08‏/02‏/2013

بلد بشريطة سوده

لمدة أسبوعين، كلما فتحت التليفزيون يفاجئني الشريط الأسود في جانب الشاشة، والذي يرمز إلى حالة الحداد التي تعيشها مصر.
حالة الحداد بدأت مع حادث قطار البدرشين الذي راح ضحيته 20 مجنداً، ثم تلته عشرات الأحداث من انقلاب قطارات وسقوط بنايات وقتل متظاهرين وكأن البلد أصابها نحس عظيم. عاد الشريط الأسود ليظهر مرة أخرى مع أحداث الذكرى الثانية للثورة، والتي راح ضحيتها 9 أشخاص في السويس، ثم 30 شخصاً في بورسعيد عقب الحكم بإعدام 21 متهماً في مجزرة بورسعيد.
استمر الشريط الأسود مع استمرار الأحداث والاشتباكات والتي وصلت حتى 56 شخصاً ومئات الجرحى، لتهدأ الأمور قليلاً ثم تعود مرة أخرى مع تجدد الاشتباكات في محيط قصر الاتحادية الجمعة الماضية والتي انتهت بسحل مواطن بشكل لم يحدث في عصور الظلام.
مع استمرار الشريط الأسود لم أعد أعرف هل هو حداد على حادثة بعينها أم أنه حداد عام على الضحايا الذين يتساقطون كل يوم، أم أنه حداد على مصر التي كلما قتل فيها شخص هلل الجميع، وكأن دمه هو الذي سيزيد لأمر اشتعالا. فتزايد به المعارضة، ويصرخ به رواد الفضائيات، وتتهم به الحكومة خصومها أنهم مشعلو الفتن.
أصبحت مصر بلد "بشريطة سودة" فعلاً، في حالة حداد دائمة، بعد أن باعها الجميع في سوق الدماء من  أجل أن يحتفظ بعض سكانها بمقاعدهم في الحكم، أو من أجل أن يحصل البعض الآخر على هذه المقاعد. لكن هذه الحالة، وهذه الحالة من "الثورة" ضد نظام الإخوان تجعلنا نطرح سؤالاً: هل ستنتهي هذه المظاهرات بالفعل بإسقاط حكم الإخوان، كما أسقطت من قبل نظام مبارك؟
الحقيقة الواضحة كالشمس أن المليونيات لم تعد تمثل خطورة على النظام كما كانت من قبل. كانت مظاهرة واحدة لحركة كفاية أثناء النظام السابق كفيلة بإقلاق الحكومة ولنشر آلاف الجنود لمنع مجموعة ناشطين من الهتاف، لأن ذلك كان شيئا مستغربا، لذلك عندما تجمع مئات الآلاف في ميدان التحرير في مشهد لم تشهد مصر له مثيلا من قبل أثناء الثورة سقط النظام.
الأمر اختلف الآن، بعد أن أصبحت المليونيات والمظاهرات جزءا من حياة المصريين اليومية، فلم تعد مليونية في ميدان التحرير خبرا يثير الاندهاش كثيرا، ولم يعد اعتصام بعض العمال خبرا يستدعي القراءة، وربما يجب أن يلام الثوار على هذا، بعد أن تحول كل يوم جمعة إلى مليونية طوال فترة الحكم العسكري، ففقدت قيمتها ولم تعد تمثل عامل ضغط.
وعندما هدد المتظاهرون بالزحف إلى قصر الاتحادية يوم 11 فبراير 2011، أعلن مبارك تنحيه عن الحكم، لكن الأمر الآن أصبح مختلفا بعد أن أصبحت منطقة الاتحادية مكانا مألوفا للمظاهرات والاعتصامات، وبعد أن أصبح الأمر عاديا وغير مثير للاندهاش، وبعد أن أصبح من كانوا جزءا من "لعبة" الزحف إلى مبارك في كراسي الحكم.
ومثلما أصبح الشعب "محترف" مظاهرات، يعرف كيف يتظاهر ومتى يهتف وماذا يقول ومتى يهاجم الداخلية، تعلمت الشرطة الدرس وأصبحت تتعامل مع الأمر باحترافية أيضا، وهو ما يجعل طريقة الصدام كما حدث في جمعة الغضب بعيدة قليلا. يمكن أيضا أن نقول إن الإخوان تعلموا الدرس وفهموا اللعبة، وبالتالي فلا يمكن إسقاطهم بالطريقة التي تم إسقاط مبارك بهم.
لا يعني هذا أن حكم الإخوان غير قابل للإسقاط، بل هو  يحتاج إلى آليات أخرى للثورة مختلفة عن تلك التي تم استخدامها في 25 يناير، وعن تلك التي سقط بها نظام مبارك،  لكنها في كل الأحوال تعتمد على النفس الطويل، والإرباك المستمر للنظام الحاكم، والأهم أن يكون الجيش طرف في ذلك. فربما ما لا يريد أن يصدقه الكثيرون أن السبب الرئيس لرحيل مبارك كان إدراكه أن الجيش قد تخلى عنه، بالإضافة إلى الضغوط التي مورست عليه من قبل نائبه عمر سليمان ووزير دفاعه حسين طنطاوي.
الدرس الذي نتعلمه من ثورات الربيع العربي أن الدول التي تخلى فيها الجيش عن الرئيس، أو على الأقل وقف على الحياد، نجحت ثورتها في وقت قياسي، في حين أن الثورة السورية لازالت مستمرة رغم مرور عامين على انطلاقها بسبب وقوف الجيش إلى جانب بشار الأسد، وهو الأمر الذي إذا لم يحدث سيحول الثورة إلى دموية كما حدث في الثورة الليبية، وهو الأمر الذي لا يبدو متوافقا مع الطبيعة المصرية.
يبدو موقف الجيش من مرسي ملتبسا حتى الآن. وإذا كان  مرسي استطاع إحكام قبضته على الشرطة، مع اختيار وزير داخلية جديد موال له، فلا زال الجيش يراوح مقعده بإعلانه أنه ليس طرفاً في المعادلة السياسية، غير أن ما يجعل الجيش في الوقت الراهن يبدو بعيدا هو التجربة السيئة التي قضاها قادته إثناء الفترة الانتقالية، بالإضافة إلى قيام مرسي بقص أطراف المجلس العسكري عندما أطاح بهم في أغسطس الماضي وقيامه بتسريح معظم أعضاء المجلس وفرض قيادة جديدة للجيش، وتعيين قادة جدد في مواقع المجلس العسكري.
يبدو المشهد إذا ملتبسا، ولا تبدو نهايته قريبة مع إدراك الجميع كيف تدار اللعبة، بما فيهم الجيش الذي لن يقبل أن يكون طرفا إلا بضمانات كافية له، وربما لا يكتفي في هذه المرحلة بإدارة مرحلة انتقالية مع ضعف قيادات جبهة الإنقاذ. وهو الأمر الذي قد يؤجل نجاح الثورة الحالية إلى حين،  أقول يؤجلها لكنه لا يلغيها.، وحتى يحدث ذلك ستظل مصر بلد "بشريطة سوده".