطبخ، وهناك شقتان، تركت إحداهما إلى الأخرى، مصطحبة طاسة كبيرة، وهناك الحبيب الغائب على الدوام، الملام دائما، النذل في كثير من الأحيان، الذي تخاطبه بشكل دائم في كثير من التدوينات، ما مضى وغيره تفاصيل عالم روائي، حياتي لو شئت الدقة، تكتبه نهى في مدونتها من خلال تدوينات، تقترب من المفهوم الأصلى للتدوين وهو كتابة الذات.

4

لأن نهى شعرت أن عالمها الخاص، تفضحه بالرغم منها غواية الكتابة، التي تجبرها على البوح بما لا تريد، فقد قررت أن تنشئ مدونة جديدة باسم "عالم صوفي"، ولا تنسبها إلى نفسها، لكن الطريف أن الذين دخلوا إلى المدونة الجديدة اتهموا صاحبة المدونة المجهولة بأنها تقلد كتابة نهى محمود، وتسرقها، وهو ما اضطرها لأن تعلن أن المدونة تخصها، وبعد كشف السر توقفت عن الكتابة فيها.

لماذا أذكر هذه الحكاية، ربما لأن نهى محمود استطاعت أن تخلق طريقة في القص، والكتابة في المدونة خاص بها، وهو ما يعطي المدونة خصوصيتها، ولغتها الخاصة، وأعتقد أن نهى من القلائل الذين دخلوا إلى الكتابة الإبداعية من باب التدوين، واستطاعوا أن يشقوا طريقهم فيه بخطى واسعة، ففي الأعوام الأخيرة تحول عدد كبير من المدونين من "أصحاب مدونات إلى أصحاب كتب"، دون أن يدركوا أن التدوين في حد ذاته إبداع قائم بذاته، فطبعوا تدويناتهم في كتب وكتبوا عليها أنها شعر أو قصة، وأقاموا حفل توقيع، ثم توقفوا عن الكتابة وعن التدوين.

نهى كان الأمر مختلفا بالنسبة لها، فعالم الأدب، فتح أبوابه لها بسبب مدونتها، التي أعتقد أنها مهدت لها الطريق إلى عالم الأدب، وعالم الرواية، واستطاعت نهى أن تستفيد كثيرا من طريقتها الخاصة في التدوين في بناء عالمها الروائي، تشكيلا، ولغة، واستطاع هذا العالم أن يتطور بسرعة، ويمكن ملاحظة ذلك بقراءة أول عمل لها "الحكي فوق مكعبات الرخام"، وعملها الأخير "تحت الصخرة المستطيلة"، ففي العمل الأول، كان التدوين يطل بقوة، لكن في العمل الأخير، هناك خبرات، وقراءات، ومشاهدات، بالإضافة إلى الاستفادة، من قوة التدوين، والحكي.

نهى محمود، تدون كما يجب أن يكون التدوين، تخلق عالما افتراضيا، موازيا للحياتي المعاش، بلغة مميزة، وكتابة طازجة.

ــــــــــــــــــــ

*نشر في مجلة الثقافة الجديدة

09‏/09‏/2011

صلاح عبد الصبور يرتدي جبة الحلاج

محمد أبو زيد

كلمة السر في مسرحية "مأساة الحلاج" للشاعر صلاح عبد الصبور، هي "الكلمة"، التي لا يملك الحلاج سواها، لمواجهة الفقر والسلطان والقاضي والتماهي مع الذات الإلهية، الكلمة التي جمعت حوله أتباعه، وفرقت بينه وبين الحاكم، ووصفت العلاقة بينه وبين محبوبه الأسمى، الكلمة التي قتلته "أقتلناه حقا بالكلمات .. أحببنا كلماته/ أكثر مما أحببناه / فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات".

