29‏/05‏/2011

أثر النبى: رواية بين بدايتها واكتمالها خمسة دواوين شعر

عزة حسين*

محمد أبوزيد أجمل شعراء جيله. هو من ندرة يفعلون أشياء عديدةٍ بنجاح، أجملها الشعر: يكتب تدويناته الـ«حزاينى شوية».ويجمع الأعمال الإبداعية والنقدية على موقعه الناجح «الكتابة»، ويذهب إلى عمله بالتليفزيون، ويجالس أصدقاءه على مقهى «عم صالح»، ويداعب ابنه «سيف» بالمنزل. ومؤخرا كتب محمد أبوزيد رواية بعنوان «أثر النبى»، لها نفس هموم أشعاره، فى دواوينه الخمسة السابقة.

حيث: اليتم الضاغط، أسى الوحدة، مراثى الحروب، الالتصاق الشعرى بالهم العام، والتمرغ فى التراث الصوفى، لكنه يرى أن هم الرواية كان مختلفا وزائدا يقول: «كان هما خاصا متوازيا مع الهم العام، هم الوطن بأكمله، حيث حالة من التدين الظاهرى.

اصطدم بها بطل الرواية مع جماعة الإخوان المسلمين، أو عضو الجماعة الإسلامية الذى قابله فى القطار، أو فى سكنه ببيت الطلبة التابع للسلفيين، ويعلق لافتة «حلاق الجمعية الشرعية ممنوع حلق اللحية»، وحيث العجز الذى يلاحق وطنا بأكمله، بما فى ذلك طلاب الجامعة أبطال الرواية، العاجزون، وهم بعد فى العشرينيات، عن فعل أى شىء أو حتى الحلم بأى شىء للمستقبل، فضلا عن الهم السياسى للرواية وهو احتلال أمريكا للعراق.

بدأ أبوزيد كتابة روايته عام 2003، بعيد الاحتلال الأمريكى للعراق ولم ينته منها إلا عام 2010، وخلال هذه السنوات أنجز خمسة دواوين: «بدأت كتابتها وسط المظاهرات التى كانت تعم القاهرة، وحالة الاكتئاب التى أصابتنا جميعا، لأنه ليس بأيدينا شىء سوى الفرجة والعجز، فكانت الكتابة بالنسبة لى مهربا مما يحدث، وطريقة للنسيان، وللإدانة.

إدانة الذات العاجزة، وإدانة جيلنا بأكمله أمام الأجيال التالية بأنه لم يستطع أن يفعل شيئا سوى أن يتفرج».

لتناسخ الهموم، تقريبا، بين شعره والرواية، وتقاطعها مع ما يعرفه البعض عن محمد أبوزيد، وشعره، واشتباك ذلك مع أحداث واقعية مجايلة، سيظن البعض «أثر النبى» سيرة ذاتية لكاتبها، وسيحتفظ محمد بحق الاعتراض قائلا: «ليس معنى أن تكتب الرواية بصيغة المتكلم أنها سيرة ذاتية، لكننى أعتبرها رواية جيل بأكمله»، يوضح: «فى الفترة الأخيرة انتشرت على الفيس بوك «جروبات» تؤرخ لأهم ذكريات الجيل الذى ولد فى أوائل الثمانينيات، من أغانٍ، وإعلانات، ومسلسلات، وصور.

وقد فعلت فى الرواية شيئا ربما يشبه ذلك، إذ ستجدين فيها رصدا لأهم أغانى، وإعلانات، وعبارات، ومطربى أوائل القرن، وغيرها من تفاصيل يذكرها الجيل جيدا: كغرق العبارة سالم اكسبريس، احتلال العراق للكويت، الغزو الأمريكى لبغداد، وغيرها، والرواية بهذا الشكل تؤرخ لجيلى بأكمله، وفى النهاية لا أنكر أن فى الرواية جزءا من مشاهداتى، لكنها ليست أنا، هى الآخر، ولذلك هى رواية وليست قصيدة».

