13‏/11‏/2017

قبل أن تغلق "شرقيات" أبوابها

أحزنني خبر أن مسيرة "دار شرقيات" قد وصلت إلى نهايتها بعد أكثر من ربع قرن في عالم النشر.
كنت أهاتف صاحب الدار حسني سليمان، بالصدفة، عندما فاجأني أنه ينهي إجراءات غلق الدار. وعندما رآني مصدوماً، قال لي إن لكل شيء نهاية، وأن القطار قد وصلت إلى محطته الأخيرة، وأنه كبر في السن وتعب.
كنت ألمح المرارة في صوته، تلك التي حاول إخفاءها خلف ضحكات قصيرة مقتضبة، مرارة إحساسه بأن الجميع تخلى عنه، من المثقفين إلى المؤسسات الثقافية المختلفة، إلى مئات الكتاب الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، ساهمت دار شرقيات في صناعة اسمهم وعرفت الكتاب بهم.
سبب صدمتي وحزني، أن "دار شرقيات" واحدة من دور النشر المصرية القليلة، التي تحظى باحترام شديد، وشهرة كبيرة مصرياً وعربياً، ويكفي أن تذكر اسمها أمام أحد الكتاب العرب، حتى يشيد بالكتب الصادرة عنها، والمنتقاة بعناية، ويكفي أن ترى كتاباً صادراً منها حتى تتأكد أنه سيكون جيداً، حتى لو لم تكن تعرف اسم الكاتب.
بدأت دار "شرقيات" النشر في مصر في بداية تسعينيات القرن الماضي، وقدمت جيل التسعينيات إلى القراء، فالأعمال الأولى لعدد كبير منهم صدرت منها، بداية من إيمان مرسال ومصطفى ذكري، كما قدمت أعمالاً لأجيال أخرى من المبدعين مثل جمال الغيطاني وخيري شلبي وإدوار الخراط ومحمد عفيفي مطر ولطيفة الزيات، وقدمت ترجمات متميزة من روائع الأدب العالمي مثل "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، والأحمر والأسود لستاندال، ومؤلفات بورخيس، ورباعية مارسيل بانيول وصورة شخصية في السبعين لسارتر ومدار بوفاري لفلوبير، ومؤلفات وليم بليك وآني إرنو وكونديرا وكافكا وإيتالو كالفينو وسودرجران، فضلاً عن مئات الكتاب المصريين والعرب من أجيال مختلفة مثل ميسون صقر وجورج طرابيشي وعلي منصور وعلاء خالد ورنا التونسي وطارق إمام وغيرهم.
أصبحت دار شرقيات على مدار أكثر من 25 عاماً جزءاً من ذاكرة الثقافة المصرية، لا يمكن حذفها أو الاستغناء عنها، برغم كل المصاعب التي قابلت الدار خلال السنوات الأخيرة، وبرغم المشاكل المتعلقة بصناعة النشر والتوزيع في مصر الآن، وعدم استطاعة صاحب الدار التأقلم معها إلا أنه ظل محافظاً على كونه من أفضل الناشرين من حيث كونه قارئاً جيداً للأعمال التي ينشرها، وصادقاً في مواعيده ـ وهو أمر قلما نجده في أي دار نشر أخرى ـ وحريصاً على احترام مهنته بإصدار كتب جيدة غاضاً الطرف عن أي إغراءات تستجيب لها دور أخرى.
لا زلت أذكر تجربتي الأولى معه في النشر عام 2006، وهي الحكاية التي لا أمل من تكرارها وحكيها للتدليل على دقة المواعيد، عندما ذهبت إليه بديواني "قوم جلوس حولهم ماء"، ولم يكن قد صدر لي وقتها إلا ديوان واحد من هيئة قصور الثقافة،  وبعد أن قرأ الديوان، هاتفني ليخبرني بموافقته على النشر. ولأني كنت أعرف أن كل دور النشر تتأخر في النشر لسنوات، وتعطي وعوداً مكذوبة كثيرة، سألته متردداً عن موعد صدور الديوان، فقال لي إنه سيصدر بعد ثلاثة شهور، مضيفاً: "تستطيع أن تأتي يوم 25 أغسطس لاستلامه"، وطبعاً ظننته وعداً كغيره من الوعود التي خبرتها من طول عملي في الصحافة الثقافية. لكنني فوجئت به يهاتفني يوم 25 أغسطس ليسألني: "لماذا لم تحضر لاستلام كتابك؟". هذه التجربة الصغيرة، وهي واحدة من فضائل الدار، جعلتني حريصاً على نشر كل كتبي اللاحقة لديها، وأظنها تكررت مع الكثيرين غيري من الكُتّاب.
إغلاق دار نشر، يشبه إغلاق مدرسة، يشبه فتح سجن. والتغيير الثقافي والتنوير الذي أحدثته دار "شرقيات" بالكتب التي أصدرتها حري بنا أن نتوقف ونسأل، هل سنسمح بالاستغناء عن هذه "العلامة التجارية" المميزة، عن كل هذه الكتب التي أصدرتها أو الترجمات التي تمتلك حقوق نشرها. ربما تعاني الدار من مشاكل في الترويج والتوزيع، لكنها تستحق من كل كاتب أصدرت له كتاباً أو قرأ شيئاً منها غيّر أفكاره، أن يحول دون ذلك، وربما على المؤسسات الثقافية الرسمية ـ إن كان يعنيها ذلك ـ أن تفكر أيضاً في أن جزءاً من "ذاكرة الثقافة المصرية الحديثة"، وقوتها الناعمة يضيع، كما ضاعت أشياء كثيرة من قبل.

ربما علينا أن ننقذ "شرقيات"، قبل أن يغيب "نهار" آخر.