الهاجس الذي يؤرق عبد الصبور في المسرحية هي الكلمة ، كلمة الصوفي / المثقف، فالجميع يتكلم عنها، الحلاج يقول "لا يعنيني أن يرعوا ودي/ يعنيني أن يرعوا كلماتي"، لأن الكلمات هي التي تبقى "قد خبت إذن لكن ما خابت كلماتي / فستأتي آذان تتأمل إذ تسمع / تنحدر منها كلماتي في القلب / وقلوب تصنع من ألفاظي قدره / وتشد بها عصب الأذرع"، إذن فرهان الحلاج الذي يقدمه عبد الصبور على الكلمات، لكن الذين قتلوا الحلاج، كما يقدمهم عبد الصبور "أصحاب طريق مثله"، يمتلكون كلمات مثله، رغم أن القتلة يقولون" كنا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا / من ماء الكلمات/ جوعي / في طاعمنا من أثمار الحكمة/ وينادمنا بكؤوس الشوق إلى العرس النوراني"، الكلمات أيضا كانت سببا في صلبه "أبكانا أنا فارقناه / وفرحنا حين ذكرنا أنا علقناه في كلماته / ورفعناه بها فوق الشجرة"

مأساة الحلاج تتكون من فصلين ، أو جزءين كما سماهما، الجزء الاول: "الكلمة" والثاني "الموت"، ولذلك دلالة واضحة، ففي مقاطع كثيرة من المسرحية يبدو أن صلاح عبد الصبور هو الذي يتكلم وليس الحلاج، حالة التماهي بين الشاعر والصوفي، تكف مأساة الاثنين في علاقتهما بالسلطة، فالحلاج الذي صلب لأنه فكر، في السلطة الإلهية، والسلطة الدنيوية، يقابله عبد الصبور، الذي كان جزءا من نظام الحكم في مصر ، لكنه كان يقف على شفا حفرة من السلطة و الكتابة، الكلمة هي مأساة الاثنين.

إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة أزلية، لكن عندما يكون الأمر يتعلق بمستقبل الوطن الذي يسير نحو الضياع فالأمر محسوم، كانت مصر تقترب من نكسة 1976، لم يكن أحد يعلم بها، لكن المؤشرات كانت تؤكد ذلك، خاصة أن المسرحية كتبت قبل النكسة، مأساة صلاح عبد الصبور مع السلطة، التي كان جزءا منها، وحاول أن يتطهر منها بمأساة الحلاج، فجعل الحلاج شاعرا مثله، وأنطقه "مثلى لا يحمل سيفاً / لا أخشى حمل السيف ولكنى / أخشى أن أمشى به / فالسيف إذا حملت مقبضه كفٌّ عمياء / أصبح موتاً أعمى"،

المثقف/ الحلاج / الصوفي، في المسرحية كان ينزل إلى الشارع، يمشي في الأسواق، خرج على إجماع المثقفين / الصوفيين بأن يختبئ في عباءته، في برجه العاجي، مكتفيا بالعلاقة بينه وبين مولاه، لكن الحلاج ينزل إلى الشارع ، يخاطب الناس بلغتهم، فيلتفون حوله، والتفاف الناس حول الصوفي / المثقف، في عين السلطة / السيف، هو بداية الخراب لهم، لأن به تأليب على الحاكم، وتذكير للفقراء بفقراء، وبجوعهم، وعطشهم، وألمهم، وأن هناك رب أعلى من الحاكم، يمكن اللجوء إليه، وأنه يمكن الخروج على الحاكم، وتغييره.

هل يمكن أن ينظر للحلاج كرجل دين يدعو للإصلاح الديني، أم كمثقف يدعو للتغيير، المكفر والشاعر الهندي محمد إقبال (1877-1938) الحلاج يصور في ملحمته "جاويدنامه"، أي "كتاب الخلود"، الحلاج، مفكرا مبدعا حاول بث الحياة في معاصريه الموتى روحياً وفكرياً، أي حاول منحهم إيماناً حياً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المتوارثة الخالية من كل روح، ويضع عبد الصبور رجل الدين جانبا، ويركز على المثقف، ويورد فى مسرحيته ، على لسان أحد الصوفية "هل أخذوه من أجل حديث الحب ؟ / لا ، بل من أجل حديث القحط / أخذوه من أجلكمو أنتم / من أجل الفقراء المرضى ، جزية جيش القحط"، وما يورده عبد الصبور في آخر مسرحيته، عن ظروف كتابتها، والمراجع التي عاد إليها، فضلا عن الموجود في متنها، يؤكد أنه اختار أن ينحاز للكلمة، فمأساة الحلاج في رأي عبد الصبور هي الكلمة، كيف تخرج، ولمن تصل، حتى المسجون الذي يلقاه في سجنه، ويتبعه، كانت مأساته الكلمة في صغره، لكنه لم يستطع أن يكمل طريقه إليها، حتى التقى الحلاج فعاد إليها مرة أخرى، الكلمة قد تكون رداء رجل الدين، لكنها سلاح المثقف الأول، الذي يهدي به الناس، ويواجه به سيف السلطان.