‏«كان‏ ‏الجو‏ ‏حارا‏ ‏وخانقا، عندما كان‏ ‏أستاذ‏ ‏الجامعة‏ ‏في‏ ‏المحاضرة‏ ‏يقول‏: «‏أنتم‏ ‏الجيل‏ ‏الذى‏ ‏تغرب‏ ‏آباؤه‏ ‏في‏ ‏مدارس‏ ‏ومزارع‏ ‏ومستشفيات‏ ‏المغـــــرب‏ ‏العربــــــى‏ ‏والخليج، ‏وعادوا‏ ‏ليشتروا‏ ‏شققا‏ ‏ويبنوا‏ ‏بيوتا‏ ‏في‏ ‏قراهم‏، ‏سقطت‏ ‏فى‏ ‏الزلزال‏ ‏أو‏ ‏غرقت‏ ‏في‏ ‏السيول‏، ‏أو‏ ‏نصبت‏ ‏عليهم‏ ‏شركات‏ ‏التوظيف‏ ‏وسرقت‏ ‏تحويشة‏ ‏العمر‏.

أنتم‏ ‏الجيل‏ ‏الذي‏ ‏لم‏ ‏يتعاطف‏ ‏مع‏ ‏تعامل‏ ‏الحكومة‏ ‏مع‏ ‏أهالى‏ ‏الجماعات‏ ‏الإسلامية‏ ‏وفضل‏ ‏تسلية‏ ‏أيامه‏ ‏بحكايات‏ ‏ليالي‏ ‏الحلمية‏ ‏والراية‏ ‏البيضا‏ ‏وأحلام‏ ‏الفتي‏ ‏الطائر‏، ‏أنتم‏ ‏الجيل‏ ‏الذى‏ ‏شاهد‏ ‏فى‏ ‏طفولته‏ ‏الطيور‏ ‏وهى‏ ‏تغرق‏ ‏فى‏ ‏بترول‏ ‏الكويت‏ ‏المسكوب‏ ‏في‏ ‏الخليج‏ ‏وشاهد‏ ‏انتهاء‏ ‏حلم‏ ‏الوحدة‏ ‏العربية‏ ‏علي‏ ‏الهواء‏، ‏أنتم‏ ‏جيل‏ ‏فاشل‏»، ‏ثم‏ ‏قاء‏ ‏فى‏ ‏طرف‏ ‏قاعة‏ ‏المحاضرات‏ ‏دما، ‏فتسللت‏ ‏أصابع‏ ‏الولد‏ ‏إلي‏ ‏أصابع‏ ‏البنت‏، ‏بينما‏ ‏عاد‏ ‏الدكتور‏ ‏ليرسم‏ ‏علي‏ ‏السبورة‏ ‏سارية‏ ‏وعلما‏».

أستاذ ‏الجامعة فى رواية أبوزيد كان من جيل نكسة 1967، بينما كان محمد من جيل نكسة سقوط بغداد، ومن قبلها غزو العراق للكويت، وبينهما فرق يشير إليه الكاتب قائلا: «نكسة 67 كانت نكسة أمة عربية فى زعيم كانت تلتف حوله هو عبدالناصر، بينما كان غزو العراق نهاية التفاف هذه الأمة حول ذاتها، ونهاية ما يعرف بالوحدة العربية.

ويضيف: «فى 67 خرجت الشعوب العربية تطالب عبدالناصر بالبقاء حتى يجمعهم مرة أخرى، وفى غزو العراق خرجنا دون أن نلتف حول أحد، لأنه لم يكن هناك أحد، وكل الزعماء يرتجفون خوف من غضب أمريكا».

فى نكسة 67 كانت هزة خفيفة لحلم الوحدة العربية، وكان غزو العراق زلزالا وبركانا وضع نهاية هذا الحلم».

الاحتماء بالدين سواء بالأخونة أو التصوف، وجنى حصاد التحول الرأسمالى، والفقر، والقهر هموم كبرى عمقتها شاعرية لغة محمد أبوزيد، وخففتها سخريته، لدرجة أن فصلا كاملا بالرواية، كان مرويا بطريقة التعليق على مباريات كرة القدم، وفصولا أخرى تخللتها شخصيات كاريكاتيرية كالتى تحتشد بها قصائد محمد أبوزيد وتحتشد بها الحياة:

«السخرية هى سلاح العاجز، وقلت لك من قبل إن كتابة الرواية كان دليل عجز عن التغيير، لكن السخرية تيمة أساسية لدى فى الكتابة سواء فى الشعر والرواية، والشخصيات الكارتونية والمأساوية ربما أحد تجليات هذه التيمة.