من السينما إلى الواقع … والعكس

في فيلم «زهرة القاهرة القرمزية» للمخرج الأمريكي «وودي آلان»، يَخرُج بطل الفيلم من شاشة السينما إلى صالة العرض؛ ليقابل إحدى المُشَاهِدَاتِ الدائمات له، رافضًا العودة مرة أخرى إلى الفيلم الذي عجز باقي أبطاله عن إكماله؛ بسبب غياب أحد الأدوار الرئيسية فيه.
يبدو هذا الفيلم الأكثرَ تعبيرًا عن عَلاقة السينما بالناس، والعكس، وما يمكن أن تُغيِّره السينما في حياتهم وتضيفه من جماليات إلى الواقع الصعب، وهو ما نجده في أفلام كثيرة مثل فيلم «قط أبيض، قطة سوداء» للمخرج اليوغوسلافي «أميركوستاريتشا»، عندما جعل سقف المنزل في النهاية يطير بمن عليه. وهو ما قدَّمتْه من قبلُ «ألف ليلة وليلة» كحلول خيالية لواقع الفقراء.
هذا المزيج من التداخُل بين عالَمَي السينما والواقع الذي قدَّمه وودي آلان في فيلمه الجميل، من الممكن أن يدُلَّنَا على سؤال مُهِمٍّ عمَّا أخذته السينما من الواقع، وما أخذه الواقع من السينما، وكيف استفاد كلٌّ منهما من الآخر.
من يتابع جميع أفلام الكوارث، وأفلام «أيام القيامة» والخيال العلمي الأمريكية، خلال العقد الأخير — على غرار «٢٠١٢»، و«ستار تريك»، و«إكس مِن»، وجميع أفلام شركة «مارفل» — فسيجد أن مشهد انهيار المباني يشبه بالضبط مشهد انهيار برجَيْ مركز التجارة العالمي في ١١ سبتمبر ٢٠١١، وهو المشهد الذي بدا لنا وقتها بالفعل كأنه جزء من فيلم هوليوودي يُذاع على الهواء مباشرة.
سبقت مشاهد «١١ سبتمبر» كل ما قدمته السينما الأمريكية من عنف ورعب ومشاهد للتدمير؛ المبنى الذي سقط في مكانه في مشهد أسطوري، الناس وَهُمْ يطيرون في الهواء، الموظفون وهم يهرولون في الشارع. لم يكن المُشَاهِدُ الأمريكي — الذي هَيَّأَتْ له هوليوود لسنوات طويلة أنه بانتظار حرب كونية وغُزَاةٍ من كوكب آخر (فيلم يوم الاستقلال على سبيل المثال) — يعتقد أن الأمر سيكون أكثر رعبًا ممَّا صورته هوليوود؛ فأدَّى ذلك إلى أن تحولت كل مشاهد الانهيارات والتدمير في الأفلام الأمريكية منذ تلك اللحظة إلى صورة للمشهد الواقعي الذي رَأَوْهُ في ذلك اليوم، ولم ينجُ من ذلك أحد، من مخرج كبير في حجم «جيمس كاميرون»، إلى فيلم رديء فنيًّا مثل «جي آي جو» الذي قَدَّمَ مشهدًا لقصف «برج إيفل» يشبه إلى حَدٍّ كبيرٍ ذلك المشهد.
إذا كان هذا ما أخذته هوليوود من الواقع، فإنها حاولت أن تقدِّم للواقع أشياءَ أخرى، مختلفة عن صورتها الحقيقية، سواء وضعها الداخلي أو بنيتها المجتمعية التي تناولتها أفلام قليلة مثل «الجمال الأمريكي»، كما قدمت ما يمكن اعتبارُه غسيل سمعة لأجهزتها الأمنية في أفلام كثيرة بعضها حصل على جائزة الأوسكار مثل فيلم «أرجو» الذي أخرجه وقام ببطولته «بن أفليك»، وأعلنت فوزه «ميشيل أوباما» قرينة الرئيس الأمريكي بنفسها، في دلالة سياسية لا تخفى على أحد، وهو الفيلم الذي يحكي قصة عملية استخباراتية لتحرير رهائن أمريكيين عقِب قيام الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩، وأيضًا «القبطان فيليبس» الذي ترشح للأوسكار وقام ببطولته «توم هانكس»، ويحكي قصة تحرير سفينة وقعت في قبضة قراصنة صوماليين، وسبقه أيضًا فيلم «٣٠ دقيقة بعد منتصف الليل» الذي أخرجته وأنتجته «كاثرين بيجلو»، والذي يروي كيف «اصطادت» المخابرات الأمريكية «أسامة بن لادن» في مخبئه، وطبعًا يمكن أن نعود على أفلام أقدم مثل فيلم «عدو الولاية» الذي قام ببطولته «ويل سميث»، ويتناول كيف يمكن للأجهزة الأمنية الأمريكية أن تصل لمكان أي شخص على الأرض، وتحدده، وتحصل عليه، أو فيلم «المملكة» الذي يحكي الدور الأمريكي في القضاء على القاعدة في السعودية.
هذه الأفلام التي تقدم صورة شديدة الوضوح ﻟ «قوة» الأمريكي، يبدو وجه العملة الآخر لها مشوَّشًا قليلًا، فلأنها تُقَدَّمُ باعتبارها تعتمد على وقائع حقيقية؛ فهي تعكس إذن صورةً للقوة الأمريكية بشكلها الأعم، وهي القوة التي لم يلحظها المتابع/المشاهد في كثير من الأحداث الواقعية مثل ذبح رهينتين على يد «داعش» في العراق مثلًا، أو مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، وغيرها.
يحضُرُني هنا ما ذكره الروائي «مصطفى ذكري» في مقال له من أن «فرانز كافكا» كتب روايته الشهيرة «أمريكا» دون أن يزورها ولو لمرة واحدة؛ لأنه أدرك أن أمريكا لا داخل لها، وأنه يكفي رؤية بعض الكروت السياحية لكتابة الرواية، وكأنه بهذا يسخر من الصورة الأمريكية المصنوعة، ويؤكد أنه يمكن الكتابة عنها كصورة، كما تُفضِّل دائمًا أن تُقَدِّمَ نفسها أو كما تمنح نفسها للواقع سينمائيًّا.
يقول المخرج «كوينتن تارانتينو» في حوار معه: «كونك أمريكيًّا تصنع فيلمًا عن ماضي أمريكا يمكن أن يكون قاسيًا». قال هذا بعد فيلمه الأخير «دجانجو طليقًا»؛ لأن «مِن أكبر التحديات التي تواجهنا في صناعة هذه الأفلام هي حقيقة أنه لا يوجد الكثير من هذه الأفلام». رغم اهتمام هوليوود بكشف كل ماضٍ للدول الأخرى، ولاهتمامها بالأساس برسم صورة أشبه بقناع لها.

الأمر يتجاوز آلاف الحروب التي تدور في الفضاء، والوحوش التي تغادر كهوفها، والعلماء المجانين الذين يريدون السيطرة على الأرض، والروبوتات التي تمردت، والديناصورات التي ستعود، والحروب التي ستدمر الأرض ومَن عليها ولن يبقى عليها إلا أمريكي أخير، يتجاوز محاولة قولبة الخيال إلى قولبة الواقع، ورسم صورة خارجية تُجَافِي الداخل. الأمر يعيدنا إلى سؤالنا الأول مرة أخرى، عن العلامات الفارقة بين ما تأخذه السينما من الواقع والعكس، وهل يمكن أن يتم صنع دولة أو قارة بأكملها من الخيال؟

قبل أن تأكل نفسك

"عندما استيقظ جريجوري سامسا في الصباح — بعد أحلام مضطربة — وجد نفسه وقد تحوَّل إلى حشرة". هذه الجملة الشهيرة في بداية رواية فرانز كافكا «المسخ»، والتي طالما كانت مؤشرًا لكتابة الكثيرين في السبعينيات، تبدو هي الأكثر تعبيرًا اليوم عن حالنا.
لا أتحدث هنا عن الكتابة، وإنما عن واقع فرضه التحوُّل الدراماتيكي في العالم منذ قرابة العقدين مع اكتشاف تقنيات الاتصال الحديثة، من هواتف محمولة وإنترنت وكمبيوتر، وغيرها، والتي جعلت للإنسان رفيقًا آخر غير بشري، يكاد أن يكون ونيسه الوحيد في كثير من الأحيان، وزادت انغلاقه على نفسه.
رغم القراءات المختلفة التي قدَّمت لفيلم Her الذي كتبه وأخرجه سبايك جونز، وقام ببطولته خواكين فينيكس وإيمي آدامز وروني مارا وسكارليت جوهانسون، والرؤى الفلسفية التي قدَّمها، فإن القضية الأهم بالنسبة لي كانت معالجة الفيلم لهذه القضية تحديدًا: قضية الوحدة والانغلاق على الذات، وهي إحدى تجليات عصر المعلومات.
في مشهدٍ دالٍّ يلاحظ بطل الفيلم — بينما كان يسير في الشارع — أن جميع مَن حوله منهمك تمامًا في الحديث إلى هاتفه، وعلى وجوههم انطباعات السعادة والحب والحزن والغضب والألم، لا يوجد شخصان يسيران معًا في الطريق، بل كل شخص يتحدث إلى هاتفه فقط، وهي الحالة التي يمكن ملاحظتها بسهولة الآن داخل أي بيت، أو حافلة، أو مكان انتظار، حيث كل شخص يدور في فلك ذاته وعالمه الافتراضي الذي يلجأ إليه هربًا من العالم الحقيقي، ينظر إلى الشاشة التي أمامه ويستغرق تمامًا (أيًّا كانت هذه الشاشة لهاتف أو لكمبيوتر أو لتلفاز أو لجهاز لوحي) ويتوحَّد معها تمامًا، حتى فكرة إقامة العلاقات عن طريق الهاتف مع صوت جهاز تشغيل التي قدمها الفيلم يمكن أن تجدها في الواقع؛ لأنك بالفعل لا تعرف من يجلس خلف الشاشة التي تحادثها.
عندما تراجِع «التايم لاين» الخاص بأي شخص على فيس بوك أو تويتر، ستجد هناك الآلاف الذين يسكبون مشاعرهم يوميًّا؛ أملًا في شخص افتراضي يربِّت على أكتافهم تربيتة افتراضية، ويمنحهم حضنًا وحنانًا افتراضيين، رغم يقيننا في كثير من الأحوال أن هذا الشخص الذي نخاطبه شخص افتراضي، ومن المستحيل أن نلتقيه يومًا. الأمر قد يذكِّر — في جانبه العاطفي — بالمشهد المكرر في القطارات المصرية العتيقة، عندما يركب شخص إلى جوارك ويحكي لك كل همومه، رغم أنه لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه أراد أن يفرغ ما يُلهب جوفه، ووجد أخيرًا من يسمع.