انعزالية الصوفي / المثقف، يرفضها الحلاج / عبد الصبور، مع خلع خرقة/ انعزالية الصوفي "تعني هذه الخرقة / إن كانت قيدا في أطرافي / يلقبني في بيتي جنب الجدران الصماء / حتى لا يسمع أحبائي كلماتي فأنا أجفوها .. أخلعها يا شيخ/ إن كانت شارة ذل ومهانة / رمزا يفضح أنا جمعنا فقر الروح إلى فقر المال / فأنا أجفوها .. أخلعها يا شيخ" إذن فمكان الصوفي/ المثقف كما يقدمه عبد الصبور ، ليس بين أوراقه، وبرجه العاجي فقط، بل مع التغيير في الشارع ، التغيير الذي يحسه الأعرج فيقول "أحس إذا سمعت حديثه الطيب/ بأني قادر أن أثني الساق/ أن أعدو / وأن ألعب / بلي / أحس بأنني طير طليق / في سماواته" ، في حين يشكك الأحدب في دور كلمات الصوفي / المثقف "نعم / إني أحب الشيخ / ولكن أسائل نفسي الحيري / تري هل يستطيع أن ينصب ظهري / بعدما احدب".

قصة الحلاج ظهرت في كل الثقافات، وليس لدى عبد الصبور وحده، كتعبير عن أزمة الضمير لدى المثقف، وظهر أيضا لدى أدونيس وعبد الوهاب البياتي في الثقافة العربية، وأصبحت سنة 309 هجرية من أعظم السنوات حسماً وتحوُّلاً فى تاريخ التصوف، وبالتحديد : يوم الثلاثاء 24 من ذى القعدة، أحيث ُخرج الحسين بن منصور الحلاَّج من سجنه، فجُلد، وقُطعت يداه ورجلاه ، وشُوِّه، وصُلب، وقُطعت رأسه ، وأُحرقت جثته، مصيرا لمن يخرج على سلطة الحاكم، الذي يستخدم سلطة الدين ، لكي يشغل العامة، وربما حري هنا أن نتذكر حادث محاولة اغتيال نجيب محفوظ، من شاب لم يقرأه لكنه سمع أنه يشتم الذات الإلهية، ونفس ما حدث مع المفكر فرج فودة، وقريب منه ما تكرر مع المفكر حسن حنفي، ونصر أبوزيد ، وطه حسين من قبل، بل وسقراط منذ قرون، فإشغال العامة بالدين، وإيهامهم بأن فردا يتجرأ على الدين، كفيل بأن تكسب السلطة، المؤمنة في هذه الحالة، مساحة لدى العامة، ويخسر الآخر، حتى لو كان يدعوهم إلى التفكير ليس أكثر "قالوا : صيحوا .. زنديقٌ كافر / صحنا : زنديقٌ .. كافر / قالوا : صيحوا ، فليُقتل أنَّا نحمل دمه فى رقبتنا / فليُقتل أنا نحمل دمه فى رقبتنا / قالوا : امضوا فمضينا / الأجهرُ صوتاً والأطول / يمضى فى الصَّفِّ الأول / ذو الصوت الخافت والمتوانى / يمضى فى الصَّفِّ الثانى" وهكذا تحرك السلطة الجموع.