وربما هى وجهة نظرى فى هذا العالم، الذى أعتبر الكتابة محاولة لإعادة ترتيبه، حتى يصبح كما يروق لى، أو يصبح أفضل، لهذا تصادفك شخصيات فانتازية أو أسطورية أو كرتونية لدى.

فى روايته، كما فى دواوينه، لا يكتب أبوزيد دون بنتٍ يحكى لها أو عنها، زينب المروى لها فى «أثر النبى»، وعائشة، ومن قبلهما مريم، وميرفت عبدالعزيز، وسلوى، ورايان فى بقية الدواوين، يصر على اختلاقهن كأنهن مبرر للحكى: «هو ليس اختلاقا، لكنه جزء من مشروعى الإبداعى التراكمى.

ولذلك ستلمسين تكرار هذه الشخصيات فى أكثر من عمل، فشخصية عائشة موجودة فى الرواية وفى ديوانى الأول، وشخصية ميرفت موجودة فى أكثر من ثلاثة دواوين، فضلا عن شغفى بالبحث عن شعرية الأسماء والأماكن».

وبالطريقة نفسها يصر الكاتب على ترديد أسماء الأماكن، المدن، والشوارع، والمقاهى وكأنما يؤكد أنهم كانوا هنا، وأن ما يرويه حدث بالفعل: «أنا مغرم بالتفاصيل الصغيرة، هذه التى تتراص فتكون العالم، أو الرواية، أو القصيدة، كلنا مغرمون بقرية ماكوندو الأسطورية التى خلقها ماركيز فى «مائة عام من العزلة»، وأنا أسعى فى الكتابة إلى تحويل الواقع إلى أسطورة، وتحويل الأسطورى إلى معاش، وأعتقد أن الفن يسكن هنا».

أخيرا فقد حكى محمد أبوزيد فى روايته، على طريقة الاعتراف أو الشهادة، ما يصير معه غامضا التنبؤ بما كان سيقطع كتابة الشعر بالرواية مرة ثانية، أم سيواصل الشعر بعد شهادته تلك، المهم أن لديه ديوانا يجهز له حاليا باسم «مدهامتان»، يقول إنه استفاد فيه من تجربته الروائية، ويوضح أن ما يؤمن به طوال الوقت هو التجريب، على جميع الأشكال، سواء فى اللغة، أو الصورة، أو الإيقاع، أو الأسلوب، ويرى أن نهاية المبدع تكون عندما يتوقف عن ذلك.

‏يذكر أن رواية أبوزيد الصادرة عن دار شرقيات 2010، سبقتها خمسة دواوين هى: ‏ ‏«ثقب‏ ‏فى‏ ‏الهواء‏ ‏بطول‏ ‏قامتى» ‏ ‏عام‏ 2004‏، «قوم‏ ‏جلوس‏ ‏حولهم‏ ‏ماء» عام‏ 2005، «نعناعة‏ ‏مريم‏» ديوان للأطفال عام 2006، «‏مديح‏ ‏الغابة‏» ‏عام‏ 2007‏، و«طاعون‏ ‏يضع‏ ‏ساقا‏ ‏فوق‏ ‏الأخرى‏ ‏وينظر‏ ‏للسماء‏» ‏عام‏ 2008.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نشر في جريدة الشروق