على فيس بوك وتويتر، ستجد ملايين الحسابات بأسماء مزورة لأشخاص اختاروا أن يقوموا بأدوار أخرى، اختاروا أن يخلعوا وجوههم التي منحتهم إياها الحياة، ويمنحوا أنفسهم وجوهًا وأسماء وشخصيات جديدة، تتصرف وتكتب وتحكم على الأشياء بطريقة أخرى غير الطريقة التي تعيش بها، وهو ما أعطاهم تعويضًا عن رفضهم لأسلوب حياة أو أيديولوجيا أو مستوًى اجتماعي معين، أو قيود مجتمعية.
لا أناقش هنا انفصام الشخصية لدى البعض، لكني أسعى للإجابة عن تساؤل: ماذا بعد أن توحَّدنا في عوالمنا الضيقة والمحدودة، بعد أن ظللنا لسنوات طويلة ننظر فقط في المرآة، وتخلينا عن البشر الحقيقيين، بعد أن صارت حياتنا وما نحبه موجودَيْن في أجهزة الآي باد، والآي فون، والآي كلاود، ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح لنا أشخاص افتراضيون، نقضي معهم أوقاتًا أطول — وربما أسعد — مما نقضيه مع أصدقائنا؟
يمكن تبرير هذا بأن العلاقة الإلكترونية من الممكن أن تنتهي بضغطة زر، لكن في رأيي الأمر ليس بهذا البساطة، فثمة «بُعدٌ كافكاويٌّ» في الأمر يتمثل في عبوديتنا للتكنولوجيا، وتَحوُّرنا إلى حشرات تكنولوجية، أو خلق ذواتٍ موازية، وهو ما انعكس في عبوديتنا لذواتنا، وانغلاقنا عليها، حتى غدونا مثل بطل فيلم Her الذي يهجر أصدقاءه من أجل علاقة عاطفية مع «نظام تشغيل إلكتروني» وجد معه الراحة التي لم يجِدها في علاقته الطبيعية. راقب نفسك اليوم، وقد تحول فيس بوك إلى عالم خاص بك، مغلق تمامًا، به أسرارك، ووقت راحتك الذي تلجأ إليه أحيانًا، ووجهك الآخر الذي تريد أن يراه العالم.
يُذَكِّرُ هذا بفيلم Face/Off للنجمين الأمريكيين جون ترافولتا ونيكولاس كيج، عندما استبدل كلٌّ منهما بوجهه وجه الآخر وحياته. نحن نفعل هذا الآن ونحن ندرك أن من يجلس أمامنا قد يكون شخصًا مزورًا، لكننا ارتضينا وجوده، كأن هناك عقدًا غير مكتوب: أن تسمعنى وأسمعك، طالما أن العالم لا يسمعنا. لكن، من قال إن العالم لا يسمع أو يسجل أو يتلصص؟
في عدد كبير من أفلام الخيال العلمي الأمريكية (المتحولون على سبيل المثال) تتحول الآلات التي تخدم الإنسان إلى أعداء له، وتسعى للسيطرة على العالم، بعد أن يكون الإنسان قد سلَّمها كل معلوماته تمامًا، وبعد أن يكون قد اعتمد عليها في كثير مما يفعله. وفي الحقيقة، لا أستطيع أن أمنع نفسي وأنا أتابع التطور التكنولوجي — ليس فقط في وسائل الاتصالات وإنما في صناعة الروبوتات المنزلية، والعقول الذكية، والأجهزة المقرونة بأوامر صوتية، والطائرات بدون طيار، والنظارات والساعات الذكية، وغيرها — من التفكير في نهايات تلك الأفلام.
وفي معظم أفلام مارفل الأخيرة، بداية من سلسلة «الرجال إكس»، مرورًا بكل قصص الكوميكس التي تحولت إلى أفلام حصدت ملايين الدولارات، مثل «الرجل الحديدي»، و«هالك»، و«ثور»، وأخيرًا «كابتن أمريكا»، تبدو السِّمة الأساسية التي يتحدث بها من يريديون السيطرة على العالم عبر السيطرة على الأجهزة الذكية، هي أن البشر قبِلوا التخلي عن خصوصيتهم، في مقابل أن يحصلوا على الأمان والسلام (هذه العبارة وردت بالنص على لسان البطل الشرير في الجزء الثاني من سلسلة أفلام «كابتن أمريكا»؛ جندي الشتاء)، ويمكن تحوير هذه الصيغة إلى أن البشر قبلوا التخلي عن خصوصيتهم، في الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي التي تجمع جميع المعلومات عنهم وعن جميع تحركاتهم، في مقابل سلامهم الداخلي، والتربيتة الإلكترونية على أكتافهم، وهو ما افتقدوه في حياتهم، لكن من قادهم إلى هذا المصير؟ أليست الآلة أيضًا؟
"ماستر سين" فيلم Her في ظني، حين يسأل بطلُ الفيلم «نظامَ التشغيل» الذي يحبه: «هل تحبين أحدًا غيري؟» فتجيبه: «ستمائة وواحد وأربعون.» ليكتشف أنه مجرد رقم لدى نظام التشغيل ليس أكثر، ليُطرح السؤال: من الذي يدير العلاقة، أنت أم جهاز الكمبيوتر الذي أمامك؟ من الذي يسيطر على العلاقة بعد أن توحدتَ مع الآلة وسقطت في عبوديتها، أنت أم هي؟
في ندوة أخيرة شاركتُ فيها عن «الكتابة والعولمة»، سألني أحد المشاركين: «هل تعتقد أن الأجدر بالإنسان الابتعاد عن العولمة بأشكالها المختلفة؟» وكان ردي هو أن الوقوف أمام العولمة بأشكالها المختلفة يشبه إلى حَدٍّ كبير الوقوف أمام قطار سريع، والأجدر بنا أن نكون داخل القطار لا أمامه، لكن المهم هو ماذا سنفعل عندما نكون داخل القطار؟ ما الذي سنأخذه؟ وما الذي سنتركه؟ لأنه لا أحد يستطيع أن يستغني عن كل وسائل الاتصال الحديثة (ما في داخل القطار) وإلا عاد إلى العصر الحجري. وبهذه الطريقة، لا يسمح للقطار بأن يأكله، ولا يأكل نفسه أيضًا.

في رواية «اللجنة» للروائي صنع الله إبراهيم، يأكل بطل الرواية — الضائع ما بين السلطة والحرية — نفسه في النهاية، ويبدو هذا حالنا جميعًا اليوم، ونحن ننغلق على ذواتنا يومًا بعد الآخر، وقد تخلينا عن خصوصيتنا تمامًا لشركات عابرة للعوالم متخصصة في الاتصالات واختراق الخصوصيات، مقابل أن نجد الإنسانية المفقودة، حتى لو كانت في «صورة إلكترونية»، حتى غدونا مثل دودة تضع ذيلها في فمها وتواصل الالتهام، حتى تأكل نفسها تمامًا.

