24‏/08‏/2019

«عنكبوت فى القلب» تقاسيم على لحن الوحدة


د. عزة مازن
«عنكبوت فى القلب» (2019) رواية للشاعر «محمد أبو زيد»، نفث فيها روح شعره، فجاءت امتدادا لمشروعه الإبداعى فى الشعر وتنويعة جديدة على روايته السابقة «أثر النبى» (2010). تحفل الرواية الجديدة باقتباسات من دواوينه السابقة وتستجمع شذرات من شخصية «ميرفت عبد العزيز» من تلك الدواوين. مثلما يتداخل الغرائبى مع الواقعى فى الرواية، يظهر المؤلف بشخصيته الحقيقية ليصف حيرته فيما وراء السرد: «تتقافز الرواية فى رأسى، تُغير على بطل «أثر النبى» فتسرق وحدته ومشاعره فأشعر أنهما وجهان لعملة واحدة، إحداهما تطوير وإعادة كتابة للأخرى، تجمع ميرفت عبد العزيز من دواوينى السابقة، وتلصقها فى لوحة بازل كبيرة أمامى على الحائط.. ».
تُستهل الرواية بخمس فقرات سردية تشكل عتبة النص وتستلهم منهج الأسطورة، حيث يلتقى الواقعى بالغرائبى، وكأنما يشحذ ذهن القارئ ليجمع قطع البازل المتناثرة فى نصه ليعرف تلك الشخصية الغرائبية الواقعية: ميرفت عبد العزيز. تفتتح الفقرة الأولى من عتبة النص: «فى البدء لم يكن هناك شىء، فقط، الشمس والقمر والليل والنهار والفصول والرياح والشعر والكتاب وميرفت عبد العزيز.... فى النهاية لم يكن هناك شىء. فقط الحشود، والطريق والسيارة والبنايات وزجاجات المولوتوف والوجوه الشوهاء والهاتف وتأبط شرًا وميرفت.... بين البداية والنهاية حكاية ورواية، رواية تنتهى فى السماء، وحكاية تبدأ فى الأرض».
فى ختام الفقرة الأولى يلقى الكاتب بشفرة النص، التى يدركها القارئ قرب نهاية الرواية: «تقول الأسطورة إن الطبيعة غضبت عليه، وأن الله مسخه إنسانًا، يتعذب قلبه كلما تفتحت زهرة على غصن... أو لمح فتاة تشبه ميرفت عبد العزيز تمر من أمام أحد مقاهى شارع شامبليون.... تزيد الأسطورة أنه سيظل هكذا، تائهًا، يدور فى الفراغ بسيارته، مثل مروحة سقف مجنونة. من هنا قررت أن أبدأ هذه الرواية».
فى الفقرة الثانية يحكى، متقمصاً راو تاريخى، حكاية «تأبط شرًا» الذى عاش فى سالف الأزمان وفى النهاية «قرر أن يسير ببغاء، يكرر حكايات الرواة، ويسأل كل من يلقاه عن صوته الذى ضاع منه، ويروى انه عاش قرابة الألف وخمسمائة سنة». تلقى عتبة النص ضوءًا على حياة سابقة لكل من المملوك الوحيد الهارب من مذبحة القلعة، وسامى، حفار القبور الذى اضطر لقضاء ليلة فى إحدى المقابر، ولم يعد. فى ثنايا السرد يرافق الثلاثة، الببغاء والمملوك وسامى، بيبو، الشخصية المحورية فى الرواية. تؤهل الفقرات الأربعة للولوج إلى عالم السرد الذى يبدأ بالفصل الأول «فتى». يدور السرد هنا حول «شخص» – نعرف لاحقًا أن اسمه «بيبو» - يعيش وحيدًا فى «غرفة ضيقة ممتلئة بالكتب والجرائد القديمة والطائرات الورقية واللوحات المقلدة على الحائط واسطوانات الأفلام المدمجة». يتمدد الشخص على السرير الوحيد بالغرفة «وعيناه تتأملان سحابة من الرطوبة ناشعة بوضوح فى السقف ترسم عنكبوتًا وفتاة بجناحين». يحلم هذا الشخص بميرفت، مع أنه لا يعرف أحدًا فى الحقيقة بهذا الاسم، ولكنه علق فى ذهنه منذ وجد اسم «ميرفت عبد العزيز» مكتوبًا فى الصفحة الأخيرة من إحدى كراساته عندما كان طفلا فى الصف الرابع الابتدائي. هنا يلقى الكاتب بخيوط السرد متشابكة مستدعيًا شخصية «ميرفت عبد العزيز» من فضاءاته الشعرية فى معظم دواوينه لتسكن عالمه الروائى وتصنع جسرًا بين العالمين. فى الفقرة الثانية «شكر مستحق للمؤلف» يبدأ الكاتب فى لف حبائل عالمه الغرائبى حول القارئ ليلقى به فى مشهد يستدعى أفلام الكارتون: «اكتشف إصابته بالحب بمحض الصدفة.... فتح البلكونة... ألقى بطرف بصره إلى الركن، حيث الكرتونة الملقاة هناك: كان قلبه ينبض وقد اختفى القمح من حوله.... أزاح خيوط بيت العنكبوت، جرب أن يمد يده ليلمسه فى حذر، لم يجد أثرًا للتفحم، الأماكن السوداء أصبحت بلون ورائحة حقل من البرسيم ونبتت الأجزاء المهشمة من جديد». على مقهى بوسط البلد يلتقى «بيبو» بعلاء الدين الذى يفاجأ بأنه يعرف عنه كل شىء، ويستودعه مصباحه أمانة عنده. وفى مطعم فى وسط البلد أيضًا يلتقى بنادلة ترتدى بلوزة زرقاء مرسوم فى طرفها عنكبوت صغير، يتضح لاحقا أن اسمها «ميرفت» وتعشق تربية العناكب. يستغرق «بيبو» فى عوالم سينمائية. فزميلاته فى العمل «كيت وينسلوت» و"أودرى تاتو». يستعير «بيبو» تلك الشخصيات السينمائية ليشركها فى عالمه الخاص: «يحفظ كل أفلام أودرى تاتو، وكلما رآها حدثها عن دور لها فى إحداها، لدرجة أنه كان يكرر لها نفس الكلام... أنقذها هذه المرة زميلها الطبيب الذى جاء مهرولًا ليحدثها عن مريض أصيب بنوبة هستيرية.... مرّت كيت، ملوحة بيدها، فحرص أن يلقى دعابة صغيرة، لكى تطلق ضحكتها العالية، فتبين أسنانها، ويتأكد أن السوس بدأ ينخر فيها، بسبب عدم استجابتها لنصيحته بالتوقف عن التدخين». تختلط الخيوط وتتشابك ويتسرب الشك إلى عقل القارئ «هل يعمل بيبو موظفًا فى مستشفى للأمراض العقلية، أم أنه أحد نزلائه؟».
فى طفولته سكنت الأحلام عالمه وبدأ البحث عن «ميرفت عبد العزيز». واعتاد أن يصنع طائرات ورقية يطلقها فى الجو يكتب عليها «يا ميرفت». حاول أن يكتب شيئًا آخر «لكن وجد ذهنه خاليًا تمامًا. فأطلقها، راقبها تحلق بعيدًا بعيدًا، فى اتجاه بلاد لا يعرفها، لكن حتمًا تسكنها ميرفت عبد العزيز». اختار بيبو حياة الوحدة والعزلة منذ طفولته، وتكثفت ملامح عزلته المختارة بعد انتقاله من قريته للدراسة فى القاهرة. يبدو بيبو سعيدًا بوحدته، لأنها تعنى الحرية، أن  «تتحرر من الآخرين، من أسئلتهم، من اقتحامهم تفاصيل حياتك...». تدفعه الوحدة لعوالم غرائبية. ففى طريق عودته من المقابر يقف تحت شجرة سنط منتظرًا حافلة تعيده إلى المنزل، فتخبره الشجرة بأنه ما من أحد جاء إلى هناك منذ زار المقابر آخر مرة. طلب منها أن تنساه ولكن «مالت الشجرة بأغصانها قليلًا عليه، كأنها تهمس له بسر، تخشى أن يسمعه الموتى: - ربما لا يحدث، ربما تصير بطلًا لرواية، ربما تحب نادلة، ربما تبحث أنت عن الناس». منعه وصول الحافلة فى نفس اللحظة من أن يخبر الشجرة كم يعشق وحدته ويكتفى بها، ويستغنى بها عن الآخرين: « الوحدة استغناء. أن تكتفى بنفسك عن الآخرين. أن تصبح أنت كل عالمك». تمر الأيام ويزداد بيبو تقوقعًا حول ذاته، فقرر أن يحمى نفسه من المشاعر: «لذا مد يده إلى صدره، خلع قلبه.... وضعه أمامه على الطاولة... وضع بعض الطين والأسمنت عليه حتى سد مسامه تمامًا، ثم أعاد إغلاق صدره». اكتشف بيبو إصابته بالحب عندما شاهد نادلة المطعم التى ترتدى بلوزة مرسوم عنكبوت فى طرفها. وتزداد دهشته عندما يعرف أن اسمها «ميرفت».
هل يحب بيبو وحدته فعلا أم أنه يحتمى بها من الاختلاط بالناس. يبحث عن الآخرين ولكن يبقى على الحافة دون انغماس حقيقى. فهو يحب أن يذهب إلى محطة مصر «كلما أراد أن يختلط بالناس ويشم روائح بؤسهم وحزنهم وحكاياتهم». وفى إحدى المرات كان كل شىء مألوفًا فى المكان، إلا أنه التقى ميرفت فى طريقها إلى الإسكندرية، فسافر معها إلى هناك فى رحلة قصيرة. وتتواصل الأحاديث الهاتفية بينهما وتتكرر اللقاءات غير المدبرة. فيشاهدا عرضًا فى السيرك وفيلما فى أحد دور العرض.