والحلاج هو أبو المغيث الحسين بن منصور الملقَّب بالحلاج، ولد فى حدود سنة 244 هجرية بقريةٍ قريبةٍ من بلدة البيضاء الفارسية، وتوفى مقتولاً ببغداد سنة 309 هجرية،مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر، وقد نشأ الحلاج بواسط ثم دخل بغداد وتردد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة وأظهر للناس تجلدًا وتصبرًا على مكاره النفوس من الجوع والتعرض للشمس والبرد على عادة متصوفة الزرادشتين، وانتقل من مكان لآخر يدعو إلى الحق على طريقته، فكان له أتباع في الهند وخراسان، وفي سركسان وبغداد والبصرة، قبض عليه بتهمة ادعاء النبوة فأنكر ما نسب إليه فوضعوه في السجن فترة ثم صلبوه حيًا صلب تشهير، ثم أعيد للسجن ثم أطلق فلم يرتدع عن طريقه،وفي يوم الثلاثاء 24 من ذي القعدة سنة 309هـ تم تنفيذ حكم الخليفة فيه بإعدامه، على مرأى من الناس.

المسرحية تلقي ظلالا على دور النخبة، النخبة التي يعتبرها عبد الصبور في حوار معه لا بد أن تقود المجتمع "وتزرع فيه القيم الجديدة، وتعوده بسلوكها عادات متقدمة من السلوك والتصرف. وقد خضع مجتمعنا العربي لفترة طويلة لنخبة المفكرين الذين علموه احترام العدالة والحرية والتفكير العلمي. ففي الفترة التي عرفناها في صبانا كان الدكتور طه حسين والعقاد وسلامه موسى وهيكل وغيرهم هم نخبة المجتمع وقد نختلف مواقعهم السياسية داخل الأحزاب المختلفة، ولكنهم جميعا يكونون أفقا سياسيا واجتماعيا يتحدث عن الديمقراطية والتفكير المنظم ، وشرع طريقهما للمجتمع، وقد سقطت قيادة المثقفين في عصرنا الحديث ، وكان المظنون أن تقوم مقامها قيادة التكنوقراطيين. ولكن هذه القيادة الجديدة لا تقوم إلا في مجتمع صناعي متقدم. وهنا سقط مجتمعنا في فراغ ، حاولت العشائرية السياسية استغلاله وملأه ولكن ثمن ذلك كله كان ثمنا باهظا . ولست في مجال الزهو بالنفس ، ولكن أريد أن أقول إني رأيت ذلك كله قبل 5 يونيو 1967م ، ووضعت يدي على قلبي خوفا منه فلما وقعت الواقعة انفطر قلبي ، ولعل هذا هو سر حزني وكآبتي"، وهو الأمر الذي يفسره بعض الباحثين بأن الحلاج رأي أن التغيير يجب أن يكون عن طريق الصفوة، وهو الأمر الذي تم مع الصوفي / المثقف/ الحلاج.

كتب عبد الصبور مأساة الحلاج، عام في العام 1964، و نال عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 1966 ، وهي ثاني أعماله في المسرح الشعري بعد "بعد أن يموت الملك"، والمسرح الشعري لدى صلاح عبد الصبور يحتاج إلى وقفة طويلة، فهو سياسي في المقام الأول، كما رصد بدايات قصيدة التفعيلة في مصر، وربما كانت المسرح الشعري السابقة عليه قليلة، وربما يكون أبرزها مسرح أحمد شوقي، الذي كان عموديا، مقفى، على عكس مسرح عبد الصبور الذي اعتمد التفعيلة في مسرحه، وإن لم يعتمد على تفعيلة واحدة، بل استخدم تفعيلة الرجز، والوافر، والمتقارب، والمتدارك، مع ما يجوز فيها من تحويرات، كما تغلب على حقيقة أن "الحلاج" شاعر بالأساس، فلم ينطقه بمقوله، بل حورها لينطق بما كتبه عبد الصبور، وأسقطه على عصره.