عزيزي القارئ … من أنت؟

يجلس الصحافي على المقهى أمام الكاتب، وبينهما فنجانَا قهوة وجهاز تسجيل، ثم يسأل: لمن تكتب؟ يصمت الكاتب قليلًا، يرفع عينيه إلى السماء، ثم يهبط بهما إلى مقدمة حذائه، ثم يجيب في حكمة: أكتب لنفسي.
الإجابة السابقة لا تَخُصُّ أحدًا بعينه، لكنها الإجابة التي تتناثر بتشكيلات لُغوية مختلفة في حوارات عددٍ من الكُتَّاب، ربما أكون منهم. وكأنَّ من العار أن يكتب الواحد لقارئ، كما أن الحديث عن هذه الإجابة ليس تكذيبًا لهؤلاء الكُتَّاب الذين يقولون ذلك بكل صدق، وإنما استدعاءٌ لإشكاليات متعدِّدة، ربما تبدأ بالتصوُّر النظري للكتابة، ولا تنتهي عند ظاهرة "البيست سيلر".
الإجابة السابقة تطرح أيضًا القضية الأكثر إشكالية، وهي «الكتابة الشعبوية» التي تبحث عن قارئ، والكاتب الذي يكتب لِفِئَة محدَّدة وينظر إلى الباقين من عَلٍ، رافضًا الهبوط إليهم من بُرجه العالي. الجملة السابقة أيضًا لو فُسِّرت بحروفها وكلماتها فقط، لكانت حقًّا يُراد به باطل؛ فليس كلُّ كاتب شعبوي جيدًا، وليس كل كاتب (يكتب لنفسه) يجلس في برج عاجيٍّ، والكتابة لجمهور ليست تُهمةً، كما أن الكتابة لفئةٍ معينةٍ من القُرَّاء ليست سُبَّةً أيضًا.
تيد كوزر (وُلِدَ عام ١٩٣٩م) هو أحد أبرز الشعراء الأمريكيين المعاصرين، ينشر صُوَرَهُ على أغلفة دواوِينِه وهو يرتدي زيَّ عامل أو مُزارِع، وقصائده تدورُ في هذا الإطار أيضًا: نصوص من الواقع المَعِيش عن مشاهدات يومية من دون أن تقع في التسطيح والخفَّة، وهو ما جعل النُّقَّاد يعتبرون شعره شعبيًّا، لا بالمعنى الجماهيريِّ، بل بالارتباط بيوميَّات الناس العاديِّين من دون «التفلسُف» عليهم أو عرض عضلات لُغَوِيَّة أو تباهٍ بصعوبة تُعجِز القارئ، كما يرى بعض من ترجم شعره.
والحقيقة هو كذلك بالفعل؛ فتيد كوزر يعيش في مزرعته مع زوجته وكلبيه، ولا عَلاقة وثيقةَ له بعالَم المثقَّفين وأصحاب القرار المؤثِّرين في ذائقة الناس. ومع ذلك استطاع أن يحوز شهرةً حين عيَّنته مكتبة الكونجرس عام ٢٠٠٤م «شاعر أمريكا المتوَّج»، قبل أن يثبت موقعه على الساحة الأدبيَّة بنَيلِه جائزة «بوليتزر» عام ٢٠٠٥م.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن القارئ الذي يتوجه إليه «شاعر أمريكا المتوَّج» تيد كوزر، موجود بالفعل في مخيِّلة الكاتب، وأن إقراره بذلك — بأنه شاعرٌ شعبويٌّ — لم يقلل من شاعريته أيضًا، بل إنه في قصيدته «إلى قارئة» يعترف بأنه يكتب والقارئ الفقير — الذي يُفَضِّلُ شراء الخبز على شراء كتاب — في باله.
الأصل في الأشياء أن ثَمَّةَ عَلاقَةً أزلية بين المبدع والمتلقي؛ ولهذا كان شعراء المعلقات في العصر الجاهلي يعلِّقون قصائدهم على الكعبة — ولهذا سُمِّيت المعلقات — حتى يقرأها الناس. الأمر في جزء منه هو بحث عن القارئ بقواعد ذلِك الزمن، وافتخار ﺑ «البيست سيلر» بقواعد ذلك الزمن أيضًا.
كان سوق عكاظ يُقال فيه الشعر: الرديء والحسن منه، وعلى المستمع/القارئ/المتلقي أن يحكم، وكان الشاعر هو المتحدِّث الإعلامي باسم القبيلة، يفتخر بها وبأنسابها وببطولتها، ويُغِيرُ على الأعداء «شعرًا». إذن بدأ الشعر/الأدب شعبويًّا ينطلق من فَمِ الشاعر إلى أفواه وآذان المتلقين. بالتأكيد تَطَوَّرَ التلقي فيما بعدُ كما تَطَوَّرَ الشعر، ولم يَعُدْ هناك خليفة يمنح الشاعر صُرَّة من الدنانير كي يزيد من مدحه. تغيَّرت أغراض الشعر والإبداع عمومًا، لكنه لم يَفقِد عَلاقَتَه بالمتلقي الذي يسعى إليه، فحتى أكثر الكُتَّابِ نخبوية يسعى إلى طباعة كتبه وتوزيعها بيده إذا لَزِمَ الأمر، وصارت هناك فنون تعتمد في وجودها على وجود جمهور بالأساس، كالمسرح والسينما، وحتى الراوي الذي كان يدور في المقاهي القديمة ليحكي السِّيَرَ الشعبية.
إذن الإشكالية هنا ليست في المتلقي بقدر ما هي في أدوات السوق وأذواقِه التي صارت أكثر رداءة وسعيًا للربح السريع على حساب الجَوْدة، والتي أثَّرَت في أذواق بعض المتلَقِّين فجعلتهم لا يميزون الغَثَّ من السمين، والجَيِّدَ من الرديء، وصار هذا البعض يفضِّل كتب الإثارة على الروايات التي تقدم إبداعًا حقيقيًّا، ولهذا أسبابٌ كثيرة تتعلق بمُعْطَيَات العصر وغياب الدور التثقيفي للدولة، وانهيار التعليم، وعشرات الأسباب التي تحتاج إلى مقالات كثيرة لمناقشتها.
تحكي الشاعرة المصرية إيمان مرسال أنها كانت طَوال الوقت تعتقد أنها تكتب لنفسها فقط، حتى جاء يوم كانت تبحث فيه عن مجموعةِ قصائدَ لها غير منشورة — على «فلاش ميموري» — ولم تجدها، ولحظتها أدركت مرسال الحقيقة، فلو كانت فعلًا غير مهتمَّة بما تكتبه أو غير مهتمة بإيصاله إلى قارئٍ ما، وأنها تكتب لنفسها فقط، أو لإفراغ الشحنة الشعورية؛ لما كانت ستهتم أبدًا بضياع قصائد قديمة.
لكن رغم ذلك يجب علينا ألَّا نخلط الأوراق فيما يخص القارئ، فإذا سلَّمنا بضرورة وجود المتلقي في المعادلة، ففي هذه الحالة علينا أن ندرك ما الذي سنقدمه له، وهنا الفارق الحقيقي بين الكاتب النخبوي المبتعد في عليائه، وبين الكاتب النخبوي الذي يسعى إلى تغيير ذائقة القارئ، وفَتْح مجالٍ جديدٍ للتَّلَقِّي، وسحب القارئ معه إلى فضاء أرحب وأوسع، وهذا هو ما يقصده فلاديمير نابوكوف بقوله: "إن كان القارئ — على أيَّة حال — يخلو من العاطفة والصبر؛ صبر العالِم وشغف الفنان، فمن الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم".
يقول ساراماغو في حوار معه نشرته «باريس ريفيو» إن «المواضيع المفرطة بالجدية بطبيعتها لا تجذب القارئ، وإنه لأمر محيِّر أنني أحظى بمراجعات ممتازة من الولايات المتحدة.» إذن ربما يستسيغ البعض الكتابة السهلة التي يمكن ببساطةٍ بيعُها، لكن الأصعب بالفعل هو أن تُجْبِرَ القارئ على شراء كتاب لم يتعوَّدْ على قراءته.
هذا المقال ليس دفاعًا عن ظاهرة البيست سيلر، فكثير من الكتب التي تُوضَع تحت هذا التصنيف رديئة وتقع في الاستسهال، وبعضها يصبح هكذا لأنه يتم التسويق جيدًا لها، لكن هذا ليس مبرِّرًا لاستباق نجاح أيِّ عمل ناجح باتهامه بالسقوط في الشعبوية؛ فالشعبوية ليست عدوَّ الجودة، كما أن الجودة ليست نقيض الانتشار، وفي ظني أن ثالوثًا مقدَّسًا يدير أيَّة عملية إبداعية بأكملها: «العمل الفني، والمبدع، والمتلقي» كلُّ واحد منهم يقوم بدورٍ تحفيزيٍّ للآخر؛ لا نستطيع أن نُسقط أحد هذه الأضلاع الثلاثة من المعادلة ونقول إنها كاملة. الكاتب يحتاج إلى أن يرى عمله في كتاب/فيلم/أغنية/رقصة/موسيقى؛ لكي يستطيع أن يُقَدِّم عملًا آخر، بل إن وجود القارئ هو أحد أسباب استمرار وتطوُّر العملية الإبداعية؛ إذ يقوم بعمل المحفِّز والمقوِّم طَوال الوقت، فبدون نصوص سابقة، لم يَكُنْ من الممكن أن نرى نصوصًا أكثر تطوُّرًا، لتستمر تروس الآلة الإبداعية في الدوران والتجديد.
عزيزي الكاتب … كلنا قُرَّاء.