أحب بيبو «الصور التى يرسمها لها فى ذهنه يومًا بعد آخر، فتاة وحيدة تعمل فى مطعم، تعزف الأكورديون، تقود دراجة على كورنيش الإسكندرية، تحب الجلوس بجوار النافذة فى القطار...». عندما عجز عن اختيار هدية مناسبة لها فى عيد ميلادها، أهداها فانوس علاء الدين الذى استودعه عنده، ظنا منه أنه لن يلقاه ثانية. وهنا يحضر المؤلف فى النص متماهيًا مع الراوى العليم: « فهو يشعر أنه عندما يعطى المصباح لميرفت سيقدم خدمة للمؤلف لأنه يغلق دائرة نصف قطرها فى السيرك، وستتعقد الحكاية أكثر، وتصبح لديه مبررات درامية لخلق مستويات أخرى من السرد».  وفى نهاية الفصل الأول يتجلى تماهى الراوى العليم مع المؤلف، فيقابل بيبو على مقهى فى وسط البلد.
احتل الفصل الأول «فتى» ما يقرب من نصف الرواية ويأتى الفصل الثانى «فتاة» لينقسم بدورة إلى فقرات سردية، ولكنها تُستهل جميعًا باقتباسات من دواوين الكاتب السابقة، فبدا كأنما يجمع شذرات شخصية «ميرفت عبد العزيز» المتناثرة فيها. لاحت الفتاة كأنها القرين الأنثى لبيبو، تقدس الوحدة وتعشق العزلة، ويومئ السرد إلى ذلك بهواية تربيتها للعناكب.
تعيش ميرفت حياة غاية فى الروتينية، مثلها مثل بيبو،  ومن ثم تبتدع لنفسها حياة موازية تمتلئ بالغرائب، منها أن تشترك «فى منتديات الغرائب على الإنترنت، وتدمن قراءة روايات أحمد خالد توفيق، ومشاهدة أفلام هيتشكوك وتحفظ مشاهد كاملة من «صمت الحملان»... وتتساءل ميرفت عن شغفها بالعناكب فلا تصل إلى شىء، ولكن  «بينها وبين نفسها تحسد العناكب على دأبها ووحدتها، فدائمًا ما تجد العنكبوت وحيدًا فى أقصى ركن الحجرة».
يتماهى المؤلف مع الراوى العليم فى شذرات متناثرة من السرد، يشرك القارئ فى الأحداث والنهايات المحتملة، بل وتقنية الكتابة ذاتها. فيكرس الفصل الثالث «المؤلف» لعملية الكتابة ذاتها، وهنا يتوقف السرد  ويحكى الكاتب عن أحداث واقعية  فى حياته تلتقى بالغرائبى من وحى الخيال، ويذكر أصدقاء له بأسمائهم الحقيقة، ويتطرق إلى تملك تلك الرواية منه حتى أنه لم يستطع منها فكاكًا: « الرواية بالنسبة لى كانت مثل مارى الدموية، نداهة تقول: تعالى إلىَ حتى تنعتق من الهم الذى يسيطر عليك...». ويستطرد الكاتب لحكاية أسطورة مارى الدموية فى التراث الشعبى الأوروبى «أسطورة الشبح الذى يظهر ليؤذيك إن قلت اسمه أمام المرآة عدد مرات معين». تمسك الرواية بتلابيب المؤلف، وكأنما هى شبح مارى الدموية خرج من المرآة: «...خرجت لى من المرآة حاصرتنى فى الغرفة، سكبت النسكافيه على أوراقى، وعطلت المنبه فلم أستيقظ من النوم لأذهب إلى العمل، فلم أعرف كيف أهرب منها ولم أجد أمامى سوى هذا الكيبورد.... ربما أخدع هذه الرواية قليلًا، وقد أكذب عليها، ليس إلا خوفًا من المرايا التى تطاردنى فى كل مكان، مثل عناكب ميرفت».
يمعن الواقع والخيال فى التماهى معًا، فلا يكف هاتف المؤلف عن الرنين «ويظهر عليه اسم بيبو». تسكن الرواية مؤلفها فتتخلل ثنايا واقعه. يحاول الكاتب فى هذا الفصل طرح تساؤلات حول ماهية الفن والكتابة وينتهى إلى أن «الفن قادر على جعل الحياة – بحكاياتها الغرائبية والعادية – أكثر جمالًا، والأهم: أكثر احتمالًا». ينتهى الفصل والمؤلف يلمح الشخصية المحورية فى الرواية تدور حول منزله بسيارة متهالكة. ويتساءل: «ما الذى يريده هذا المجنون الذى يدور حول منزلى بسيارة متهالكة"؟
فى الفصل الرابع والأخير «سيارة» تحكم خيوط الوحدة شرنقتها حول «بيبو» الذى يجد نفسه فى سيارة ذات تحكم ذاتى، وحيدًا مع الببغاء «تأبط شرًا» والملكين، ليس معه سوى جهاز لاب توب وهاتفه المحمول، وبعض الملابس والطعام، يسير يحيط به الظلام الحالك من كل اتجاه فى نفق مظلم.  يسير تنسيق الفقرات عكسيًا فتبدأ من الفقرة (7) وتنتهى إلى الفقرة (1). يدور بالسيارة أيامًا وشهورًا وسنوات، يعجز أن يجد لحالته مغزى، يحاول الاتصال بالمؤلف، ثم يذهب يلف بالسيارة حول بيته. تمتد الأحاديث الهاتفية بينه وبين ميرفت. ينحصر عالم بيبو فى السيارة، ويبتدع لنفسه داخلها عالمًا موازيًا، يستغنى به عن الحياة خارجها، تعينه على ذلك أحاديث ميرفت الهاتفية التى لا تنقطع. ولكن هل ميرفت شخصية حقيقية فى حياة بيبو، أما أنها قرينه الأنثى الذى يؤنس وحدته ويجعله يسمع صوته؟ هل يملك الإنسان القوة للعيش مكتفيًا بوحدته؟ فجأة يدرك بيبو أن لا أحد على الطرف الآخر، «هل كان يتحدث كل هذا الوقت إلى نفسه؟».
ينفرج السرد عن تيمته الرئيسية: «الوحدة» التى تحكم شرنقتها حول «بيبو»، فى أجواء كما الحلم، فلا يستطيع الهروب. يحاول أن يتصل بميرفت، لكنه يعثر على اسم المؤلف «محمد أبو زيد» فى قائمة الاتصالات، فيحاول الاتصال به، ولكنه لا يتلقى ردا على مكالماته، فيقرر الذهاب إلى منزله ، ولكنه يعجز عن الخروج من السيارة. فراح يدور حول المنزل بالسيارة بلا جدوى.
ينتهى الفصل الرابع «السيارة» بالعودة إلى الفقرة (1). ينفلت غضب السيارة فتسير «بأقصى سرعتها فى طريق مظلم منزلق ممتلئ بالمطبات، وسط جو عاصف يتناوب بين البرق والرعد والمطر». تتوقف السيارة فجأة ويخرج بيبو منها، وكأنما بابها لم يُفتح من سنوات فعلقت به خيوط العنكبوت. يصادف مطعمًا راقيًا فيدخله، وهناك يطالعه وجه ميرفت تحمله إحدى النادلات، ولكنها لم تحضر إليه رغم انتظاره لها ساعات. «شعر أن... جرحه الذى حاول إغلاقه قد انفتح مرة أخرى لينزف بلا توقف، أن عنكبوتًا مجنونًا داخله يغزل خيوطًا حول أوردته ويزحف على كل جزء منه كى يكبله مرة أخرى. يتجه إلى البار آملا أن يجدها فيجد خيوط العنكبوت تحيط بكل شىء، وفجأة تهب عاصفة قوية تطيح بالمطعم. هرول خارجًا واختفى المطعم تحت العاصفة. ينهض بيبو بصعوبة، بينما تعصف برأسه «أسئلة حياته»، وهى نفسها الأسئلة التى يطرحها السرد وتشغل القارئ من البداية:
"لماذا اختار له المؤلف أن يعمل فى مستشفى للمجانين، ما الضرورة الدرامية لذلك؟ هل أراد أن يوحى بجنونه؟ هل يعمل فى المستشفى أم أنه نزيل فيه هل شاهد ميرفت قبل قليل أم لا؟ هل هناك ميرفت أصلًا أم أنها من وحى خياله؟"
ينتهى السرد بالسيارة تسير مسرعة فى طرق مغلقة تنفتح أمامها وأخرى مظلمة يشقها ضوء السيارة، تتلاشى كل الأشياء حوله ويشيب شعره ويهرم جسده ويتعرى من ملابسه ولكنه « لا يشعر بعريه، يشعر بملائكيته، بأنه تحول إلى مجرد روح تقود سيارة». فجأة تتفكك السيارة وتتلاشى وتختفى الأشياء من حوله، يصعد جسده إلى أعلى «عيونه مفتوحة بارتياح، على شفتيه ابتسامة، فى ذهنه تتردد جملة وحيدة... – حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية».
ربما بهذه الجملة الخاتمة «حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية» يجيب الشاعر محمد أبو زيد على دهشة القارئ ويعتذر له عن متاهة السرد وأسئلته التى ظلت تتكاثف وتتعقد حتى النهاية، فهو شاعر يكتب رواية، ومن ثم جاءت روايته قصيدة مركبة ممتدة تتكاثف فيها الرؤى والإيحاءات، ويختلط الواقعى بالغرائبى فى عالم من الأحلام المتداخلة والمتشابكة.
...............
نشرتفي مجلة الإذاعة والتلفزيون: تاريخ النشر  ٢٠١٩/٠٨/٢٣


