19‏/03‏/2015

محمد أبو زيد.. اللاأحد في صرخة المغادرة

عبد الله السفر
في علم النفس الوجودي، ثمة مفهوم عن "انحلال حدود الذات" بمعنى الشك في الوجود الشخصي والتعيّن في العالم على نحوٍ محدّد ماثل يمتلك المعنى والجدوى والعلاقة مع مفردات هذا العالم بكيفيّة إنسانية تزهر في الاتصال وتخلع طابعاً قارّاً من الانسجام والمساحة المشتركة. بهذه الخلفية يمكن لنا قراءة الشاعر محمد أبو زيد في إصداره الأخير "مقدمة في الغياب" (دار شرقيات، القاهرة - ٢٠١٤) الذي يتبدّى نصّاً واحداً وإن جاء في أربعة أقسام وفي عشرات النصوص بوصفها زوايا ومنظورات تحفر في الاتجاه نفسه بملمح تكراري تراكمي - لا يتخلّى عن صبغته الجماليّة - يشي بالمأزق الوجودي الذي ينخرُ في بناء الذات ويصدّعُها إلى أشطارٍ لا تلتئم؛ محض نثارٍ يأتي متخفّفاً عن العالم ومنزاحاً عنه إلى هاويته التي لا يبصر غيرها؛ تطلبه ويسعى إليها.
الانسحاب من الحياة والانسلاخ من صورة لا تدلّ عليه ولا تعبّر عنه. ما يراه الآخرون ليس هو ولا تلك الصفحة المشرقة. كائن خرِب بغطاء برّاق صنعتْهُ عينٌ خارجيّة لا تخصّهُ ويبرأ منها، وقد آنَ له أن يخرج من حفلة الضجيج وأن يرمي بالقشرة الملتمعةِ بزيفِها. خلخلةُ الجسد وانفراطُ معناه. جسدٌ لا يصلح للحياة ولا تصحُّ معه معاشرة وأحرى به الانصراف عن المشهد: "لو دقّقتم أكثر/ لشاهدتم مستعمرةَ الجذام فوق وجنتيّ/ قلبي الذي يعجبكم تفانيه في حبّكم/ اشتريته من بائعٍ متجوّل/ يدي التي تصافحكم بحرارة/ انظروا../ إنها من البلاستيك/ وجدتُها في القمامة/ أصابعي التي تلوّح لكم/ قضبان زنزانة/ وضحكتي التي تجامل نكاتكم التافهة/ شريط كاسيت مسجّل).
الجسد هو ما يثقل على الذات ويجعلها منسحقةً تحته. الحضور البائس الفارغ يلطّخُهُ الحزن وتفدحُ به الغربة؛ مهمازٌ مسنون ينخسُ ويحثُّ على التعجّل بتفكيك هذا الجسد وجعله أشلاء تذهب في الأرض ويستحيل تجميعها بما يعني تشييد الغياب على قنطرة الجسد؛ الامّحاء الكامل الخالص؛ التذرير الذي يوجب النهاية، ويحلّ العبء الذي يعمل مثل مطرقةٍ تثبّتُ الذات إلى جدار عذابها وشاهدها الناغل بالذكريات تلك المطحنة التي تقول كم هو غريبٌ وتالف. لا يسندُهُ ماضٍ ولا يهشّ له مستقبل. وجودٌ غَفْلٌ يحدُّهُ الجسد ويتقفّصُ عليه؛ ينتظر صيحة الخروج وفكّ الأسْر. يتحيّن الضربةَ الماكرة المشتهاة وهي تنزل تشطره وتلاشيه وتعلن غيابه؛ معافاته من عالم الاضطرار والقيد؛ عالم الصور الثابتة المتكررة التي هي في المحصلة "لا شيء" ومن العبث الانجرار إلى دائرة إنتاجها. فليبطلْ هذا الجسد ولينلْ الضربة: "بعد خمس دقائق سأتشقّق. لن أنتبه وأنا أسير إلى السيف الذي يقسمني نصفين مثل تفاحة، لن ينتبه أحد إلى نصف جسدي الذي ركب القطار وغادر، ونصفي الآخر الذي لا يزال ينتظر في محطة الباص./ .../ عيني سأتركها تبكي هذه المرّة كما كانت تريد، تنزف ما تبقّى مني، قد أمنحها لطفلٍ يريد أن يكمل مجموعته من البِلي، أو أسند بها كوكباً كاد أن يتهاوى. عيني الأخرى سيقول الباعة أنها مستعملة ولا تصلح إلا طعاماً للسناجب./ قدمي اليمنى ستسير إلى ما لا نهاية علّها تعود بالحقيقة الغامضة، أمّا اليسرى سأتركها لبائعٍ يريد أن يسند بها مظلة خضرواته الكسيحة".
مخلوقُ التعاسة؛ ربيبُ الكوابيس؛ الدائخُ المعلّق في مروحة الندم.. يتخلّصُ من إهابه ويفرُغُ من حياته؛ الشبهة التي أفسدت ما فات وتتربّصُ بما يلي. ينهضُ معانقاً هباءَهُ حاتّاً أثرَهُ وكلَّ متعلقاتٍ تشير إليه. هو الذي بلا وجود. اللاأحد متجسداً في صرخة المغادرة؛ نافراً من اللاشيئية؛ نافذاً وذائباً في العدم: "أرفعُ صوتي/ وسطَ ملايين الآذان/ وأطلقُ صرخة../ صرخةً واحدةً طويلة../ لا تنتهي// أنا../ لا أحد".
........................

*نشر في صحيفة الوطن السعودية