10‏/11‏/2017

عنكبوت في القلب


لم تحب ميرفت شيئاً في حياتها مثل العناكب والقطط الضالة والتماسيح وآثار الأقدام الحافية على الرمال ومشاهدة الكتاكيت الصغيرة، وبنسات الشعر الملونة.

لم تستطع أن تقتني تمساحاً في البيت لضيق المكان، فرتبت الأركان بيوتاً آمنة للعناكب. تدق على أبواب شقق الجيران وهي تمسك في يدها ممسحة الجدران، تقول لهم وهي تبتسم خجلاً: هل من الممكن أن أنظف الجدران؟، وقبل أن يجيب أحد تكون قد أصبحت داخل الشقة بالفعل، ترفع عصاها إلى ركن الحائط، وتلفها بحرص حول بيوت العناكب الموجودة. وعندما لا تجد تهز رأسها آسفة مصدومة وتغادر من دون حرف واحد.

"الفتاة الطيبة، التي تحب النظافة بجنون، لدرجة أنها تنطف جدران جيرانها"، هكذا يلقبونها. ينطقون الجملة هكذا مرة واحدة دون نسيان حرف أو تقديم كلمة على الأخرى، لكنهم لا يعرفون أنها تخرج بسرعة من منازلهم، ليس تأدباً فقط، أوحرجاً من الفانلات الداخلية التي يرتديها الأزواج، لكن خوفاً على العناكب من الموت. تدلف بسرعة إلى غرفتها، تقرفص على الأرض، وتخرج العناكب من طرف المنفضة، وقد تضمد ذراع أحدها، إذا كان قد أصيب، وهي تعتذر له، ثم تضعه في مرطبانات بلاستيكية أعدتها لهذا الغرض.

وحتى لا يقول أحد أن ميرفت تقتل أو تسجن العناكب، أرد  بثلاث توضيحات؛ الأول: أنها حاولت اختراع آلة لالتقاط العناكب من الأركان دون أن تؤذيها إلا أنها لم تستطع تشغيلها. الثاني: أنها فشلت في أن تحصل للآلة على براءة اختراع لها من أكاديمية البحث العلمي. الثالث: أنها تترك المرطبانات ليلاً مفتوحة، لأي عنكبوت يريد أن يخرج للتريّض.

أما بنسات الشعر الملونة، التي لا تحب أن تضعها في شعرها، فقد ملأت بها مرطباناً كبيراً، كما صنعت منها خريطة كبيرة للعالم على حائط غرفتها، كل دولة بلون، تقف لتتأملها كل يوم، وتقرر أن تزور دولة جديدة بلون جديد، فتبدأ البحث عن المزيد من البنسات لتملأ مكانها على الخريطة.

ميرفت لا تملك الكثير من المال لتنفقه على هوايتها، لذا تلجأ أحياناً لأن تمسك أعلى بلوزتها بيدها، وتوقف فتاة صغيرة في الثانوية العامة عائدة من درس الرياضيات، ثم:

ـ ممكن بنسة؟ زر البلوزة سقط مني.

وقبل أن تمد الفتاة يدها إلى حجابها، تكمل ميرفت:

ـ أريد الزرقاء.

لكنها، والله، ليست لصة، لم تمد يدها إلا مرتين فقط، أقصد ثلاثة، إلى بنسة ملونة في شعر الفتاة التي جلست أمامها في الحافلة، وهي عائدة إلى غرفتها، أعلى إحدى البنايات التي تطل على خط المترو في أول شارع فيصل.

ميرفت لا تحب السرقة، لذا اتصلت بالشيخ الملتحي الذي لا تعرف اسمه، لكنه يظهر أسبوعياً على قناة "دريم"، لتسأله عن حكم السرقة في لعبة "المزرعة السعيدة" على فيس بوك. لم يفهم الرجل الذي لا يعرف كيف تكون السرقة الإلكترونية، ولم يستوعب شرحها أن هذا جزءاً من آلية اللعبة، أي أن تسرق من مزارع جيرانك كي تستطيع أن تشتري بذوراً جديدة، وأن هذه سرقة متبادلة. اليوم تسرقني وغداً أسرقك. الرجل الذي يحاول أن يبدو وقوراً ظن أنها تسخر منه، فأغلق المعدون الهاتف في وجهها، عندما رأوا عروق وجهه نافرة من شدة الغضب.

ميرفت تخاف الله، لذا تركت أول عمل لها في حياتها، في محل خردوات، خوفاً من أن تمد يدها إلى علبة البنسات الملونة. سمعت الشيخ يقول ذلك في المسجد، هو لم يتحدث عن البنسات تحديداً، لكن كما تعلمون فالحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات ‏استبرأ ‏ ‏لدينه وعِرضه، لذا قررت أن تقطع رزقها بيدها وتبحث عن عمل آخر.

لم تجد العمل الذي حلمت به وهي صغيرة، وأضحك عليها الفصل كله، عندما وقف المعلم أمام السبورة وأشعل سيجارة سوبر وشد شعرة في أذنه نظر إليها في تعجب، ثم سأل الطالبات عن الوظائف التي يحلمن بها عندما يكبرن، فردت عندما حان دورها: حارسة بيت الزواحف في حديقة الحيوانات. المعلم لم يعلّق لأنه غالباً لم يفهم، وزميلاتها ضحكن بشدة دون خوف من عصا مستر ناصر وتوبيخه. أما هي فتذكرت الرحلة الوحيدة التي خرجت فيها مع زميلاتها أيام المدرسة إلى حديقة الحيوانات، وهناك وقفت مشدوهة أمام بيت الزواحف.

يومها عشقت التمساح، بحراشفه التي تقيه النظرات المتطفلة التي تعاني منها دائماً، بمكوثه الدائم تحت الماء هرباً من الساخرين، بفمه الواسع الذي يتيح له أن يقول كل الكلام الذي في جوفه مرة واحدة دون أن يخبئ شيئاً أو يجبره لوم الناس على الصمت، وحين عادت إلى المنزل في ذلك اليوم، لم تستجب لنداء أمها لتناول العشاء، وهرولت إلى حقيبتها، أخرجت كراسة الرسم، قطعت ورقة من المنتصف ورسمت تمساحاً بعرض الصفحتين، يبتسم، لونته بالبنفسجي والأخضر والأصفر. قطعت الورقة وعلقتها على حائط غرفة نومها، واصطحبتها معها بعد ذلك إلى كل مكان ذهبت إليه.