23‏/08‏/2019

الأزهر.. أثر الفراشة


محمد أبو زيد
لولا الرفّة الخفيفة لتلك الفراشة لما كنت هنا الآن. لو لم يقرر جدّي ذات يوم من صيف 1985 الحار، أن يختار لي الدراسة في المعهد الأزهري الجديد، الذي بُنِيَ على بعد خطوات من منزلنا، لتغيّرت حياتي.
على بعد ثلاثة عقود وثلاث سنين عدداً، أجلس الآن لأتأمل أثر الفراشة، التي رفّت بجناحها، فغيرت عالمي بالكامل، الأثر الذي أذكر منه خطواتي الأولى، التي كنت أمشيها كل يوم، يمكنني أن أعدها، إلى المبنى الجديد المكون من طابقين بالطوب الأحمر، المُطِلًّ على حقول البرسيم الممتدة من جهات ثلاث، الجالس في سكون أسفل الجسر ومن نوافذه تخرج أصوات الأطفال الجماعية وهم يرددون وراء الشيخ آيات القرآن الكريم.
في الداخل، نجلِس على "حُصُرٍ" صفراء في سنتنا الابتدائية الأولى، لأن المعهد لا يملك ما يمكنه من شراء "تِخَتٍ"، أمام كل طفل حقيبته أو "مِخلته"، نستمع إلى الشيخ عمّار، مُحفِّظِ القرآن الكفيف، وهو يراجع لنا ما أحْفَظَنا إياه في اليوم السابق، أصواتنا تنطلق عالية طليقة، وأجسادنا تروح وتجيء للأمام والخلف في رتابة.
لا زلت أذكر  زميلي "أحمد العسكري" المصاب بشلل الأطفال، أكثرنا تمرداً، والذي كان لا يحفظ الواجب اليومي، فكان الشيخ عمار يأمر أضخم طالبين في الفصل بربط قدميه المشلولتين في "الفلكة"، ورفعهما. ولأن دموع أحمد كانت تمزق أفئدتنا الصغيرة، كنا نقوم بعمل يقع بين الخير والشر، ونستغل أن الشيخ عمّار لن يرانا، فنضع أكفنا فوق القدمين المرفوعتين، لتتلقى الضربات من العصا الثقيلة بدلاً منه.
في الصف الثاني الابتدائي تقدم "معهدنا" خطوة، فجلسنا على "الدِّككِ" الخشبية الجديدة التي لا نعرف من تبرع بثمنها، حفظنا المزيد من أجزاء القرآن، تناولنا التغذية الأزهرية المميزة، والتي كانت عبارة عن بسكويت بُنّيٍ في ورقة فضية، وفي بعض الأيام رغيف خبز مع بيضة ومثلث جبنة صفراء. والتي كان يحسدنا عليها طلاب المدارس الحكومية.
في الصف الثالث عرِفتُ الإذاعة المدرسية، التي كانت تبدأ بالقرآن كل يوم، وتنتهي بتحية العلم "ارتفع أيها العلم العزيز الكريم.. ورفرف بالعزة والكرامة والنصر.. رفرفت كل الأعلام أننا دعاة للسلام، تحيا جمهورية مصر العربية، عاش رئيس الجمهورية"، وأذكر أن أحد الزملاء خرج ذات يوم لقراءة القرآن، فقرر بدلاً من أن "يرتل" آيتين قصيرتين، أن "يجوّد" سورة البقرة على طريقة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ليجري وراءه مدير المعهد "الشيخ خلف" أمامنا جميعاً في الفناء بالعصا، مهدداً إياه بالويل والثبور.
في الصف الرابع كتبت قصيدتي الأولى؛ كان ذلك بعد وفاة أمي بفترة قصيرة. لا أذكر ماذا كتبت فيها، ولا أيِ من تفاصيلها. لكني أذكر أنها كانت من عمودين، تملأ صفحة "فلوسكاب" بالحبر الأسود. أذكر أنني ذهبتُ بها إلى مدرسة اللغة العربية "نور الهدى"، أذكر أنها شجعتني جداً، واحتفت بي، وطالبتني بقصائد جديدة، أذكر أنها كانت أمّاً لي في تلك المرحلة.
في الصف الخامس، اكتشفت مكتبة خالي، كانت كنزاً حقيقياً لي، فبالإضافة إلى أنها كانت تضم أمهات الكتب، كان حريصاً أن يشتري بعض المجلات الشهرية، من ضمنها "العربي" الكويتية، وكان يشتري لي معها مجلة "العربي الصغير"، والتي توقفت بعد دخول صدام حسين إلى الكويت. وفي الإجازة المدرسية في الصف الخامس اكتشفتُ مكتبة المدرسة الابتدائية التي كانت تدرس أختي بها، والتي فتحت أبوابها صيفاً للجميع مع بداية "مشروع القراءة للجميع". كانت المكتبة تضم قصصاً كثيرة للأطفال منها جميع قصص "المغامرون الخمسة"، و"مؤلفات كامل الكيلاني"، وأذكر أنني مع نهاية الإجازة الصيفية كنت قد أنهيت قراءة جميع كتب المكتبة.
حين انتقلتُ إلى المرحلة الإعدادية، كان عليّ أن أُغيّر المعهد الذي أدرس فيه، أن أنتقل من قريتي الصغيرة إلى المدينة "طهطا" للدراسة في معهد الشيخ محمود عنبر، وهو بالمناسبة أحد أعلام الأزهر ومؤلف الكتاب علم التجويد الشهير "التحفة العنبرية على متن الجزرية" الذي كنا ندرسه في المرحلة الثانوية.
خمسة كيلومترات كنت أقطعها كل يوم، مرات بالسيارات الفولكس القديمة "الخنفساء" التي كانت تفيض بأجساد الطلاب الصغيرة الذاهبين لتلقي العلم في المدينة، ومرات بالقطار، ومرات كثيرة بدراجة خالي الصغيرة في رحلة كانت شبه يومية كانت هي الأجمل في طفولتي لمدة سبع سنوات تقريباً.
في معهد الشيخ محمود عنبر، تعرفتُ على صديقي وأستاذي الشاعر بهاء الدين رمضان، الذي له الفضل كله في إعادة صياغة أفكاري عن الشعر والكتابة، ورغم أنه لم يُدرّس لي سوى عامين فقط مادة الأدب والنصوص (في الصفين الأول والرابع الثانوي) إلا أنه كان داعماً كبيراً لي منذ تعرفت عليه في الصف الأول الإعدادي، وفتح لي بوابة حقيقية وواسعة على الأدب والمعرفة عبر إعارات متكررة من مكتبته، وحرّر أفكاري من كليشيهات الكتابة المعتادة، ومن خلاله تعرفت على شقيقه الصديق والشاعر علاء الدين رمضان، والروائي محمود رمضان الطهطاوي، ومن خلاله أيضاً فزت بجائزتي الأولى في الشعر عبر النشاط الثقافي البارز الذي كان يقيمه في "قصر ثقافة طهطا"، ومن خلاله أيضاً نشرت قصيدتي الأولى في مجلة "الطهطاوي"، التي كان يصدرها قصر الثقافة، وكان يكتبها بالكامل على كمبيوتره الخاص في بيته الذي استضافني فيه عشرات المرات.
بعد انتهاء المرحلة الثانوية، أحالني التنسيق إلى الكلية الأقرب لي جغرافياً، في أسوان، لكنني كنت أريد أن أذهب إلى القاهرة، التي كانت تبدو لي المكان المثالي للتحقق أدبياً، فقمت بتحويل أوراقي إلى "كلية التجارة" بالقاهرة، لتبدأ رحلة مختلفة مع الأزهر.
بعد فترة ارتباك طالت قليلاً، اخترت أن أسكن بجوار الجامع الأزهر، في شارع الخيامية، في بيت تطل نافذته على باب زويلة. مع أصدقاء من محافظات مختلفة يدرسون جميعهم بالأزهر. كانت الفترة الأكثر زخماً وتأثيراً، وكتبت عنها روايتي الأولى "أثر النبي". أقضي النهار ما بين الجامعة والتنقل بين شوارع الحسين والأزهر والدرب الاحمر والغورية والخليفة والقلعة، والمساء ما بين الندوات والأمسيات الثقافية في وسط البلد، مع أصدقائي محمد صلاح العزب وهاني عبد المريد والطاهر شرقاوي والشاعر الراحل مجدي عبد الرحيم، نحاول جميعاً خلق موطئ قدم في مدينة لا تهدأ ولا ترحم، نلتقي يومياً تقريباً،  نشرب شاياً بالحليب في مقهى صغير خلف جريدة الأهرام، نقرأ ما كتبناه، نتناقش، ننفعل، نحتفل بنشر نص لأحدنا في جريدة مجهولة. وفي عامي الجامعي الأخير صدر ديواني الأول "ثقب في الهواء بطول قامتي"، والذي يمكن ببساطة لأي قارئ له أن يلمح تأثير تعليمي الأزهري على لغته.
غادرت الأزهر، لكنه لم يغادرني. لأنه يمكن أيضاً ببساطة أن تلمح تأثيره في تكويني الشعري، بداية من العناوين التي يميل معظمها إلى التراث الديني أو الشعري مثل "قوم جلوس حولهم ماء"، أو "مقدمة في الغياب"، أو "مدهامتان"، والذي ربما يكون أقربهم إلى هذا المعنى، لذا اخترت أن أضع على طية غلافه  الأمامي صورة لي بالزي الأزهري، كما أن فيه الكثير من النصوص التي تتقاطع مع "طفولتي الأزهرية".
لكن لا أعتقد أن "تأثير الأزهر" يكمن فقط في عناوين الدواوين، أو حتى في الإحالات التراثية، والإسقاطات الدينية، والتناص مع القرآن والنصوص الدينية فقط، أو في سلامة لغتي التي أرُدّها لحفظي القرآن كاملاً وأنا بعد في الصف السادس الابتدائي، لكن أعتقد أن التأثير الحقيقي يكمن في أن للأزهر الفضل الأكبر علىّ في تكويني الثقافي، في عدم النزوع إلى التشدد، في احترام الرأي الآخر، وتقبل الاختلاف.
ففي جميع المواد الدينية التي درستها بداية من الصف الأول الإعدادي، وحتى الرابع الجامعي، سواء عبر مواد "الفقه"، أو "التوحيد"، أو "الحديث" أو "التفسير"، كانت هناك دائماً آراء أخرى، لا غلبة للرأي الواحد. وربما تكون هذه إحدى ميزات دراسة الكتب التراثية المهمة.
ففي الفقه على سبيل المثال، نجد أن في المسألة الواحدة هناك أربعة آراء لشيوخ المذاهب الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل)، وفي كل مذهب ـ وكان مذهبي الدراسي حنفياً ـ لا يتم طرح رأي شيخ المذهب فقط، فهناك دائماً مخالفون له في الرأي، هناك أبو يوسف ومحمد تلميذا أبوحنيفة، واللذان يعارضانه دائماً ونرى رأيهما في كل مسألة فقهية. وهذا ما خلق بداخلي استعداداً كبيراً لقبول الرأي الآخر، وتقبله، ومناقشته، واختيار ـ وهذا هو الأهم ـ ما أراه صواباً دون فرض أو تقييد. ينطبق هذا أيضاً على بقية المواد، ففي التوحيد، حتى في المسائل الجدلية مثل خلق القرآن، درسنا  آراء المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، وكنت أميل ـ بالمناسبة في معظم المسائل ـ إلى المعتزلة.
وفي هذه المواد التي تتحدث عن علاقتنا بتفاصيل الدين، وبالله، تفتحت أمامي احتمالات كل شيء، فعبر المسائل "الأرأيتية"، والتي يعتمد عليها المنهج التعليمي سواء في العقيدة أو الفقه، والتي تقوم على افتراض مسائل "أرأيت لو كان كذا"، تعلمت خلق الاحتمالات، والنقاش في كل شيء، حتى في المسائل التي يخشى الجميع الحديث فيها خشية الاتهام بالإلحاد.
ومن الطريف هنا أن أشير إلى أنه في حين يتحدث البعض عن أهمية "التعليم الجنسي" في المدارس، أن مادة الفقه في المرحلة الإعدادية كانت تضم ما يشبه ذلك، لا سيما في فصول "الطهارة"، و"الزواج". والنقاط السابقة تشير إلى أن الأزهر بما يكون أكثر انفتاحاً من غيره في طرح الأفكار ومناقشتها.
كان من الجميل أيضاً أن درستُ أمهات الكتب صغيراً، ففي النحو مثلاً درست "قطر الندى وبل الصدى"، و"شذور الذهب"، و"شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك"، وتكرر فيها أيضاً تعدد الآراء، وعدم الانحياز لرأي أو مذهب. 
وفي الوقت الذي تركت فيه الدولة المجال مفتوحاً للجماعات الدينية ـ السلفيون والجماعة الإسلامية والإخوان ـ في الثمانينيات والتسعينيات، وأغرقت الكتب الدينية التي تُحَرّم كل شيء ـ من الأكل بالملعقة إلى تصوير ذوات الأرواح ـ المكتبات والأرصفة، كنتُ أعرِفُ الحقيقة، واكتشفت زيف كل ذلك التشدد، فلم أتوقف أمامه وتجاوزته سريعاً، واستفدت من كل ما تعلمته في البناء على ما أُحب، أخذتُ من كل هذا لأكتب، وما زلت أمتحُ منهُ، ما زلت ألمح جناح الفراشة الذي تحرّك قبل ثلاثة عقود، وازدادوا ثلاث سنين، يتحرك، يظللني بمئات الكتب والخبرات والتجارب يجيء بي إلى هنا. حيثُ أكتب الآن.
.............
*نشر في أخبار الأدب