أثر النبي: رواية تستقصي حالات من الحلم والطيران والسقوط


هويدا صالح*
'أكتب لأنسى، لأفرغ ذاكرتي على الورق وأصير طليقا، لأنسى وحدتي في هذا العالم' هكذا أطلق محمد أبو زيد سؤال الكتابة منذ اللحظة الأولى في روايته: 'أثر النبي' فالكتابة هي التي ستحرر الذات وتعينها على التحرر والنسيان، نسيان الألم والوحدة، فبعد خمسة من الدواوين الشعرية يصدر أولى تجاربه السردية. أبو زيد راهن فيها على كتابة سيرة المهمشين والمنسيين في لغة تجمع بين الشعرية والصوفية في صنع فضاء سردي مميز. هم المهمشون الذين يعيشون على هامش المجتمع لا يشعر بهم أحد، يتتبع أبو زيد حيواتهم في سرد مكثف شحيح إلا أنه متخم بالدلالات والإحالات التي يفرضها العالم الصوفي الذي يتناص معه، وكأنه استعار من الصوفية خطابها ولغتها المليئة بالإشارات والمكثفة بشكل كبير.
أبطال الرواية هم مجموعة من شباب الجامعات الذين تشكل وعيهم السياسي والثقافي في عقد انتكست فيه الحريات والقومية والقضايا الكلية، شباب عاصروا حربي الخليج الأولى والثانية، وانكسر حلمهم مع الحلم العربي وموقف مصر السياسي الخارجي نحو القضايا العروبية.
قدم هؤلاء الشباب من قراهم ومدنهم الصغيرة في العمق المصري ليكملوا تعليمهم في القاهرة المدينة المرعبة التي أكلت روحهم وزادتهم تهميشا على هامشيتهم الاجتماعية والجغرافية.
المشهد الأول أو الفصل الأول الذي عنونه بـ'الدم' يلقي بكل خيوط الرواية التي سوف نراها ونجمعها فيما بعد، فالسارد أو البطل الذي يعتلي السلم ويدخل غرفته الآن ليتعثر في جثة زميله ودمه وقيئه يعطينا في جمل خاطفة نبذات عن أبطال الرواية أو زملاء السكن الجامعي الذي يسكنونه: 'مئذنة باب زويلة تلوح من الشباك، وجسد عادل هياكل ملقى أمام سريره على الأرض بارد تماما، الدم الذي تقيأه يملأ الأرضية، تجتاحني حالات متفاوتة من الرعب والغضب والرغبة في البكاء'.
البطل منذ صغره يحلم بالحصول على قبس من أثر النبي، أثر النبي الذي حكى له جده عنه وهو صغير: 'أنتقل من شارع إلى آخر، كتابع يبحث عن نبيه، لا أجيد قص الأثر، لا دربة لدي ولا طاقة لأفعل، لا أثر لأي شيء، طوال الوقت أشعر أن كل شيء سينتهي بعد قليل، علي فقط أن أواصل التنقل والانتظار'.
منذ اللحظات الأولى والسارد يغرق في الغربة، ليست غربة جغرافية فقط، بل هي غربة نفسية، وكأنه فر بغربته من قريته في الصعيد ليأتي وتبتلعه المدينة الكبيرة، فيبحث طوال الوقت عما حكى عنه جده الذي كان يأتي في رحلة صوفية إلى المدينة، ويعود ليحكي للطفل الصغير عن شخوص وحكايات، فحين يكبر الصغير، ويهرب بغربته إلى المدينة يتتبع أثر النبي، ويبحث عن حكايات الجد، فلا يجدها إنما يجد آلاما وطلابا يحملون غربتهم داخلهم، ونظاما يقهر الطلاب في الجامعات وأمن الدولة والأمن المركزي. تصاحبه في غربته مجموعة من الشخصيات لا تقل عنه غربة، فها هو القذافي من البحيرة، أبو العزايم من الشرقية، حمدي من بني سويف، يوسف من الأقصر، الشيخ سيد وعادل هياكل من الفيوم. تحمل كل شخصية من هؤلاء أحلامها البسيطة، حلم حياة المدينة، والتعبير عن الذات، والبحث عن فتيات قد يشاركنهم ذات الحلم: 'ينتهي الشيخ سيد من تناول العشاء، يجلس منتظرا حمدي الذي عليه الدور في إعداد الشاي الليلة، يلتقط كوب حلف البر الذي يفضل تناوله، ويبدأ سهرة كل ليلة مع القذافي وعادل هياكل وأبو العزايم في ركن الحجرة بالحديث عن بنات الغورية، وأفعالهن التي يشيب لهولها الولدان، أو بقراءة فصل من كتاب تحفة العروس الذي يخفيه حمدي عن أعين عم رجب حارس السكن'.
دأب أبو زيد على أن يصدر كل فصل بنص صوفي يتناص معه، وبالطبع يأتي النص الصوفي بذاكرته المعرفية في ذهن القارئ، وتنوعت التناصات ما بين مقطوعات شعرية صوفية أو مدائح أو أغان ومواويل صوفية أيضا، يقول في مقدمة الفصل الأول الذي يقدم فيه لشخصياته يأتي بموال صوفي مكتوب بالعامية المصرية، وكأنه يبرر سرديا رحلة البحث عن الذات التي بدأها السارد إلى القاهرة، ليسكن في جوار آل البيت يقول: 'يا آل بيت النبي أمانة ما تفوتونيش.. عايز أنول مطلبي بس في حماكم أعيش. قال يا جريح الهوى إذا كنت غويت سافر إلى مصر واشكي لمولانا ـ لسيدنا الحسين ـ حالك .. هاتنول آمالك ـ يا حبيبي ـ وتتهنى مع الدراويش'.