مأساة الحلاج هي مأساة كل عصر، فنحن نتكلم في النهاية عن واقعة حقيقية، وشخوص حقيقيين، حتى لو أسقطها صلاح عبد الصبور على نفسه، ورأي أنها مأسساته، وهي تتكرر طوال الوقت، مع المثقف الذي يقرر أن يقترب من العامة، ويحذرهم من السلطان، ويذكرهم بفقرهم، ويطالبهم بالتغيير، فالسلطان والنظام الحاكم، إما أن يعامله كخارج عليه، أو خارج على الله،هي إشكالية المثقف والسلطة التي لن تحل، لأن الضمير لا يقايض، والكلمة لاتباع، وربما لهذا السبب يكون قد لقي نفس مصير المسيح عليه السلام.

ــــــــــــــــــــــــ

* نشر في جريدة القاهرة

أبو زيد: الأيديولوجيا تتسرب ولا تطغى على النص


عناية جابر
محمد أبو زيد شاعر مصري متميّز، له خمس مجموعات شعرية ورواية تحت عنوان «أثر النبي» صدرت في العام 2010، وتحمل هموم دواوينه الشعرية والإنسانية ذاتها، كشاب مصري عربي عاجز سوى عن التفرج على انكسارات وخيبات في مجتمعنا الكبير. الكتابة عند أبو زيد محاولته لإعادة ترتيب العالم حتى يصبح كما يروق له على ما يقول. معه كان هذا الحديث عن الكتابة، بالأخص كتابته الشعرية.
في قصائدك دائماً ذلك الشيء غير المتحقق، من هنا سر جاذبيتها؟
ـ التحقق هو النهاية، عندما أشعر بأنني قد وصلت سأجلس في بيتي، وأحادث أصحابي في فيس بوك وتويتر، وأتوقف عن الكتابة، الشاعر صوفي يبحث عن الله، عن الحقيقة، ويظل يبحث ويمضي العمر ولا يصل، الصوفي إذا وصل جن، أو كفر، أو مات، والشاعر إذا وصل فقد قدرته، لا يتبقى منه سوى كعب اخيل.
فيها أيضاً فن التعرية والتجريد من دون فقدان الوضوح المعماري للقصيدة على الصعيد الداخلي والخارجي؟
ـ كل ما كتبت منذ أول ديوان لي، وحتى آخر ديوان لي لا أعرف متى سيصدر، هو قصيدة واحدة، مختلفة المستويات، تتطور مع كل ديوان، قد تتكون هذه القصيدة من عشرة دواوين، ربما أكثر وربما أقل، أنا أعمل على «مشروع عمر»، أكتب وأنا أفكر في الدواوين المقبلة، والدواوين الفائتة، لذا فبعض شخوص الرواية موجودون في دواوين، مثل «عائشة»، أو «الشيخ أحمد عبد التواب»، وفي ديواني الجديد «مدهامتان»، الذي أعده للنشر قريبا، ستجدين إشارات لقصائد سابقة، وربما لاحقة، ما أريد أن أقوله هو أن لدي بناء معمارياً واضحاً لتجربتي الشعرية، أعمل عليه منذ ديواني الأول، أدرك أنني في كل عمل جديد أضيف لبنة جديدة فيه، عندما أضع آخر واحدة، سأتنهد ساعتها بارتياح وأقول: «حسنا يا رفاق، لقد انتهيت».
ما مصادر شعرك بمعنى ما هي قراءاتك ولمن من العرب والأجانب؟
ـ أقرأ لمن يكتب نصاً جميلاً، أحياناً أتمنى أن أستعيد مرحلة البدايات التي كنت أقرأ فيها كل ما يقع تحت يدي، من نصوص عربية أو مترجمة، لكن يبدو أنه مع الزمن وكثرة الإصدارات صار ذلك صعباً، لكن مع ذلك أحب دائما أن أقرأ النصوص الأولى لكتابها الشباب، دائما ما تكون ممتلئة بالطزاجة والبكارة، لكن قراءتي الأساسية، تبدأ من التراث العربي، وربما هذا ما يجعلني ألجأ كثيرا للتناص، أقرأ كثيرا في التراث الشعبي الإبداعي، أحب كتابة جيلي، وجيلي الثمانينيات والتسعينيات العربيين، أحب أدب أميركا اللاتينية، وأدب أميركا السوداء، أحب كثيرين، لكني أحب النصوص أكثر، النصوص هي التي تعرفني بالمبدعين.