11‏/08‏/2019

«عنكبوت فى القلب».. جماليات الكوميكس


حسن عبدالموجود
لا تقدم هذه الرواية "عنكبوت فى القلب" لمحمد أبوزيد، عالماً عادياً. هذه رواية عن أشخاص لا نعرفهم، وكائنات لا نراها، كائنات تسير معنا فى نفس الشوارع، وتسكن معنا نفس العمارات، وتأكل معنا فى نفس المطاعم، لكنها، مع هذا، لا تشبهنا، وهى منغلقة، وفى الأغلب، تعيش داخل مدن مسحورة تخصُّها، لكننا نملك معرفة ولو بسيطة بهذه الكائنات، فربما اصطدمنا بها فى الكتب الخرافية، وربما سقطت علينا من شاشة سينما، بينما نحن مشغولون بمتابعة أطيافها وظلالها الرائعة، وهكذا فإن أول ملحوظة يمكن الخروج بها عن تلك الرواية أنها تصور عالم بشر غير عاديين، والبطل الرئيسى، على سبيل المثال، بيبو، يستطيع إخراج قلبه من صدره ووضعه محاطاً بالقمح فى البلكونة، مثل جيم كارى فى فيلم "القناع". لقد استمع بيبو إلى نصيحة "الطبيبة المريضة" محاولاً بكل الطرق أن يصل إلى تحقيق حلمه، ولكن ما هو حلمه؟ هل الحب؟ كل شىء يدل على أن حبه الأول والأخير هو الوحدة لا النساء، لكننا، على أية حال، مدفوعون دفعاً لتصديق ما يقوله لنا بيبو، أو محمد أبوزيد، وأنت لا تعرف فعلاً من كتب هذه الرواية؟ أو من بطلها؟ هل هو بيبو؟ أم محمد أبوزيد؟ هل ميرفت عبدالعزيز أم بيبو؟ لقد وقع نظر بيبو على ميرفت ذات مرة، والرواية تقول إنهما التقيا، ولكنها كذلك تدفعنا للشك فى هذا الأمر، وبالتالى ربما تكون كل الأحداث خيالية، ولا تدور إلا فى ذهن أبطالها، أو فى عقل مؤلفها، وأنتم لو طالعتم دواوين محمد أبوزيد ستجدون أن المشترك بينها هو اسم ميرفت عبدالعزيز، ميرفت الشخصية الأسطورية التى يبحث عنها المؤلف فى كل عمل له، ثم إنه هنا يعطى لنفسه الحق فى "ظهور خاص" كما يفعل السبكى فى أفلامه، حيث يظهر أبوزيد فى تلك الرواية بشحمه ولحمه وهيئته واسمه مزاحماً الأبطال، وربما يدخل معهم "خناقات شوارع"، ولأنه الخالق، وله الهيمنة الكبرى فإنه أعطى لنفسه الحق فى عقابهم، عاقب بيبو، مثلاً، ووضعه فى متاهة ألعاب لانهائية.
والرواية بهذا الشكل تنسف كل الأشكال المتعارف عليها، ويختلط فيها الخيالى بالواقعى، وتزاحم فيها تيمة التأليف تيمة الفانتازيا، وتتحرك فيها ممثلات عالميات "جنافر"، و"كيتات"، وهذان اشتقاقان لممثلات اسمهن "جنيفر" أو "كيت"، بيبو يحب "الجنافر"، جنيفر لورانس، وجنيفر لوبيز، وجنيفر أنيستون، وجنيفر جارنر وجنيفر جيسون لى، أما زميله إتش فمستعد للموت فداء لـ"الكيتات"، كيت وينسلت وكيت هيدسون وكيت بلانشيت وكيت بيكينسيل وكيت ميدلتون، حتى كيت هارتيجنون، والغريب أن الغلبة كانت فى الرواية، للكيتات، مع أن البطل هو بيبو، ولكن لا تنسوا أبداً الجميلة جداً أودرى تاتو، التى ستستمر دائماً باعتبارها صديقة لبيبو. فى هذا الرواية كذلك، يحول أبوزيد أصدقاءه الكتَّاب والفنانين إلى أبطال، هانى عبدالمريد، وسحر عبدالله، والطاهر شرقاوى، وإذا شعرت بأنهم سيعطون أُلفة أو لمحة واقعية للعمل فهذا ضمن أوهام كثيرة تنسفها الرواية ببساطة، حيث ستفاجأ مثلاً مع أول ذكر لسحر عبدالله بأنه تريد صناعة حصان من الموسيقى، وكان من السهل دمج هؤلاء الأصدقاء فى تلك الرواية وكائناتها، فهم امتداد لقماشتها، أو على الأقل يشبهونها.
الرواية تنسف كل شىء، ولكن لتقريب حالتها، للمس روحها، يمكن القول، إن جاز الأمر، إنها أقرب إلى فن الكوميكس، وجمالياته، حيث ذلك الجنوح الشديد إلى المبالغة، أو رسم الشخصيات بطريقة كارتونية، أو باستعارة خلفية لعبة السيارات التى كنا نلعبها فى طفولتنا، حيث نمر من مستوى إلى آخر، وفى كل مستوى تتغير الخلفية، من مدينة، إلى صحراء، إلى بحر، إلى غابة، إلخ.. وكذلك السخرية، فلا أحد ينجو فى العمل منها، لا المؤلف ولا أبطاله، إنه يُشبِّه نفسه بالسبكى، فى فصل صغير بعنوان "ظهور خاص"، ثم يسخر من السبكى كذلك فى هامش: "الحاج السبكى (1962ـ ....): مؤلف ومصور ومنتج ورسام وعازف جاز، مخرج سينمائى مشهور، حصل على ثلاث ترشيحات للأوسكار، حاز السعفة الذهبية بمهرجان كان عن مجمل أعماله، وتوجد نجمة باسمه فى ممر النجوم بهوليود، يعتبره النقاد من أهم علامات السينما العالمية، وله فيلمان فى قائمة أهم مائة فيلم حول العالم، ولد فى بولندا لأبوين يعملان فى مهنة التعليم، قبل أن ينتقل إلى كاليفورنيا، أغرم بالسينما منذ صغره، وبدأ حياته الفنية بمشاهد بسيطة فى الجزء الثانى من فيلم العراب، ظهوره الاستثنائى فى فيلم (أيظن) رشحه لأول أوسكار مساعد فى حياته، ثم توالت أعماله وترشيحاته للجوائز، يعد أول من أدخل (التوك توك) فى السينما المصرية".
ماذا تريد هذه الرواية أن تقوله؟ هل هى مهتمة فعلاً بتتبع مسار قصة حب عظيمة بين بيبو وميرفت؟ أم أنها مجلد أو ألبوم صور لكل شىء يخص محمد أبوزيد؟ أصدقاؤه، ممثلاته المفضلات، الروايات التى يحبها؟ الشخصيات الخيالية التى شكلت وجدانه؟ الكائنات التى تسحره، علاء الدين ومصباحه السحرى؟ سنووايت والأسماك، لا تنسوا الأسماك لأنها تكاد أن تقفز، من سطور الكتاب، باتجاهنا وتضربنا بزعانفها مُخلفةً قشورها على ملابسنا؟ كل شخص يمكنه أن يجيب كما يحلو له، ولكن محمد أبوزيد سيسارع لنسف تصوراتك عن كل شىء. إذا تعلق الأمر مثلاً بعلاء الدين، سيقول لك ساخراً بعد لحظة إن الجنى اختنق داخل الفانوس، وكذلك لن تعرف أبداً هل الفانوس الذى تحتفظ به ميرفت عبدالعزيز منحه لها بيبو كأمانة بعد أن تسلمه من علاء الدين، أم أنه فانوس عادى يخصها؟ ما الحكاية أصلاً؟ لن تصل إلى إجابة يقينية.
 
تقول الطبيبة لبيبو "أخرج قلبك، ثم ضعه فى كرتونة صغيرة، واتركه فى البلكونة فى رعاية الشمس. ضع له القمح والذرة والماء كل يوم، حتى ينمو مجدداً، بعد فترة ستصاب بالحب، ويعود قلبك مجدداً"، ومن هذه العبارات نعرف أن بيبو يبحث عن الحب ولا يجده، أو يجده ويفر منه، يجده فى هيئة ميرفت عبدالعزيز، الفتاة الأكثر غرابة منه، إنها فتاة لا ترفع نظرها عن الأرض حيث تراقب جوارب المارة، أو جوارب الزبائن فى مطاعم تعمل بها، فتاة مغرمة بالعناكب، وقد رآها بيبو للمرة الأولى وهى ترتدى بلوزة فى طرفها عنكبوت، لم تحب ميرفت شيئاً فى حياتها مثل العناكب والقطط الضالة والتماسيح وآثار الأقدام الحافية على الرمال ومشاهدة الكتاكيت الصغيرة، وبنسات الشعر الملونة.