كما أنه يتناص مع نصوص شعرية صوفية مثلما تناص مع أبيات لابن الفارض حيث يقول:
ما لي سوى روحي وباذِل تفسِه
في حب من يهواه ليس بمسرفِ
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني
يا خيبة المسعى إذا لم تسعفِ'
ولقد افاد الكاتب من تقنيات التجريب في السرد، فقد خرج على كلاسية السرد، فلم يقدم لنا حكاية محبوكة أو تناميا زمنيا خطيا، بل يقدم لنا سرديات متجاورة كل سردية فيها تضيف قطعة من قطع البازل الذي يصنع منه لوحة مكتملة يسميها 'أثر النبي' كما أنه يتلاعب بالزمن ما بين الفلاش باك والزمن الآني في محاولة لقص أثر الإنسان الذي مات داخله منذ أن كان طفلا يحلم بالطيران على سطوح الدار وحتى أصبح شابا يحلم بطيران من نوع جديد في شوارع القاهرة، لكن حلمه بالطيران يجهض طوال الوقت، فلا يشعر بتلك النشوة التي يحلم بها، نشوة أن يعلو الجسد لأعلى، لأعلى، ثم يشعر بالخفة كام طائر يفرد جناحيه بعرض الفضاء، لكن السقوط دوما ينتظره، بدءا من موت الأم وهو صغير ومرورا بكل الخيبات التي أوصلته إلى حيث يقف الآن مرتعبا من موت زميله في الحجرة عادل هياكل، ورغم أن زميله عُرف أنه مصاب بالسل، وأنه وارد أن يموت وسط قيئه ودمه إلا أن الذات الساردة التي تعودت على الخوف والاضطهاد تخشى أن يُتهم بقتله.
ولا تقف الرواية عند خيبات الأبطال الشخصية، بل يعمد الكاتب إلى أن يركز الكاميرا على الخيبات القومية التي شكلت وعي هذا الجيل وزادته غربة، فيتداخل الهم الخاص بالهم العام، فها هم طلاب الجامعات والشباب يثورون على دخول أمريكا العراق، وسقوط بغداد، سقطت بغداد وسقط الحلم العام، فلم يكتف الكاتب بحلم الطيران والسقوط للذات الساردة، بل أسقط الحلم العام بسقوط بغداد : 'في جرائد السبت: كانت صور المظاهرة في صدر الصفحات الأولى، كانت صورتي بعروق وجهي النافرة وأنا أهتف في طرف صورة في الصفحة الأولى من جريدة الوفد'، إذن حاول لملمة شتات الذات بأن يتلاشى همه الفردي في الهم العام، وكأن حلم الخفة والطيران تحقق حين نسي الهم الذاتي، فها هو يتصدر الصفحة الأولى هو وزملاؤه في مظاهرات الاعتراض على سقوط بغداد، لكن الأمن والنظام يقمعان التظاهرات، فلم يلق المتظاهرون إلا القهر والاستبداد 'أهرول من شارع شمبليون لشارع معروف لشارع عدلي هربا من الهراوات، أهرب من لا شيء إلى لا شيء، في المساء'.
في لغة شفيفة وسرديات تشبه كادرات سينما خاطفة يتوالى السرد ليصور لنا شحنات الألم والبكاء التي تنتاب السارد ويتناص مع فيلم 'العصفور' وجاء استدعاؤه لفيلم العصفور لأنه يصور لحظات سقوط للأمة العربية والمصرية لا تقل عن سقوط بغداد، فمشهد النكسة وعبد الناصر الذي يحاول التنحي، والشعب الذي يطلع للشوارع ليجبره على عدم التنحي هو أشد المشاهد التي سيطرت على الناس، فمصر لم تتصور كيف تواصل دون زعيم أو بطل يأخذ بيدها ليخرجها من نفق النكسة المظلم، يجيد الكاتب اللعب بكادرات فيلم العصفور، فمحسنة توفيق بطلة الفيلم على مستوى الواقع كانت تشارك في المظاهرات التي تندد بسقوط بغداد، وعلى مستوى الفيلم كانت تستنهض الهمم وتصرخ صرختها الشهيرة وهي تجري في شوارع القرية 'هنحارب، هنحارب' إذن السقوط واحد وإن اختلف العصر، والقهر والألم واحد، ومحمد أبو زيد يختم روايته بمشهد عبد الناصر ـ في الفيلم ـ وهو يخبر الشعب المصري بقرار التنحي، وبطل محمد أبو زيد وهو يفر من كابوسية الواقع 'صوت عبد الناصر يواصل تلاوة خطاب التنحي في أذني: فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، وقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تساعدوني فيه... أهرول والشوارع تزداد ضيقا، لا أشعر بثقل الحقيبة التي مزقت كتفي، تسقط جميع الأشياء من ذاكرتي، يقفز وجهك أمامي، أهرول أكثر'.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
' روائية وناقدة من مصر