المشهد متجمد
كيف ترى المشهد الشعري في مصر؟
ـ المشهد الشعري في مصر متجمد عند الخمسينيات، تمر الحياة ولا يمر، تجري السنون وهو واقف لا يزال يناقش قضايا انتهت منذ زمن، ما زلنا نناقش «هل هناك ما يسمى قصيدة النثر»، ما زلنا نتساءل «هل هي قصيدة أم نثر»، ما زلنا عندما نناقش ديوانا لشاعر نجد من يهب كعنترة وسط الندوة شاهرا سيفه في وجوهنا «تبت أياديكم، هل هذا شعر»، المشهد متجمد، ربما لأن الحياة نفسها متجمدة، ربما لأن التعليم يسحبنا إلى الخلف، ربما لأنه بعد ثلاثين عاماً من القهر لا زلنا نقف عند النقطة التي كنا نقف عندها، وربما لأن ناقداً خرج ذات يوم علينا بأن هذا زمن الرواية «فهرول الناس إلى الحواديت، وتركوا الشعر، ربما لأن أراوحنا صدئت ولم تعد تفهم الشعر، وربما لأن الشعر الذي يكتب لم يعد قادرا على إزالة كل هذا الصدأ عن الأرواح.
ثم هل تنقي الثورة الثقافة من شوائب عدة؟
ـ أعتقد أن الكتابة ستختلف بعد الثورة، أنا لا أستطيع أن أكتب بمعزل عن عالمي، والعالم تغير، العالم هو شارعي وجريدتي وقهوة الصباح و غرفة نومي وكتبي وجاري وضحكة طفلي وعبوس سائق الباص، كل ذلك تغير بعد الثورة، الثورة منحت العالم أسئلة جديدة لم يجب عنها أحد بعد، وأجابت عن كثير من الأسئلة التي كنا نطرحها من قبل، كان لدي نص طويل أعمل عليه قبل الثورة، لم أستطع استكماله بعدها، لأني شعرت بطاقة نور أضاءت النص كلها، وتركته معلقا، ربما يبقى على الثورة أن تنقي كما تقولين الثقافة من أمراضها، أن تخرج المثقفين من «الحظيرة» التي وضعهم فيها النظام السابق، على حد وصف وزير ثقافته فاروق حسني، أن تمنحنا الحرية في كتابة نصوص أكثر انفتاحا، من دون أسئلة تقليدية ظللنا ندور في فلكها خمسين عاما.
ماذا عن روايتك؟ لماذا الرواية؟
ـ لم أكتب الرواية عن قصد، وربما لن أكتبها مرة أخرى، في تعريفي على الرواية كتبت «شاعر مصري»، أقصد أنني شاعر كتب الرواية برؤيته، وهذا ليس انتقاصا من نوع معين من الكتابة، لكني أحب الشعر، ولذلك كنت أعطي الرواية لأصدقائي وأنا متردد وأقول لهم «أنا شاعر على فكرة يا جماعة».
هل تتيح المزيد من البوح الذي لا يتحمله الشعر؟
ـ الرواية لم تتح مزيدا من البوح بالنسبة إلي، بعض ما جاء في الرواية قلته في قصائد لي من قبل، لكن أريد أن أذكر بما قال الشاعر الإنكليزي «فيليب لاركن»، من أن الشعر يكتب الذات، والرواية تكتب الآخر، حسنا في الرواية كنت أريد أن أكتب الآخر، الرواية التي استغرقت كتابتها سبع سنوات، بدأتها في لحظة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، وهي الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، كنا نرى الحرب على الهواء، الأطفال والنساء والشيوخ يصرخون وتسيل دماؤهم على الشاشات أمامنا، ونحن لا نفعل شيئا سوى أن نشرب الشاي واليانسون على المقهى ونتفرج، نخرج في مظاهرات ندرك أنها غير ذات جدوى، فالحكام تآمروا كي تسقط بغداد، كتبت همي هذا في قصيدة اسمها «يقول محمد: نقية لدرجة أنه من المؤكد اسمها مريم»، في ديوان مديح الغابة، لكنني في الرواية أردت أن أكتب هم الآخرين، الذين كانوا حولي، كان الهم أكبر مني، ومن الآخرين، الذين رأيتهم يشيخون، لأن العجز أقعدهم عن فعل أي شيء سوى الفرجة ووضع الخد على اليد، وستجدين عالم القصيدة والديوان عالما واحدا، بل ستجدين الشخوص واحدة أيضا.