يكتب أبوزيد فى ديوانه "قوم جلوس حولهم ماء عنها: "ليس لديها مرآة فى البيت ولم يرها أحد، لا تركب الطائرات ولا حافلات العامة، لا تطير ولا تسير"، ولا تندهشوا أن كل حرف يتعلق بهذه الفتاة غريب، كما أن كل حرف يتعلق بغيرها غريب كذلك، انظروا. إنها تملك إصبعاً زائداً فى قدمها، وهناك حكاية تقول إنها جاءت من قرية فقيرة فى وسط الصعيد، لعائلة كل أبنائها يملكون 6 أصابع فى القدم اليمنى، وليست هذه هى الحكاية الوحيدة عنها، فحكاية ثانية تتعلق بقلادة على شكل علم فلسطين تعلقها فى رقبتها، تؤكد أنها فلسطينية، أبوها تزوج أمها ذات الأصول المغربية، عندما كان يدرس فى جامعة القاهرة، ثم عاد إلى رام الله، وتظاهر ضد أوسلو، واختار أن يكون قريباً من المسجد الأقصى، أما الحكاية الثالثة فعن وحمة باهتة أسفل كتفها لسمكة لا تكاد تبين: و"فى الحكايات الثلاث لا يوجد والدها، تعرف أنها فقدته بطريقة ما، وأنها حزنت عليه، لكنها لا تعرف كيف، تماماً كما لا تعرف أى واحدة هى: هل هى ميرفت الجنوبية التى رفضت الزواج من ابن عمها، أم ميرفت الفلسطينية التى حذرتها أمها من الحب، أم ميرفت الإسكندرانية ابنة الطبقة المتوسطة، التى تجيد استخدام الآلة الكاتبة؟".

يكتب عنها أبوزيد كذلك فى ديوانه "مديح الغابة": "مذهلة كاكتشاف الشاى بالحليب، تفتح فمها تأهباً لأغنية طويلة، ترشق صمتها فى الأوركسترا فتبكيها، كلما رآها العابرون صمتوا، كلما شافها البحر قال: كنا طرائق قدداً"، وقد "جربت ميرفت العمل فى مطاعم كثيرة، كل أنواع المطاعم التى يمكن أن تخطر بالبال، محلات الفول والطعمية الرخيصة فى السيدة زينب، مطاعم البيتزا والباستا الغالية فى سيتى ستارز، محلات الفشة والممبار فى إمبابة، محلات الوجبات السريعة فى شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، محلات الكشرى بمدينة نصر، كوستا وسيلانترو فى مصر الجديدة"، و"لم تستفد ميرفت شيئاً من كل هذه المطاعم سوى أنها أصبحت تقدم وصفات طعام مجاناً للفتيات وربات المنازل على منتدى فتكات"، ولأنها شخصية خارجة من كتاب كوميكس كان لا بد أن يذهلها فيلم "المنتقمون the avengers"، وهى كذلك يجب أن تكون مستقبلاً واحدة من شخصيات مارفل، ربما أنثى "سبايدرمان"، فها هى تعلن عن وقوعها فى غرام "الأرملة السوداء" سكارليت جوهانسون، وتشعر أنها تشبهها.

يترك أبوزيد الرواية جانباً ليقلِّب فى جوجل، ليقرأ فى مرجع، ليشاهد فيلم سينما، ليحكى لنا شيئاً، ليقول لنا معلومة، والعمل مزدحم بتلك المعلومات، لكنها معلومات ليست ناتئة عن هذا العالم الذى يرسمه ببراعة، وعلى طريقة الكوميكس، تستطيع أن ترى الفقاعات البيضاء الخارجة من رأس ميرفت عبدالعزيز إلى بالونة الكلام، فنعرف معها ماذا تقرأ، أو ما الذى أجبرها عليه أبوزيد: "الأرملة السوداء هى أحد أنواع العناكب المشهورة بسمها المؤثر على الأعصاب. هى نوع كبير الحجم يتواجد فى جميع أنحاء العالم ويرتبط عادة بالبيئات الحضرية أو المناطق الزراعية، يمكن للإناث أن تعيش حتى 5 سنوات بينما تكون حياة الذكر أقصر بكثير، وعلى خلاف الاعتقاد السائد، من النادر أن تفترس الأنثى الذكر بعد التزاوج. اسم عنكبوت الأرملة السوداء شائع الاستخدام عندما يشار إلى الثلاثة أنواع الأمريكية الشمالية والتى تتميز بألوانها الداكنة. ويُعرف منها 31 نوعاً مثل العين الحمراء، والأرملة البنية أو الأرملة الفضية، والأرملة الحمراء، وفى جنوب أفريقيا تسمى الأرملة السوداء بالأرملة ذات الإزرار"، وبالتالى عليك أن تفكر، أى أنثى عنكبوت هى ميرفت؟ وهل ستفترس بيبو إن أتيحت لها الفرصة؟ لا، فى الأغلب لن يدعهما أبوزيد يفعلان، لأنه مشغول بنفسه هو، وبعالمه هو، وبكل ما يحبه كذلك، وليس من ضمنه، كتابة قصة حب رومانسية، وهو المعروف بسخريته الدائمة من الرومانسية، وربما يكون أبوزيد مشغولاً بإبعاد بيبو عن سكته، ليحلو له الجو مع ميرفت.

هذه هى ميرفت وهذا هو المؤلف فماذا عن بيبو نفسه؟ ماذا عن هواجسه وأحلامه؟ لقد خلقه أبوزيد غرائبياً، شنيعاً فى غرائبيته، ومزعجاً فى تعامله مع العالم، فلا شىء يريحه، وجود البشر أنفسهم هو أكبر مصدر للقلق بالنسبة له، والوحدة مبتغاه، الوحدة، كما يفكر، ليست ترفاً، ليست تكبراً، الوحدة استغناء. أن تكتفى بنفسك عن الآخرين. وأن تصبح أنت كل عالمك، ويسأل: "هل الوحدة تساوى الحرية؟" ويجيب: "نعم ما دمت تتحرر من الآخرين، من أسئلتهم، من اقتحامهم تفاصيل حياتك، من سخافاتهم اليومية بصباح الخير، وصباح النور"، وبيبو "سعيد لأن ملامحه عادية بلا شىء مميز"، ولأن "وجهه لا يَعلق فى ذاكرة أحد". تخيلوا معى ماذا يعنى الاستقرار بالنسبة له؟ إنه مجرد "شقة صغيرة إيجار قديم بجوار مسجد السلطان حسن، وعمل روتينى، ووحدته الأثيرة"، والسؤال لماذا يبحث بيبو عن الحب؟ أليس من الأفضل له أن يتسلى مع الوحوش الخيالية التى تمرح حوله طوال الوقت، أو مع الأرق الذى يطرق بابه، مندفعاً إلى الداخل بملامحه الزرقاء، ليجلس قبالة التلفزيون مستمتعاً بمسرحية ما، تاركاً بيبو غارقاً فى خيالاته.
لقد قضى بيبو، الطفل، كذلك فى غرفته الصغيرة أياماً يصنع طائرات ورقية، وقد أراد جده أن يصبح قرصاناً، بينما أرادت أمه أن يفتح مطعم سمك يسميه "ابن حميدو"، وخالته أرادته "قبطاناً بحرياً" أما أبوه فتمنى أن يراه طبيبا، يعمل فى مستشفى نهاراً وفى عيادته ليلاً، ما دام قد فشل فى تعلم حرفة البحر: "ومع ذلك حقق حلم والده جزئياً، ورأى فرحة مكسورة فى عينيه عندما أخبره أنه سيعمل فى وظيفة إدارية بمستشفى حكومى بعد عامين من تخرجه وبيع ثلاثة قراريط لدفع ثمنها رشوة كى يحصل على الوظيفة، لكنه ظل يشعر بالذنب بعد أن مات والده باللوكيميا، فربما لو صار طبيباً لاستطاع إنقاذه"، وبيبو يعيش وسط كائنات تشبهه، "واو" يراسل موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ويشكو من "الكوسة" فى المؤسسات العالمية، ومنها الموسوعة، حيث لا يرد المسؤولون فيها على مراسلاته، ولكنهم محقون بكل تأكيد، فـ"واو" يصر على تحطيم أرقام قياسية غير ذات مغزى، وعلى سبيل المثال يذهب كل يوم إلى العمل، وهى يقود سيارته إلى الخلف من بيته حتى يصل إلى المستشفى.
بيبو أحب أخيراً مديره، بعد أن أجرى عملية لاستئصال الشتائم من حلقه، وتحول بعدها إلى شخص آخر لا يُسمع صوته إلا نادراً، ولا تنسوا.. هناك عبد الله هدهد، الذى يتابع كل ما يحدث دون أن يعلق، و"عندما يعلو الصخب قليلاً، يقوم إتش ويضع له ساندوتش حشرات مجففة فى طبق أمامه"، وقد استمع بيبو كذلك إلى مثلٍ قديم على لسان جريجورى بيك يقول "أنت لن تعرف الرجل حقاً حتى تمشى فى حذائه"، وبدأ يجوب الشوارع مقلباً النفايات باحثاً عن الأحذية ويرتديها، متخيلاً أنها ستقوده إلى أصحابها الأصليين، وهكذا: "أصبح المشى، سواء فى حذائه أو فى أحذية الآخرين، رفيق وحدته لسنوات". ليس هذا هو كل ما فى جعبة خيالات بيبو، فبخلاف أنه يجرى أحاديث بانتظام مع علاء الدين صاحب الفانوس السحرى، فهو كذلك على علاقة متينة بـ"سنووايت"، وقد لمست قلبه فشعر أنه ينسحب من مكانه، وعرف، لمرة يبدو أنها لن تكون الأخيرة، أن عليه الوقوع فى حب شخص ما، وبالطبع لن تكون سنووايت، ليس لأنها شخصية خيالية، بل لأنها تحب الأقزام كما يقول التاريخ، وبيبو كذلك يجد متعته فى اصطياد الصراصير، هل أنتم مندهشون؟ أليست حبيبته تقوم باللهو مع العناكب؟ هل هو أقل منها مثلاً؟ هذه الصراصير تضايقه فى وحدته، وعليه أن يقتلها، وقد نصحته زميلته فى العمل أودرى تاتو أن يشترى سلحفاة لتساعده فى تطفيشها، وهو أيضاً يتحدث مع "تأبط شراً"، الببغاء الذى يتحول بامتداد الرواية إلى بطل فاعل ومهم، ربما بقدر أهمية بيبو وميرفت، وتسلية بيبو هى السخرية، وتضخيم ملامح الناس، إذا ابتسمت بائعة تذاكر السينما ستنكشف أسنانها المكسوّة بالروج الأحمر الفاقع، وبالتالى سيراها كمن انتهى من شرب نصف لتر من الدماء، وجزء من تسليته كذلك هى الأسئلة، أسئلة المصير فى الأغلب: "هل يفتقده أحد فى الخارج؟ هل سينشر إتش صورته فى صفحة (خرج ولم يعد) بجريدة الجمهورية؟ هل سيبحث عنه علاء الدين؟ هل سيضع عم ممدوح كوب شاى بالحليب على منضدة فارغة، كل يوم فى انتظاره، ثم يقف دقيقة حداداً"، إنه يسأل هذه الأسئلة، دائماً وكأنه مات، أو ذهب إلى مكان لا رجوع منه، وقد فقد الثقة فى نفسه للأبد، وكذلك فى المؤلف النزق محمد أبوزيد، الذى يبدو أنه لا يكف عن التجريب، التجريب داخل العمل الواحد نفسه، والقفز ما بين الشعر والسرد، والتحكم فى مصائر هذه الكائنات الهشة، مثل بيبو، المسكين الذى يبدو أن سيدرك متأخراً جداً المصيبة التى وقع فيها، فقد أحب نفس الشخصية التى أحبها المؤلف، وبالتالى كان يجب الخلاص منه إلى الأبد، ولأن المؤلف طيب فلم يبتكر ميتة قاسية له، لم يُسقطه فى بركان أو محيط، لم تنهشه سمكة قرش ولم يبتلعه حوت، لم يدفنه حياً، ولم يحرقه، فقط حقق له حلمه بأن يكون وحيداً وتركه فى قلب المتاهة.
...............
*نشر في أخبار الأدب