أثر النبي.. الشاعر روائياً

فريدة النقاش

شيخ الطريقة الذي أجلسني بجواره في إحدي حلقات الذكر في مسجد الحسين قال لي:

«اعرف الفارق بين العلامة والأثر».. ثم يضيف الشيخ «إن الفارق مثل ما بين الحياة والآخرة فاتبع العلامة، واترك الأثر.. كلنا نبي نفسه، فالبس رداء تقشفك، واترك الناس تتبع أثرك». وهناك صندوق يضع فيه «أدهم صبري» الراوي في رواية أثر النبي «لمحمد أبوزيد» كتبا وصورا قديمة وقصاصات صحف.. ويتساءل هل هذا الصندوق هو أثري الذي سأتركه أم علامات مرت؟ فهل يبحث صاحبنا عن خلود ما هو التواق إلي السفر، الحالم بالطيران «فاردا ذراعي كلاعب سيرك يخاف من السقوط أرفع يدي لأعلي لكنني لا أطير يا زينب».

«زينب» هي الحاضر الغائب لا تطل علينا أبدا في الرواية لكنها ملاذ صاحبنا الطالب الذي ينتقل من مكان بائس لآخر أشد بؤسا يهرب «من عالم ضيق، فأجد العالم يضيق أكثر» عالم يقف علي أظافره في انتظار أن تدق الشرطة الباب في أي لحظة «احتمال أن يرجعوا مرة أخري، يدقوا الباب فيقتلوني حين يجدونني وحيدا».. فنحن أمام مدينة بلا قلب وبوسعنا طيلة قراءة النص أن نستعيد الديوان الأول بهذا الاسم للشاعر «أحمد عبدالمعطي حجازي» كما نستدعي قصيدته «لا أحد» ففي هذه الرواية الشعرية «الغرباء يموتون هنا دون أن يحس بهم أحد»، ومعظم شخصيات الرواية هاجرت من الريف إلي هذه المدينة الموحشة التي لم يجدوا فيها سوي القهر والقمع علي كل المستويات وطنية حيث ينتهي القص بالغزو الأمريكي للعراق، وشعور الجميع بقلة الحيلة إزاءه، واجتماعية حيث الرزق الشحيح والمساكن الخانقة والأحلام المجهضة، وروحية حيث التمزق بين حلم الشخصية الراوية بالطيران وضغوط الإخوان المسلمين الذين يحرمون القصص وكل أشكال الفن، ويحلق الموت بين هذه العوالم كلها كأنه طائر الرخ، فمن موت حقيقي «لعادل هياكل» زميل السكن الذي وصفوه هذا الوصف بسبب مرض السل الذي أكله إلي الكتب «عن عذاب القبر» وعلامات الساعة الصغري التي يعطيها له الرجل المكلف بتجنيده لحركة الإخوان.. ويجد الراوي أنه بذلك يخرج من نفسه الحقيقية إلي نفس أخري «أتخلي عن وجهي وأرتدي وجها آخر»، هذا بينما تبدأ الرواية «بالدم» في فصلها الأول حيث ينزف عادل وتنتهي بتصريح بالدفن أي أننا بصدد بنية دائرية تبدأ بالموت وتنتهي من حيث بدأت.