هل ميرفت غريبة؟

ترد على من يصفها بذلك بهز كتفيها، ومط شفتيها. لكن جميعهم يقولون ذلك، وكأنهم اتفقوا عليها.

عموماً، لا أحد يستطيع أن يقول لها شيئاً الآن، بعد أن كبرت، وأصبحت آراء الجميع بالنسبة لها مثل بقايا طبق الأرز المحترق الذي تسكبه كل يوم في سلة المهملات، ففي غرفتها أعلى تلك البناية الحقيرة في أول شارع فيصل تستطيع أن تفعل ما تشاء، تربي كلاباً أو ثعابين أو دوداً كما تشاء، هي حرة، ستتحمل نظرات النجار أسفل المنزل، والأرملة التي تمصمص شفتيها كلما رأتها داخلة أو خارجة، والمرأة الممتلئة في الدور الثاني، وتواصل صعودها إلى حجرتها على السلم الضيق المظلم، تغلق الباب خلفها جيداً، وتبدأ حياتها الحقيقية.

.......................

فصل من رواية تصدر قريباً

نشر بـ أوكسجين

 

محمد أبو زيد: قصيدة النثر ليست نهاية المطاف.. وهناك تطور قادم


حاوره: علي رزق

الغربة والفقد.. تيمتان شعريتان طالما أثريتا المنجز الإبداعي لعدد كبير من الأسماء اللامعة، لكنهما عند الشاعر محمد أبو زيد عماد مشروعه الشعري الذي ولد مكتملا أو شبه مكتمل مع ديوانه الأول "ثقب في الهواء بطول قامتي"، لتأتي أعماله اللاحقة لتؤسس للمشروع ولفرادة الصوت الشعري.

لأبو زيد ـ بخلاف تجربة وحيدة في الرواية "أثر النبي" ـ تجربة شعرية للأطفال "نعناعة مريم"، ويواصل أبو زيد خطواته الشعرية راسماً مساراً يخص  الذي لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، كما يقول في إحدى قصائده.

التجديد على مستوى "المفردة" كان سمة ملازمة  لكتابات أبو زيد، وصولاً إلى منطقة قد لا يخاطر الآخرون  بارتيادها، فهو الأزهري الجنوبي المثقل بالموروث اللغوي الذي يكتب قصيدة بعنوان no news is good news ،  وهو الذي يختار المفردة القرآنية "مدهامتان" عنوانا  لقصيدة وديوان، ولا يتورع بعنونة قصيدة "أعلق صورتي على الحائط وأكتب تحتها wanted.

خطا أبو زيد سريعا على طريق الغياب ليترسخ حضوره الشعري في مشهد صاخب، ولتكتسب تجربته الكثير من الأهمية رغم وحدته، في القصيدة وفي الحياة العامة.


**أبوزيد ..متي خلعت زيك الازهري ..وما الذي بقي منه في قصيدتك؟

لم أخلع زيي الأزهري بعد. ربما لأنه منحني اللغة والفهم العميق للتراث والقراءة المتأنية لتاريخ الأدب العربي. ستجد ذلك كله في معظم دواويني، ربما قلت وطأته قليلاً، لكنه لا زال موجوداً. في ديواني "مدهامتان" وضعت صورة تعريفية لي على الغلاف الداخلي، وأنا بعد طفل أرتدي الزي الأزهري، ربما تصلح هذه الصورة التي استعدتها أن أقول أنني ممتن لهذا الزي الذي منحني الكثير، وربما كان أيضاً رغبة في الاشتباك معه، وهو ما جعل الديوان يقفز بين أنواع القصيدة الثلاث (العمودي ـ التفعيلة ـ النثر)، اسم الديوان نفسه "آية من القرآن الكريم". إذن ربما لم أخلع زيي الأزهري، لأنني أرى أنه أفادني كما أنه يميزني، لكنني سعيت ـ وأطمح أن أكون نجحت ـ في أن أطوره عبر الاشتباك تارة، والقفز عليه تارة، ومحازاته تارة أخرى.

 
**قلت في واحدة من شهاداتك ان "صدمة المدينة " لم تستوعبها الا قصيدة النثر " رغم سابق كتابتك للقصيدة الخليلية والتفعيلة ..ما هو الفضاء الذي وجدته في قصيدة النثر ولم تجده في غيرها ..وما الذي بقي في القلب من صدمة المدينة ؟

الكتابة ـ أياً كان شكلها ـ تتغير وتتطور، لأنها مرآة للزمن. ولن يكون منطقياً أن تتوقف القصيدة ـ شكلاً ومضموناً ولغة ـ عند زمن معين. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على قصيدة النثر،التي لن تكون الشكل الأخير للقصيدة، هناك تطور قادم، هناك محاولات مختلفة في اتجاهات متباينة، شاهد مثلاً القصائد التي تكتب عبر حسابات التواصل الاجتماعي، تويتر على سبيل المثال، عدد كلماتها، آليات كتابتها، وحتى آليات تلقياتها. عندما جئت المدينة أول مرة قفزت قفزة هائلة عبر الزمن يدركها كل من انتقل من قرية فقيرة إلى عاصمة لا تسكن أبداً. لم تكن القصيدة التفعيلية بغنائيتها صالحة لهذا الصخب، بل كان صراخ قصيدة النثر هو العكاز الذي أستند إليه في مواجهة وحوش تختلف تماماً عن كل ما رسمته مخيلتي من أحلام. لكن مع مرور الوقت، ومع اعتياد القلب على الهزائم الأسمنتية، تصبح القصيدة هي حائط الصد الوحيد، بعد أن تعتاد غربتك، بعد أن تتآلف معها، وبعد أن تجرب غربة أخرى، في المكان والزمان، في بلاد أخرى، لا تتبقى إلا القصيدة التي تجبر شيئاً يتحطم فيك كل ما انتقلت من زمن ومكان إلى آخر.

 
** عندما تلجأ الي مفردة قرآنية او تراثية ..فهل يعني هذا غلبة "سفر التكوين " علي الشاعر المتمرد ..وكيف هي علاقتك بالمفردة الشعرية اجمالا؟

هذا تراثي وأنا أعتز به وأحبه، وأفضل أن أطوره على أن أتركه مهملاً، هذا لا يعني أنني أحضر مفردات معجمية مهجورة من التراث وأضعها كما هي، بل أحياناً أستخدم مفردات مهجورة لأنها شديدة الاستخدام، أو لأنها "أكليشيه"، وأعيد وضعها في النص في سياق مختلف. لا أرى أن هناك أي مفردة ـ سواء كانت عامية أو فصحى أو حتى بلغة أجنبية ـ لا تصلح للشعر، لكن السؤال هو كيف يتم استخدامها.


** مازلنا مع المفردة ..والسؤال عن تطعيم الجملة الشعرية بمفردة عامية "قلبي مربوط برجل الكنبة " أو انجليزية مكتوبة بالأحرف اللاتينية وهذا كثير في شعرك

أهتم بتشكيل النص عموماً، بمعنى أنك لو نظرت لكل ما كتبت من بعيد، ستجد أن هناك نصوصاً في الدواوين المختلفة مرتبطة ببعضها، وشخصيات تظهر في الدواوين بصفة متكررة، ولو نظرت لكل ديوان على حدة، ستجد اهتماماً ببناء الديوان ككل، سواء عبر التقسيم أو الترقيم، أو الهوامش والإشارات والمراجع، ولو نظرت إلى كل نص على حدة، ستجد اهتماماً بالعناوين بصفة خاصة، وبإعادة تقديم المفردات المتداولة بشكل شعري، أو بدمج العامية مع الفصحى، وتقديمها بشكل شعري، وأعتقد أن المفردة ـ وهي أصغر وحدة في النص ـ ينطبق عليها كل ما سبق، فهي بمثابة اللبنة التي تكون بجانب لبنة أخرى جملة مختلفة مميزة. لا أقول إن كل هذا مقصود عند كتابة القصيدة، لكني أعتبره جزءاً من مشروع كبير أعمل عليه.