"عنكبوت فى القلب": أن تنظر الرواية فى عين مؤلفها



محمد الفخراني
أن يكون لدى الكاتب أفكار، وتصورات، عن الكتابة، الفن، ورؤية لما يمكن أن يقدِّماه للعالم، والحياة، ويُحوِّل هذه الأفكار إلى عمل أدبى، أو فنى، هذا ما فعله "محمد أبو زيد" فى روايته الجديدة "عنكبوت فى القلب".
تتكون الرواية بشكل أساسى من أربعة فصول: (فتى– فتاة– مؤلف- سيارة)، وقبل هذه الفصول، هناك أربع سرديات، أو فصول قصيرة، تحمل أرقامًا لاتينية، نرى فيها شخصيات، ستعاود الظهور فى الفصل الأخير من الرواية مع تَغيُّر فى طبيعتها.
فى الفصل الثالث: "مؤلف"، يُقدِّم الكاتب جانبًا من رؤيته للكتابة، والفن، ثم يُحوِّل هذه الرؤية فى الفصول الأخرى، إلى حكايات وشخصيات، تتجاوز الحبكة التقليدية، وما يسمى نقاط اضاءة، سيهتم الكاتب بمسح النقاط، أو أنه يضع نقاطًا للعب، ليجعل روايته مساحة من ماء غير مستقر، تتخلله دوامات صغيرة.
يقول الكاتب فى صفحة 161: "الفنان عندما يُقدِّم فنًا فإنه يضيف إلى الواقع تلك اللمسة السحرية التى تضيف إليه روحًا، وتجعله مختلفًا عن الاعتيادى، وتُحوِّله من حكاية اعتيادية إلى كرة ثلج من الأسئلة تتدحرج على الجميع بحثًا عن الإجابة"، فنراه يُحوِّل حياة الشخصيتين الرئيستين فى روايته، "بيبو"، و"ميرڤت عبد العزيز"، من حياة عادية إلى حياة ممسوسة بغرابة لطيفة، كأنما لمستها عصا الفن السحرية، "بيبو" الشاب القادم من إحدى قرى كفر الشيخ، ليدرس فى القاهرة، ثم يحصل على وظيفة إدارية بمستشفى حكومى، سيعيش أثناء المرحلة الجامعية قصة حب مع "سنو وايت"، ونعرف أنها "سنو وايت" الحقيقية، وليست فتاة تحمل اسمها، لكننا بالأساس نعرف أن سنو وايت "الحقيقية" ليست حقيقية، وإنما شخصية خيالية، سيظهر له "علاء الدين"، صاحب المصباح السحرى، كشخصية حقيقية، يتبادلان حوارًا فى المقهى، وتدور بينهما قصة جانبية، نرى زملاء "بيبو" فى العمل، وبينهم الممثلتين "كيت وينسلت"، و"أودروى تاتو"، ذلك المزج السهل بين الخيالى والواقعى، وتحويل شخصيات خيالية إلى حقيقية، أو نقلها إلى خيال جديد، يحدث هذا بخفَّة ولطافة، كأنها لمسة الفن، التى تُحوِّل الاعتيادى إلى غرائبى، والغرائبى إلى اعتيادى، فتنقل الجميع, الحياة كلها، إلى حالة فنية، مثل كرة تتدحرج وتضيف إلى نفسها أسئلة وأفكارًا.
فى الفصل الثانى من الرواية: "فتاة"، نتابع "ميرڤت عبد العزيز" وهى شخصية لها علاقة قديمة مع المؤلف نفسه، حيث نجدها فى أغلب دواوينه، يتحدث الكاتب عن أنه لا يعرف كيف ينهى هذا القسم من روايته، ولا يعرف ماذا يكتب فيه تاليًا، وأن الرواية "عنكبوت فى القلب" تقفز داخل عقله، وتسطو على شخصية روايته السابقة "أثر النبى"، وتجمع "ميرڤت عبد العزيز" من دواوينه، هنا نرى حيرة الكاتب، وعلاقته بنصِّه، كيف يتعامل معه، كيف تراوغه الكتابة، تطاوعه، وتعانده، كأنها "كتابة على المكشوف"، ثم يقول للذين يبحثون عن نصوص مُبرَّرَة، لا تقرءوا هذه الرواية، ويقولها ضمنيًا لمن يبحثون عن حبكات تقليدية ونقاط إضاءة.
تُقدِّم الرواية ثلاث احتمالات عن نشأة "ميرڤت عبد العزيز": مرة هى فتاة جنوبية، رفضت الزواج من ابن عمها، ومرة ابنة لأم فلسطينية (كما تحب ميرڤت عن نفسها)، حذرتها هذه الأم من الحب، ومرة ثالثة هى فتاة اسكندرانية من الطبقة المتوسطة، تجيد استخدام الآلة الكاتبة، ربما هذه الاحتمالات ليست إلا تعبيرًا لما يمكن للفن أن يفعله، وما تقدمه الكتابة من حيوات متعددة للشخصية الواحدة.
رواية تلعب بالدرجة الأولى، تدرك ذاتها، أنها رواية، لها وجود، وإرداة، خارج إرداة مؤلفها أحيانًا، وبعض شخصياتها تدرك أنها شخصيات روائية، ومؤلف يظهر داخل روايته بشخصيته، ويتقاطع مع حياة الشخصيات الروائية، يمكننا أن نتوقَّع من مثل هذه الكتابة أن تميل إلى الألعاب والتكنيكات الفنية، والبحث بطريقتها الخاصة، عن معادلات الفن السحرية، ولمساته، وتظلُّ محاولات البحث هذه، فى حَدّ ذاتها، إحدى جماليات النصّ المكتوب.
 يظهر المؤلف لإحدى الشخصيات "بيبو"، ويُقدِّم نفسه له، فنرى كيف أن "بيبو"، الشخصية الروائية، يستقبل هذا بلا مبالاة، ويتمتم كأنما يقول "مؤلف على نفسك"، هو يزيح مؤلفه إلى مساحة ضيقة فى المشهد، ثم يضغط عليه أكثر، ويتحدث إليه بطريقة ساخرة "لماذا جئتَ إلى هنا أصلاً"، ويغادر ليتركه جالسًا بمفرده فى المقهى، هنا يحتل "بيبو" المشهد، بأسلوبه، طريقته فى الكلام، وترْكِه لمؤلفه وحيدًا، ما فعله الفن هنا، أنه حوَّلَ الشخصية الروائية إلى حقيقية، جعلها تحتل المشهد كاملاً حتى فى وجود مؤلفها، أعاد ترتيب العلاقة بين المؤلف والشخصية، وهذا كله نابع من رؤية للكاتب عن الكتابة، تساؤلاته عنها، وما تطرحه هى أيضًا عليه من تساؤلات، وأفكار، هذا الحوار الدائر بين الكاتب وكتابته.
تنشأ قصة حب بين "بيبو"، و"ميرڤت عبد العزيز"، بعد أن تصادفا فى مطعم تعمل به، وظَلَّ هو يُحدِّق فى عنكبوت مرسوم بطرف بلوزتها، بينما تُحدِّق هى فى فردتى جَوربَيه مختلفتى اللون.
تعشق "ميرڤت" التماسيح، صيد العناكب، وبنسات الشعر، و"بيبو" يحب قصص الحب (حتى لو لم يُصرِّح)، التجوال فى وسط البلد، التواجد فى الروايات كشخصية روائية تدرك ذاتها، ومشاهدة الأفلام فى السينما، خاصة أفلام أودرى تاتو (زميلته فى العمل حَسْب الرواية).
شخصيتان بهما مزيج لطيف من غرائبية وعاديَّة، حتى تشعر بأنهما سقطا من كوكب بعيد على الأرض، وفى الوقت نفسه لا يمكن إلا أن يكونا من كوكب الأرض، ستعتقد أنهما أول شخصان يهربان من الكوكب لو أن هناك فرصة لذلك، مثلما قالا لبعضيهما فى محادثة بنهاية الرواية، وفى الوقت نفسه تثق أنهما لن يغادرا الكوكب، حتى لو غادره الجميع.
نراهما وهما يتحركان فى منطقة وسط البلد، نقرأ أسماء شوارع ومقاه معروفة، والتى من المفترض أن تعطى انطباعًا بواقعية حياتهما، لكنها بطريقة ما، تصنع تلك اللمسة الغرائبية، بينما المواقف التى من المفترض أن تكون خيالية، مثل طيران غرفة "ميرڤت"، أو أن تنقل بإشارة من يدها برج حمام من مكانه بإحدى بنايات وسط البلد بينما تقف هى فوق برج القاهرة، وحكايات أسطورية عن قارة أطلانطس، ومغارة هرقل، كلها أضافت إلى الرواية شعورًا بالواقعية، ربما حدث هذا بسبب الطريقة التلقائية التى تم المزج بها بين العالمين، ورؤية الكاتب للخيالى والواقعى، فيمكننا أن نرى كيف أنه لا يتعامل وكأن هناك حدودًا بين العالمين يقوم هو بإلغائها، وإنما الأمر أنه لا حدود أو مسافات بالأساس، لستَ فى حاجة لبذل مجهود كبير كى تجمع مفردات العالمين فى مشهد، أو جملة واحدة، لأنهما عالم واحد، تسبح ألوانه وتمتزج معًا، وعندما ترى ذلك، وتثق به، يمكنك أن تلتقط منه بفرشاتك، وترسم لوحتك. 
يقول الكاتب فى صفحة 163: "لا شىء فى ظنى اسمه أن الواقع أكثر خيالاً من الفن، لأن الفن قادر على جعل الحياة، أكثر جمالاً، والأهم: أكثر احتمالاً"، ثم يطرح تفسيرًا: "ربما يبدو الاحتفاء بما يتناوله الفن، رغم وجود مثيل له فى الواقع، جوابًا على من يقولون أن الحياة صارت أكثر غرائبية من الواقع"، وهو يقدِّمه أيضًا كتفسير محتمل لأسئلة أخرى حول الفن والكتابة.
فى الفصل الأخير من الرواية: "سيارة"، رحلة غريبة يقوم بها "بيبو" داخل سيارة مسرعة داخل نفق مظلم، يقودها بنفسه رغم أنه لم يقُد واحدة من قبل، معه الببغاء "تأبط شرًا"، وقد تحوَّل "سامى" مُجفِّف الفراشات، والمملوك الذى نجا من مذبحة محمد على، وهما شخصيتان ظهرتا فى الفصول القصيرة، ذات الأرقام اللاتينية، تحوَّلا إلى ملاكين على كتفى "بيبو"، الذى يقوم بمحادثة هاتفية مع "ميرڤت" تستمر لأيام، ثم يبحث عن مؤلفه كى يُخرجه من مأزقه، وحبْسَته داخل السيارة، وعندما يصل إلى بيته، يناديه، لكن المؤلف لا يجيب، ويسمع "بيبو" دقات أصابع على الكيبورد، ويتوقع أن مؤلفه يحدد مصيره الآن، فيحاول الخروج من السيارة، ولا يستطيع، يقود من جديد، ويبدأ فى التصرف لإنقاذ نفسه، وفى النهاية، يفتح سقف السيارة، فيطير الببغاء، وتختفى كل الأشياء تباعًا، بما فيها المؤلف، ثم يطير سقف السيارة، يفك "بيبو" حزام الأمان، يترك جسده لأعلى، عيناه مفتوحتان بارتياح، وفى ذهنه تتردد جملة وحيدة ربما سمعها فى فيلم أو  قرأها: "حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية"، التى تبدو وكأنها جملة يقولها المؤلف لنفسه، وهو الذى قال داخل روايته أنه يُفضِّل كونه شاعرًا، يؤكد هنا أنه، عندما يكتب رواية، ويمارس كل ألاعيبه، ويطرح أسئلته وأفكاره عن الكتابة والفن، فإنه يفعل هذا، بقلب شاعر.
...............
نشر في مجلة روزاليوسف