ولمثل هذه البنية دلالات كثيرة، فهي اغتراب حيث يدور الراوي حول نفسه، وهي انغلاق دائرة القمع واللوعة التي تعيشها الشخصيات في بحثها المضني عن ثغرة، وذلك كله علي خلفية من الكدح موت الأم وتسلط الأب وزوجته.

تنفتح ثغرة في الدائرة المغلقة فقط في حالة التصالح مع العالم التي يجريها الراوي أثناء غزو أمريكا للعراق واندلاع المظاهرات الاحتجاجية «كنا نوصل الطعام يوميا إلي الطلبة المحاصرين وأشعر أنني قد بدأت أتصالح مع الناس.. مع الشوارع» إنه التصالح الذي يتم فحسب في حالة الفعل الإيجابي من أجل هدف كبير يتجاوز الأشخاص.

يلجأ الكاتب إلي السخرية حين يتعامل الراوي بمنتهي الجدية مع «حجازي» رفيقه في السكن الذي تخيل أنه ممثل وقام بدور «ضجيج في المقهي»، ولكننا أيضا سوف نبتسم ساخرين حين يخبرنا أنه كان يقرأ في المترو والباص والترام ونحن نتساءل كيف كان يفعل ذلك حقا؟

نحن بصدد نص أدبي جميل مفعم بالمشاعر كتبه شاعر فيه اكتناز وكثافة في اللغة الآسرة بادئا بالمعرفة كألم في مفتتح الكتاب يقول في مناجاته «لزينب» التي هي قارب نجاته «هنا خنتك يا زينب، أنا الذي أعرف كل شيء، وأنت التي لا تعرفين، أتذكر فأتعذب» ويتشبع النص بمقتطفات من أشعار الصوفية إضافة للتاريخ المكثف للصمود أمام العدوان الذي يحكيه محمود المليجي في فيلم «الأرض» كمقدمة لفصل الحرب.

يستطيع «محمد أبوزيد» أن يطمئن بعد روايته الشعرية تلك إلي أنه ترك أثرا حتي وهو «ينتقل من شارع لآخر كتابع يبحث عن نبيه» فهو نبي نفسه كما قال له الشيخ وحتي بعد أن أصبح حلم الطيران جريا في الطرقات اتقاء للألم وبحثا عن معني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في جريدة الأهالي