..شاعر يفقد ذاته ..بضعا تلو الاخر

** في القصيدة وفي بعض الحوارات تحدثت عن معاناة الفقد المتتالي ..فهل تراه ــالفقد ــ وحشا صارعك فصرعك ، أم حفرة وثقبا اسود يبتلع الاحبة وينعكس في القلب ؟

لم تعد هناك وحوش تخيف. أعتقد أنني فهمت لعبة الموت مبكراً، ربما بسبب رحيل الأحبة في عمر مبكر، فلم أعد أخافه، ورغم حضور الموت ـ والفقد بالتالي ـ في كل الدواوين،  بداية من الديوان الأول ـ ثقب في الهواء بطول قامتي ـ إلا أنه لم يحضر بصفته وحشاً، بل بصفته صديقاً، أتحاور معه، ربما يمكن اعتبار الأمر خدعة، كي لا يخطف أحبة آخرين، ففي كل مرة يفعل ذلك يترك ندبة سوداء كبيرة في القلب، لا تلتئم أبداً، لكنها تجعل الأيام أثقل وأكثر سوداوية، وتجعل الموت ذاته رفيقاً دائماً، لا تخافه، لكنك لا تأمنه في الوقت نفسه.


**هل يعتاد المرء الفقد يوما ؟

في أحد نصوص الديوان الأخير أقول إن "الصدفة تأتي في موعدها كل أسبوع"، أعني أنك حتى لو اعتدت الفقد سيظل فقداً، يؤلمك، ويحفر جرحاً عميقاً في روحك، ربما تعتاد الجراح، لكنك ستظل تتألم. لكن أقسى ما في الأمر أن كل هذه الأشياء/ الأشخاص الذين تفقدهم يكوّنون ذاتك، حكاياتك، أيامك، فتكتشف أنك تفقد نفسك يوماً بعد الآخر، حتى تتلفت يوماً فلا تجد أحداً حولك، وإذا ما نظرت في المرآة فلن ترى شيئاً.


** كيف تري الفارق بين الفقد كواقع تراجيدي وبين الغياب كونه حالة إنسانية ؟

الغياب قد يكون اختيارياً، أن تختار أن تنسحب من العالم، قد يكون رد فعل يائس أخير على الفقد..


** انتهت ــ او لعلي اري هذا وحدي ــ لعبة الأجيال الشعرية فكيف تري ما قد يكتبه تأريخ الشعر عنك وعمن يكتب الشعر منذ بداية الالفية الثالثة ؟

أعتقد أن مفهوم الأجيال ـ أو هكذا أتصوره من وجهة نظري ـ مرتبط، بعلاقة الكتابة بالزمن، وبالمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واللغوية وانعكاسها على الكتابة، حتى لو لم يبد ذلك محسوساً بشكل كلي، بمعنى أنك سترى آثار نكسة 67 في كل دواوين جيل السبعينات، حتى لو لم يكتبوا عنها صراحة. بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه، أعتقد أن الأمر تغير بشكل كبير، فمفهوم الجيل أصبح يتجاوز المحلية، وأصبح عربياً وعالمياً بسبب انتشار الإنترنت والانفتاح عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدامها في الترويج، والتواصل بين شعراء من دول عربية مختلفة عبر فيس بوك أوتويتر، وهنا يمكنني أن نطلق على هذا مصطلح "عولمة الشعر"، ورغم ما له من فوائد مثل الاطلاع على تجارب أخرى في بيئات أخرى، إلا أنه يسمح بظهور ظواهر غير حقيقية. ويُغيّب الخصوصية الثقافية في بعض الأحيان، ولهذا تجد قصائد كثيرة متشابهة، أو تستخدم مفردات أو صور متشابهة تظهر في بعض الأحيان، وكأنها "موضة" شعرية،  لكن بالنسبة لي لا أعرف ما الذي سيكتبه  تأريخ الشعر عني، لكن بالنسبة للجيل الجديد، فأعتقد أنه سيحدث نقلة نوعية في الشعر، تشبه تلك التي حدثت في الستينات مع  الانتقال من التفعيلة للنثر، وإن كان في اتجاه آخر.


** ما الذي يدفع شاعرا لارتياد تخوم السرد والدراسة والنقد أحيانا ؟

عندما تتأمل تاريخ الأدب العربي، لن تجد تلك الفوارق الحادة في الكتابة، بل كان الكاتب الموسوعي هو المثال، يعني ستجد العقاد يكتب الشعر والنقد والدراسة والرواية، وكذلك المازني، وحتى في التراث العربي ستجد الأمر ذاته عند الأصفهاني الذي كان كاتبا موسوعياً على سبيل المثال. ولا أرى ضرراً في التنقل بين أصناف الكتابة، بالنسبة لي أو لغيري ، ما دام الكاتب يملك أن يفعل ذلك بشكل مقبول.


**الي أي مدي قد تشعر بالضغينة تجاه  من يقسمون علي تراجع المنجز الشعري المصري مقارنة بنظيره العربي مع تسيد قصيدة النثر للمشهد

بداية، لا أشعر بالضغينة تجد أحد، لكن يمكن القول إن هناك رؤى مختلفة حول هذا الأمر، ورؤيتي أن الشعر المصري يتقدم كثيراً على يد الجيل الذي تلاني، الذي استغل وسائل التواصل الاجتماعي للانتشار والتواصل عربياً، وقراءة الترجمات، وتداول الكتب إلكترونياً. هناك أسماء شعرية مهمة، وهناك حركة شعرية نسائية مصرية لافتة بالمناسبة، وعاد الشعر على يد هذا الجيل ليحتل مكانته بعد أن ظل نقاد الجيل الماضي يرددون أن هذا زمن الرواية،  أراهن أن الجيل الجديد من الشعراء سيصنع نقلة كبيرة في الشعر، والزمن خير شاهد. أما بالنسبة للحديث عن قصيدة التفعيلة أو النثر، فأعتقد أن هذا حديث تجاوزه الزمن والعالم منذ زمن، ولا أرى من يجددون الجدال حوله إلا يعيدون ما قيل،  دعوا "الشاعر" يكتب، واستمتعوا بالشعر، ثم احكموا.

............

نشر في جريدة القاهرة

 

محمد أبو زيد: مواقع التواصل أوجدت عشرات الكُتّاب المزيفين


القاهرة: رحاب عبد العظيم

محمد أبو زيد كاتب تنوعت إسهاماته بين الرواية والشعر والنقد والمقالات الصحفية؛ حيث يثبت تميزه في كل منها، بدأ الكتابة منذ عامه الأخير في الجامعة، حين صدر له أول دواوينه: «ثقب في الهواء بطول قامتي» عام 2003، ليواصل كتاباته وتميّزه في «قوم جلوس حولهم ماء» عام 2006، كتاباته تواصلت في الشعر للكبار، وللصغار أيضاً، ككتابه في شعر الأطفال «نعناعة مريم»، كما طرق باب الرواية ب «أثر النبي» عن دار شرقيات عام 2010، وأخيراً كتابه النقدي «الأرنب خارج القبعة». هنا حوارنا معه.