عنكبوت فى القلب



بهاء جاهين
1
بهذا العنوان: عنكبوت فى القلب، صدرت هذا العام للشاعر محمد أبو زيد عن الهيئة المصرية العامة للكتاب رواية هى ثانى أعماله فى مجال القص، فقد سبقتها رواية أولى صدرت عام 2010 بعنوان أثر النبى، بينما للكاتب ثمانية دواوين شعرية صدرت ما بين عامى 2003 و2015، إضافة لعمل شعرى للأطفال بعنوان نعناعة مريم (2005)، ومختارات شعرية بالفرنسية بعنوان قصيدة الخراب (2014). إذن محمد أبو زيد، بهذه الإحصائية، شاعر فى الأساس، لكنه ذو رؤى روائية. وعنكبوت فى القلب قصيدة عملاقة مُرَكَّبة من آلاف التفاصيل والمجازات والاستعارات والرموز. لماذا أقول قصيدة؟ لأن الموضوع حالة حُب، أقول حالة لا قصة حُب، فالحكاية بين العاشق والمعشوق سرعان ما تروغ من بين أيدينا ليتحول المحب فى نظر محبوبته إلى احتمال، ووجوده من عدمه محل نظر وشك. والشخصيات الرئيسية هى انقسامات لذات الشاعر العاشق مبدعة شعر الحب الغنائى، ليصير عندنا فى هذا التجلى الروائى لقصيدة الحب بطل الرواية بيبو ومؤلفها الوارد فى العمل باسمه محمد أبو زيد، بل إن المحبوبة ميرفت عبد العزيز تشبه عاشقها كثيراً فى سماتها الوجدانية لدرجة أنها بمعنى ما صيغة أنثوية لروحه، مع فارق جوهرى كما سنرى. أما باقى الشخصيات الرئيسية فهى رموز ومجازات وصور شعرية: مثل الببغاء تأبط شراً الذى يردد شعر التراث الكلاسيكى وبالتحديد المتنبى، والملاكان السيرياليان الملازمان لبيبو، ملاك الكتف اليمنى واسمه سامى، وملاك الكتف اليسرى واسمه مملوك، ومثل علاء الدين صاحب المصباح الذى تتداخل حكايته المعدلة مع حكاية بيبو وميرفت. ينقسم العمل لمقدمة وأربعة فصول. المقدمة تقدم لنا أهم الشخصيات الثانوية وهى الببغاء تأبط شراً، والملاكان الملازمان لروح البطل بيبو. فتسُوق لنا المقدمة حكاية سيريالية لجذور هؤلاء الثلاثة: فتأبط شراً على سبيل المثال شاعر صعلوك فاتك من جاهلية الصحراء العربية، وقد تحول بقدرة قادر إلى ببغاء أليف فى صحبة الفتى، والملاك الأيسر مملوك هارب من مذبحة القلعة، أما سامى الملازم كتف بيبو اليمنى فملاك قاهرى معاصر من سكان مقابر حى البساتين. ثم يحكى لنا الفصل الأول، وعنوانه فتى، قصة الحب بين بيبو وميرفت من وجهة نظر الفتى بيبو، ولكننا نفاجأ فى الفصل الثانى بعنوان فتاة بالحكاية وقد اختلفت كثيراً عما عرفناه فى الفصل الأول بل لم تعد هناك حكاية تقريباً فيما يخص العلاقة بين بيبو وميرفت، إذ لا يتجاوز الأمر من وجهة نظر ميرفت أن الفتى أثار انتباهها لفترة، وبحثت عنه لساعات، لكنّ اللقاءات بينهما التى أوردها بيبو فى الفصل الأول الذى يخصه لم تذكرها ميرفت على الإطلاق فى فصلها. فرغم التشابه الكبير بينهما فى أنهما شخصيتان انطوائيتان تحبان العيش على هامش الحياة وتكرهان التورط فيها، إلا أن بيبو فى قماشته الروحية رومانسى، تجبره رومانسيته وقدره على التورط عاطفياً فى عشق ميرفت، بينما المحبوبة عقلانية لا يهزها الحب بما يكفى للخروج من شرنقة الذات فتظل غائصة فيها.
 وأما بطل الفصل الثالث، بعنوان مؤلف، فهو محمد أبو زيد نفسه، الذى يعترف لنا بأن ميرفت عبد العزيز هاجس يسكنه ويسكن أعماله منذ ديوانه الثانى قوم جلوس حولهم ماء (شرقيات2006). ولم يتسنّ لى الوقت أو تتوافر النصوص لدراسة كيف تطوَّرت هذه الشخصية الروائية عبر دواوين محمد أبو زيد الشعرية حتى سكنت هذه الرواية. لكنها هنا فى عنكبوت فى القلب فتاة تهوى تربية العناكب، وتفتنها أنثى العنكبوت السوداء السامة كما شاهدتها فى السينما، وكذلك الرجل العنكبوت، وهى عموماً، أى ميرفت، شخصية، غريبة الأطوار كان من سوء حظ بيبو أن يعشقها.. كما سنرى معاً فى السطور القادمة إن شاء الله.
2
فى حديثنا عن رواية «عنكبوت فى القلب» للشاعر محمد أبو زيد, توقفنا فى نهاية المقالة السابقة عند غرابة أطوار شخصية المحبوبة وكيف كان من سوء طالع العاشق بيبو أن يقع فى هواها.. فالبنت التى تهوى تربية العناكب غرست فى قلب عاشقها عنكبوتاً ساماً هو الحب. هذا التشبيه أو الاستعارة التى أعطت الرواية عنوانها, تعكس منذ البداية المزاج الفنى للعمل: وهو الرؤية والصياغة السيريالية لحالة الحب من طرف واحد. فإضافة لما أوردناه فى المقالة السابقة من صياغات وشخصيات تم تجسيدها بأسلوب يذكرنا برسوم سلفادور دالى الغرائبية وتكعيبية بيكاسو, هناك أيضاً سيارة الفصل الرابع والأخير التى تنطلق بقوة دفع ذاتية حاملة بيبو وعالمه الأثير بين عوالم خارجية يختلط فيها الواقع بالخيال, والحى الشعبى بالصحراء والثلج والبحور والجبال, وقد فقد راكبها أى قدرة على إيقافها أو توجيهها فكأنها هى التى تقوده؛ فى إشارة مجازية إلى قلب العاشق. نفس القلب الذى رأيناه فى الفصل الأول موضوعاً فى كرتونة فى شرفة بيبو وبجواره بعض الماء والحَب, كأنه طير عليل مجذوذ الجناحين. والرواية كلها مكتوبة بنفس الروح ونفس المنهاج الذى يُلغى الحاجز الفاصل بين الواقع اليومى العادى والواقع الحواديتى الأسطورى الذى يمكن خلاله أن تطير الشخصية الروائية العادية الواقعية فى أى لحظة حتى تختفى فى ملكوت الزرقة, بنفس البساطة والبدهية التى تشرب بها شاى الصباح أو تركب الميكروباص وتأكل ساندوتش الفول. وهنا قد تزدحم التصنيفات والنعوت النقدية: كالسيريالية أو الواقعية السحرية وما شابه من مصطلحات النقد. لكنى أرى أدق وصف لهذا العمل أنه الرواية حين يكتبها شاعر, وقصيدة الحب حين يحولها كاتب للشعر ذو خيال روائىّ إلى عمل معمارىّ مُركَّب يختلط فيه ويمتزج الواقع بالمجاز كما يحدث دائماً فى الشعر. فإذا أردنا تكثيف هذا الوصف فى كبسولة مصطلح نقدى يمكننا ان نسمى هذا النوع من الكتابة بالواقعية الشعرية.