«الدوغما»
هنا سؤال يرتبط بوجود الأيديولوجيا في الرواية لديك، ألم تخش من الاتهام بالمباشرة؟
ـ أقول دوما إنه لا أدب بدون أيديولوجيا، حتى الذي يكتب رواية ذاتية، فهو في ظني يكتب أيديولوجيته الخاصة، وجهة نظره وإبداعه، نحن في عالم عربي تزيد السعادة فيه في متوالية عددية، فيما يزيد الشقاء في متوالية هندسية، كما قال ماركس، في ظل هذا يكون من الصعب أن تنخلع عن عالمك، ربما تسخر، ربما تخبئ أيديولوجيتك، لكنك لا يمكنك أن تخلعها تماماً، ولا يمكنك أيضاً أن تشهرها في وجوه الناس، شعرة معاوية التي بين الاثنين هي التي يمكن أن تنقذ النص، أعمال ماركيز ويوسا وكونديرا والليندي وساراماغو وبوليستر لا تخلو من الأيديولوجيا حتى لو بدت كذلك، القضية كيف ينتصر الإبداع على الأيديولوجيا في النص، لا أن يقتله تماما، وفي الرواية كنت أتناول حدثاً مهماً، وملهماً وهو الاحتلال الأمريكي للعراق، تناولته من خلال تأثيره في مجموعة من الشباب يعيشون في عالم مغلق، تحاصره قيود الأمن والفقر والعوز والوحدة، فهل سيهتم هؤلاء المشغولون بقضايا وأحلام بسيطة، بالقضايا الضخمة، كان هذا أحد أسئلة الرواية.
هل هذا يعني أنك تكتب أدبا في خدمة الأيديولوجيا؟
ـ هناك فارق بين أن تكون لدي أيديولوجيتي الخاصة، وبين أن أكتب أدبا أيديولوجيا، بالنسبة إلي أفضل فكرة المثقف المستقل، البعيد عن أي حزب، أو تيار سياسي، فحزبه وتياره هو إخلاصه لإبداعه وإنسانيته، أرفض تماما فكرة «الدوغما» في السياسة، والأدب والحياة، لكن هذا لا يعني أن الأديب لا يحمل وجهات نظر في الحياة، وجهة النظر هذه هي التي تجعله يكتب نصه، كل شيء وجهة نظر، هذه الإجابات وجهات نظر، وأيديولوجيا، الشيء الثاني أنني أرفض تماما فكرة أن يكون الأدب في خدمة الأيديولوجيا، لأنه في هذه الحالة لن يصبح أدبا، لكن ما أريد أن أقوله، هو أن الكاتب في لحظة الكتابة يتخلى عن هذه الأيديولوجيا لكنها تتسرب إلى نصه لأنها أفكاره، المهم ألا تطغى الأيديولوجيا والمباشرة على النص فيفقد فنيته، أنت لا تستطيعين نزع الشاعرية من محمود درويش أو محمد الماغوط رغم أيديولوجيتهما الواضحة، لا تستطيعين نزع الفنية من صنع الله إبراهيم أو إبراهيم الكوني أو رشيد الضعيف أو أمين معلوف أو عبد الرحمن منيف لمجرد أنهم كتبوا نصا يحتمل التأويل، المهم ألا يزعم الأدب أنه يقدم الأيديولوجيا، الإشكالية عندنا في العالم العربي، أننا لا نرى إلا جانبا واحدا من العملة، ولا نصدق أن هناك جانبا آخر، ونريد من الجميع أن ينظر من جهتنا نحن فقط، فنفي الآخر هو أسهل ما نمارسه.
ــــــــــــــــــــــ