20‏/05‏/2011

ركوب الموجة التي تجري ورا الموجة وعاوزة تطولها

تقريبا كل الكتاب الصحفيين ، والشعراء ، و الروائيين ، والنقاد ، والإعلاميين ، والفنانين ، والبقالين ، كلهم تنبئوا بالثورة ، بل أكاد أجزم بأن 85 مليون مصري تنبأ بالثورة في كلمة قالها ، أو حوار مع النفس أو تصريح أو مقال أو قصيدة أو رواية أو أغنية ـ بس الناس ما خدتش بالها ـ كلهم تنبئوا بالثورة إلا أنا الوحيد الذي كنت غافلا نائما متنيلا على عيني ، وأعتقد أيضا أن كل المصريين ـ حكومة ومعارضة عمالا وفلاحين ـ كانوا ضد النظام ، وقالوا للأعور إنت أعور في عينه ، وخرجوا في المظاهرات والاحتجاجات وطالبوا بإسقاط النظام طوال الثلاثين عاما الماضية ، إلا أنا ـ برضه ـ ، وما عرفش إيه الخيبة اللي الواحد فيها دي ، يعني مصر كلها تبقي عارفة إنه فيه ثورة هتقوم من قبلها ، وما حدش يقول لي ؟ .
طبعا ما يحدث هو نوع من أنواع المزايدة ، و محاولة ارتداء ملابس الآخرين ـ حتى لو كانت واسعة أو ضيقة ـ ليس مهما ، واللحاق بأي مكسب ، بأي فتفوتة من تورتة الثورة ، المهم أن يبدو الواحد ثوريا، بطلا ـ ولو من ورق ـ مع أنه ليس عيبا إن الواحد لم يتوقع بالثورة ، بل أكاد أجزم إن أحدا حتى مساء جمعة الغضب ( 28 يناير 2011) لم يكن يتوقع أن تصبح هذه ثورة ، تؤدي إلى خلع النظام الفاسد السابق ، وأحدا لم يتوقع ممن مشوا في مظاهرات 25 ، و26 ، و27 يناير أن تكون هذه الاحتجاجات التي رفعت شعار " تغيير حرية عدالة اجتماعية " أن يسقط النظام ، حتى الذين رفعوا شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " ـ ومع فكرة الحلم الثوري الطاغي ـ لم يكونوا يتوقعوا أن يسقط النظام .
لذا فما يحدث الآن من أن تجد فنانا يقول لك أنا قلت من 50 سنة في حوار مع جريدة البعكوكة أن هناك ثورة ستقوم في مصر أو يقدم نفسه على اعتبار أنه كان ضحية أو مناضلا ـ بس انتم ما كنتوش واخدين بالكم ـ ليس إلا كلاما من قبيل التنكيت ، ولا يختلف شيئا عن كلام وفاء عامر التي قالت أنها ذهبت إلى ميدان التحرير إثناء الثورة بالنقاب ،  وبسبب انتقادها الدائم لحكم الطاغية الفرد ، ومن يصدق مصطفى الفقي الذي كتب مقالا في المصري اليوم بعد إزاحته ـ و لله الحمد ـ من جامعة الدول العربية يقول فيه أنه يعلم أن كل شباب الثورة كانوا يدعمونه للوصل إلى المنصب ، مع أنني لم أجد شابا ولا كهلا يحبه ، المشكلة أن أمثال هؤلاء الأشخاص يبدوا أنهم يصدقون أنفسهم و يطالبوننا أن نصدقهم ، الكلام ليس عليه جمرك ولا يعاقب عليه القانون ، لذا من حق كل واحدا أن يتكئ ويقول ما يريد ، لكن نرجو ألا يتكئ علينا .
مشكلة المتنطعين والمزايدين والراكبين ـ الموجة ـ أنهم حتى يثبتوا أنهم كانوا ثورار وقارئي فنجان ومتنبئين ـ فلا بد من ضحايا ، وهناك ضحايا سههلة وهي أذناب النظام السابق الموجودين في السجن ـ وهناك ضحايا آخرين لا يعرفهم أحد ، تجد نفسك قاعدا في بيتك ـ لا بيك ولا عليك ـ فتجيلك طوبة في راسك ـ إيه اللي حصل يا جماعة ـ يقول لك ده فلان الفلاني بيقول تصريح إنه كان ثوري مع أنه كان نائما في أحضان الحزب المحلول
بالأمس كتب أحد ثوار يناير على حسابه في تويتر " بعض المناضلين إذا جلس مع جيفارا لخرج جيفارا من الجلسة وهو يشعر أنه خائن وعميل وجبان " ، هذا حقيقي ، فالمزايدة على كل أحد ، وعلى كل شيء ، ليست هي الحل لنجاح الثورة ، وركوب الموجة التي تجري ورا الموجة ، ورا الموجة ـ للأسف ـ مش هيخليها تطولها ، فحنانيكم بأنفسكم .
أحيانا تكون أفضل خدمة يقدمها بعض المتنطعين والمدعين وراكبي الموجة والمزيداين ، أقول أفضل خدمة يقدمونها للثورة هي أن يظلوا صامتين .