*ما الذي دفعك لكتابة «روشتة الفشل في الكتابة» في كتابك الأخير «الأرنب خارج القبعة»؟

- الضد يظهر حسنه الضد، كما قال الشاعر القديم. في ظني أن «روشتة الفشل في الكتابة»، تكشف عن أحد أسباب ضياع أجيال كاملة من الكُتّاب، أو اختفائهم، رغم أن بعضهم ما زال يكتب، لكن بلا أثر يذكر. «روشتة الفشل في الكتابة»، هي رسالة إنذار لنا جميعاً ككتاب، حتى لا نتوقف عن الكتابة، أو حتى لا نكتب شيئاً لا يمكن أن نسميه كتابة جادة بأي حال من الأحوال. عدد من الأصدقاء - ممن كانوا يطمحون أن يكونوا كُتّاباً في زمن قبل أن تجرفهم تصاريف الحياة إلى الانشغال بالعمل قالوا لي، إن ما ذكرته في هذه «الروشتة»، ينطبق عليهم، وأن هذه الأسباب كانت بالفعل سبباً في ابتعادهم عن الكتابة. يمكنك أن تقولي إن «روشتة الفشل في الكتابة»، هي تحذير للكُتّاب، ولي قبلهم، حتى أتمسك بالحبل السري للحياة، ذلك الذي يُسمى الكتابة.

*هل ينافس الأطفال «المرأة» في عالم الإلهام أم أن لكل منهم أثره في ذهن الكاتب؟

- التجربة بشكل عام هي الملهم الأول، بعضهم تلهمه تجربة الحروب، وبعضهم الآخر يلهمه الحب، بعضهم قد تلهمه صورة، أو حادث، أو لا شيء، على الكاتب أن يستعين بأدوات الطفل في التعامل مع العالم، كي يتعامل مع كتابته؛ حيث اكتشاف العالم كأنه مخلوق للتو، كأنه قطعة من الحلوى، فضها خلسة دون أن يراه أحد، كأن كل شيء حوله لم يحدث من قبل، وأنه يصنعه بنفسه. هنا يمكن القول إن الطفل هو معلم الكاتب في كيفية صناعة عالم مثالي، لا يبارى في الكتابة.

*تحدثت عن أهمية الكتابة، فهل أنت راضٍ عن سيل الكتابات التي تشهدها دور النشر مؤخراً؟

- الزمن خير مصفاة للكتابة، لو أحضرنا جرائد الخمسينات والستينات، وتصفحنا صفحات الثقافة فيها لوجدنا عشرات الأسماء التي اختفت، ولم يبق إلا من يملك مشروعاً حقيقياً، ومن يستطيع الصمود في وجه الضغوط المجتمعية، التي تدفع كل فرد بعيداً عن الكتابة، ولو جربت مثلاً أن تتذكري أيام الدراسة الجامعية، لوجدت عشرات الزملاء، الذين كانوا يقدمون باعتبار أنهم شعراء الجامعة، في النهاية لا يبقى إلا الشيء الحقيقي الجاد، والمشروع الطموح. ربما ساهمت بعض دور النشر، التي تسعى للربح فقط، في الفترة الأخيرة، في زيادة الأزمة، عن طريق نشر كتب لكل من يريد أن يجمع أوراق مراهقته في كتاب، وربما ساهمت بعض المكتبات في ذلك بسيل حفلات التوقيع، لكن منذ متى كان النشر أو حفلات التوقيع، أو حتى الشهرة دليلاً على جودة الكتاب. قبل عقدين من الزمان، كان هناك كاتب وضع اسمه على معظم جدران شوارع القاهرة، ومنح نفسه لقب «أديب الشباب»، وباع آلاف النسخ، أين هو الآن؟ الحكم للزمن. ولن يطول الأمر.

*هل تسهم الصحافة الثقافية في أي حراك بالمشهد الثقافي الحالي؟

- وأين هي الصحافة الثقافية أصلاً في مصر؟ لا توجد صحافة ثقافية، لأنه لا توجد صحف تهتم بالثقافة، أول ما يفعله رئيس تحرير أية صحيفة عندما يعد ملفاً عن أي حدث، أو عندما يحصل على إعلان، هو أن يقوم بإلغاء صفحة الثقافة، بل كادت صفحات الثقافة ألا تكون موجودة طوال الخمس سنوات الماضية، بسبب الأحداث السياسية، أما إذا كنتِ تتحدثين عن المجلات الثقافية، فيمكن عدها على أصابع اليد الواحدة، ولا أعتقد أنها ستحدث أي تأثير وسط هذا العدد الكبير من المبدعين، الذي نراه كل يوم، هناك مواقع ثقافية إلكترونية، لكن معظمها يتعرض للإغلاق، بسبب ضعف التمويل. المشكلة أن الجميع ينظر إلى الثقافة كرفاهية، من مسؤولين إلى صحفيين إلى قراء عاديين، لا يعرفون أنه لا يمكن إصلاح هذه البلاد إلا بإصلاح وتنوير عقول شعبها ومسؤوليها.

*هل تراجع الدور الذي تلعبه المدونات الإلكترونية؟ وما البديل الذي طغى عليها وعلى دورها؟

- كنت من أوائل الذين لجأوا إلى المدونات للنشر، ولإيجاد مكان بديل لكي نقول فيه شيئاً مختلفاً، كان ذلك قبل 11 عاماً تقريباً، وخلال هذه السنوات أستطيع أن أقول إن المدونات كاد ينتهي تأثيرها تماماً، ما زالت موجودة، لكنها غير مؤثرة، لأن المدونين لجأوا إلى منصات إلكترونية أخرى أكثر تأثيراً أو تخصصاً، سواء كانت للتدوين القصير ك«تويتر»، أو تدوين الصور ك«إنستجرام»، أو تدوين الفيديو ك«يوتيوب»، أو كتدوين اجتماعي مثل «فيسبوك»، وأعتقد أن ما حدث هو طبيعة الحال، فالمدونات نفسها ظهرت على أنقاض ما كان يعرف بالمنتديات، لكن الحقيقة أنها كانت تمنحنا مساحة للبوح أكبر من التي تمنحها المنصات الجديدة، كما لم يكن هناك أي اهتمام كبير بالكتابة من أجل «اللايك»، أو رد الفعل، أو المزيد من الإعجابات والمتابعات. كانت الكتابة المفتوحة في بدايتها، بكراً، لم يلوثها هوس الإعجابات، هناك عودة من قبل بعضهم للمدونات، ممن أدركوا ذلك، وممن يبحثون عن الهدوء، والخصوصية، والأرشفة أيضاً، بعيداً عن صخب وجنون «السوشيال ميديا".

*ما نقطة التميز التي حملتها مواقع التواصل الاجتماعي للكُتّاب، وهل تسهم في وأد بعض الأفكار لدى أصحابها؟

- نقطة التميز، التي حملتها بشكل عام، أنها أعطت المساحة لكل شخص ليعبر عن ذاته، أن يكتب، أنها ساهمت في إيجاد مساحة لعدد كبير من الشعراء والكُتّاب الجيدين، ربما لم تكن ستتوافر لهم لو انتظروا النشر الورقي أو الحكومي، أنها قربت بين الشعراء في الأقطار المختلفة، لكنها في المقابل أوجدت عشرات الكُتّاب المزيفين، ممن ظنوا أنفسهم من الكُتّاب المجيدين لمجرد أن عشرات الإعجابات تنهال على ما يكتبونه من أصدقائهم؛ لذا فالفرز مهم. وهو أيضاً متروك للزمن، ولإدراك الكاتب ألا تسحبه دائرة الكتابة للدائرة الضيقة، التي تحييه على كل ما يخطه، سواء كان غثاً أم سميناً. أما سؤالك حول إذا كانت تساهم في وأد بعض الأفكار لدى أصحابها، فهذا يتوقف على الكاتب نفسه، وهل يستخدم هذه المواقع كبوابة للنشر، أم كحائط يعلق عليه كل ما يقوله، وهو ما يحوله في النهاية إلى بحر عملاق يسحبه إلى الداخل، يشبه إلى حد كبير كتاب المقاهي وسط البلد، الذين تسحبهم إلى عالم النميمة فيغرقون فيها، ويتحولون إلى جنرالات للمقاهي، يطلقون الأحكام، وينسون الكتابة.

..............