هنا يجلس علاء الدين صاحب المصباح على مقهى كل يوم, ويسقط الحائط الفاصل بين أنواع الكتابة الأدبية, فى استمرار لما يحدث بشكل متصاعد منذ تسعينيات القرن الماضى. فمحمد أبو زيد كاتب قصيدة النثر, وغيره آخرون, ينتقل بسلاسة من النثر الشعرى, الذى اقترب من القصة واقتربت منه فى ربع القرن الأخير, إلى الرواية: الشكل الذى صار الوعاء والبوتقة التى تنصهر فيها صنوف وأفانين الخيال الأدبى فى نزوع متصاعد نحو التركيب من ناحية, والإغراب والعجائبية من ناحية أخرى, تعبيراً عن واقع عالمى سقطت فيه الحواجز, واشتبكت وتعقدت الخيوط, وصارت الرؤية الأحادية البسيطة عاجزة قاصرة, وأتاحت لنا الإذاعة على الهواء مباشرة أن نرصد العجب اليومىّ ممتزجاً بالبدهى المعتاد. كل هذا جعل الرواية الشكل الأقدر على التعبير عن واقعنا العجائبى المعقد, الموحد حتى وهو شَتَّى, فصارت الرواية هى الأم الحاضنة للأجنة المجنونة التى تتشكل تحت أبصارنا كل يوم, أو فى خيال أدبائنا الراصدين لما يحدث أمام عيوننا. وكان من الطبيعى, خاصة فى كتابات أدباء منطقتنا العربية, أن تنتصر السريالية وتصعد وتتصاعد, حتى فى موضوع رومانسى غنائى كحالة الحب من طرف واحد التى يرسمها لنا الشاعر الروائى محمد أبو زيد, ويحل التركيب محل الرصد والسرد البسيط. وقد استطاع أبو زيد بموهبة نادرة, أن يقدم لنا فجيعة هذا النوع من الحب بخفة ظل وخيال لطيف طريف ورهيف, وأن يحتفظ بمسافة نفسية عاطفية, كما يجدر بروائى, تفصله عن الأحداث التى تحرقه كشاعر, ليتحلى بموضوعية تعصمه من السقوط فى الميلودراما والعاطفية المفرطة, فقدم لنا عملاً ممتعاً, نرى فيه النار البرتقالية تتوهج فى كفينا دون أن تحرق راحتنا وأصابعنا.

................
*نشر في جريدة الأهرام

10‏/08‏/2019

محمد أبوزيد: "عنكبوت في القلب" تُكمل سيرتي الشعرية


حاورته: منى أبوالنصرالمصري محمد أبو زيد وروايته الجديدة
74
صنع الشاعر والكاتب المصري محمد أبوزيد، في روايته الصادرة حديثا "عنكبوت في القلب"، نسيجا سرديا يجمع فيه بين الرواية والشعر، في تجربة تُذيب الحدود بين الفنون، مُحررا أبطالها الذين ظهروا في دواوين سابقة له من سطور القصيدة، بمنحهم حياة أخرى في روايته ليواجهوا فيها مصائرهم الغرائبية، ويعيدوا تشكيل مفردات عوالمهم
صدرت رواية "عنكبوت في القلب" أخيرا عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، وهي الثانية لأبو زيد بعد "أثر النبي" وعدد من الدواوين الشعرية اللافتة، أبرزها "قوم جلوس حولهم ماء"، و"مدهامتان"، و"سوداء وجميلة"، و"مقدمة في الغياب" وغيرها.
"العين الإخبارية" أجرت حوارا مع الشاعر المصري محمد أبوزيد، تحدث خلاله عن أجواء روايته الجديدة ومفاتيحها الفنية التي استغرقت 7 سنوات لكتابتها، وإلى نص الحوار..
اخترت أن يكون خروج روايتك الجديدة تحت مظلة الشعر وليست مستقلة عنه، من أين نبتت فكرتها؟
أعتقد أن فكرة الرواية نبتت قبل 15 عاماً، عندما كتبت قصيدة "سيقول الأشرار أنني سأتحدث عن ميرفت عبد العزيز بالتحديد"، ثم ضمنتها ديواني "قوم جلوس حولهم ماء"، ثم وجدت أن شخصية "ميرفت" تنتقل من ديوان إلى آخر دون توقف. لم أكن أدرك عندما كتبت القصيدة الأولى أنها ستنتهي إلى رواية، لكني مؤمن بفكرة "مشروع الكاتب"، الذي يكتمل عملاً بعد آخر، وفيه يطارد أفكاره أو يحدث العكس فتطارده أفكاره. وفي ظني أن مشروعي الكتابي هو شعري بالأساس، لكنني يمكن أن أستعين بكافة أنواع الفنون الأخرى لخدمة هذا المشروع. يمكن أن أستعين بالرواية أو بالشعر أو بالمسرح أو بالموسيقى، لأن الفنون كلها تنبع من معين واحد حتى لو اختلفت طرق وصولها إلى المتلقي.
هل أكملت سيرة بطلتك "ميرفت" وحررتها من خلال "عنكبوت في القلب"؟
يمكن القول إنني قتلت شخصيتي الشعرية الأثيرة في الرواية، أو حررتها. فهذا هو الظهور الأخير لها، لو استخدمنا المصطلح السينمائي، على اعتبار أنني لجأت إلى السينما كثيراً في الرواية. وأعتقد أن هناك نقاط تماس كثيرة بين هذه الرواية ودواويني السابقة، لذا في نهاية الرواية يجد القارئ أنني أضع قائمة بالمراجع هي مجمل دواويني السابقة، كما وضعت ضمن المراجع كتابي "الأرنب خارج القبعة"، لأنني أتماس معه في بعض الأفكار المطروحة فيه حول الكتابة، ووضعت أيضاً روايتي الأولى "أثر النبي"، لأنني قلت إن بطل "عنكبوت في القلب" يغار على بطل الرواية الأولى وسرق منه وحدته. الرواية إذن تكمل سيرتي الشعرية وليس سيرة ميرفت فقط.
في الرواية تماس بين الواقعية والغرائبية وكذلك الوجودية، كيف تصف غواية هذه المساحة في الكتابة؟
أعتقد أن الرواية سعت إلى تحويل الواقعي المعتاد إلى فن، وطرحت بدائل للحياة عبر استقراء المصائر المتعددة لو جاز لي أن أقول هذا. ففي بداية سيرة ميرفت تجدين أن هناك ثلاث قصص لبدايتها، وحتى عندما تحاول أن تفلت من أزمتها الشخصية مع "بيبو" تجد أمامها ثلاث بدائل، و"بيبو" عندما وجد نفسه محبوساً في السيارة وجد أمامه طرقاً متعددة ليسلكها، وأعتقد أن أحد هذه البدائل دائماً هو الفن. فالفن هو ما يجعل الحياة محتملة، ويجملها، لذا تجدين في الرواية شخصيات حقيقية لكنها في واقع غرائبي، وشخصيات خيالية لكنها في واقع ممل. هنا أنا أتركهم في مواجهة الفن، في محاولة للإجابة عن سؤال: ما الذي يمكن أن يغيره الفن في حياتنا؟
شخصيات روايتك على الحافة.. مشردون بين جنون وعزلة، إلى أي مدى استنزفك هذا الاشتباك في مصائر شخصياتك وأنت في طور الكتابة؟
كتبت الرواية في سبع سنوات تقريباً، وبالمناسبة هو عدد السنوات نفسه الذي كتبت فيه روايتي الأولى. وسر هذا العدد الطويل من السنوات، هو الإجابة عن سؤالك أنني أقدم حيوات خاملة، تقف بين العزلة والجنون، لا شيء تقريباً يحدث في حياتها لأنها تهرب من العالم، وليس ثمة تطور درامي يحدث في حياتها إلا بالفن، أو بجنون فني يوازي جنونها؛ لهذا تلجأ إلى خلق واقع افتراضي يصنع حياة لها تنتصر على رتابة حياتها.
تكتب القصيدة خارج إطار "التعليب"، والآن تقدم رواية بلا حدود بين النثر والشعر، هل هذا التحرر السردي هو حليفك في الإبداع؟
أعتقد أننا يجب أن نكتب ذواتنا لأنها تخصنا، ما الفائدة التي تُرجى من أن نعيد كتابة نصوص مكتوبة من قبل؟ نحن نحاول طوال الوقت، ربما نفشل وربما ننجح، لكن أظن أن "الحرية" هي مفتاح الكتابة الجيدة، أقصد التحرر من كل الأشكال التقليدية والمعتادة، التحرر من الأفكار المعدة مسبقاً، التحرر من الشكل، وأعتقد أن الكتابة باعتبارها عملاً ثورياً هي محاولة للتحرر من أطر الحياة التقليدية، وخلق حياة موازية لحيوات أبطالها
برأيك ما الذي يُعقد مسألة حصول نشر الشعر على حقه منذ سنوات في العالم العربي؟
بدأ الشعر غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، وطوبى للشعراء القابضين على جمرة قصائدهم رغم تعنت الناشرين والنقاد والقراء الذين يريدون نصاً سهلاً، وإجابة سؤالك في أن كل شيء تواطأ وتآمر على الشعر، بداية من تحول بعض الناشرين إلى "تجار" يسعون للربح دون اهتمام بدور ثقافي، إلى المؤسسات الثقافية العربية التي تهتم بإطلاق جوائز ومنتديات للرواية فقط، إلى النقاد، في حال وجودهم، الذين يستسهلون الكتابة عن الرواية، لكن كل هذا لم يقتل الشعر، بل الشعر مستمر وماضٍ في طريقه ويتطور، وهناك عشرات الأصوات الجديدة المبشرة.
مشروعك المقبل هل هو ديوان أم رواية؟
ـ لست روائياً، ولا أسعى لكتابة رواية إلا إذا فاجأتني فكرة تخدم مشروعي الكتابي، لديّ ديوان قيد النشر عنوانه "جحيم" أرجو أن يصدر قريباً
.............
نشر في موقع العين،   ،الأربعاء 2019/5/15 07:15 م بتوقيت أبوظبي
.