03‏/06‏/2013

الله الذي لا تعرفونه

يحكي الكاتب اللبناني إياد أبو شقرا أن صديقاً له باكستاني الجنسية تخرج في جامعة كمبريدج، وغدا محامياً لامعاً في لندن قال له ذات يوم خلال دردشة: "هل تعرف يا سيدي لماذا تتمحور السياسة عندنا في باكستان حول الله عزوجل؟. فأجاب إياد بعفوية: "طبعاً، باكستان بلد إسلامي، وعلى الله فليتوكل المؤمنون".
لكن كان رد المحامي الباكستاني هكذا: "لا.. لا.. لا تذهب بعيداً، السبب هو أنه وحده القادر على حل مشاكلنا العويصة".
لماذا أحكي هذه الحكاية؟ لأنه يبدو أن مصر ليست أفضل حالاً من باكستان، فهي دولة مسلمة أيضاً، بل صار الدين فيها يلعب دوراً محورياً، بل امتزج الدين والسياسة حتى لا تكاد تعرف الفرق بينهما، وتعاني من مشاكل عويصة الله وحده القادر على حلها.
لكن المشكلة الحقيقية التي لا يدركها المصريون أن الله لم يترك متحدثاً باسمه في أرض مصر، وعاشت مصر عقوداً طويلة تعبد الله دون أن يكون ذلك سبباً في القتل والتدمير، ورغم ذلك فكل فصيل سياسي في مصر الآن يزعم أنه المتحدث الرسمي باسم الله، وباسم الإسلام، وأن ما يدعو إليه هو الدين الحق، وما دونه هو الباطل والضلال.
الحديث باسم الله هو السبب فيما يحدث الآن في مصر، هو السبب الذي يجعل جماعة الإخوان المسلمين ترفع شعار "الإسلام هو الحل"، وهو السبب الذي يجعل السلفيين يرفضون قرض صندوق النقد الدولي "لأنه ربا"، وليس لأنه يضر بمستقبل البلاد، وهو السبب الذي يجعل القوى المدنية ترى الإخوان يتاجرون بالدين، وهو السبب في أحداث الكاتدرائية والخصوص وإمبابة والعامرية وكنيسة القديسين، وهو السبب في ظهور الجماعات الجهادية في سيناء، وهو السبب في وصول محمد مرسي إلى الحكم، لأنه "راجل عارف ربنا"، هو السبب في العلاقات المتوترة مع إيران لأنها ستنشر "التشيع"، هو السبب في أن تحولنا بعد 14 قرناً من دخول الإسلام مصر إلى مسلمين وكفار، ومن معي فهو مسلم ومن ضدي فهو كافر، وهو السبب في اغتيال أنور السادات لأن هناك من كفروه وأحلوا دمه، هو السبب في الاقتتال الداخلي في مصر طوال عقدي الثمانينات والتسعينيات بين الحكم والجماعة الإسلامية، رغم أن الله لم يأمر بكل هذا.
منذ قررنا أن نقسم الإسلام إلى أديان عدة بحسب توجهاتنا الأيديولوجية، والاقتتال لم يتوقف، كل شخص يرى نفسه آخر الأنبياء، وإن لم يكن كذلك فهو يتبع آخر الأنبياء، سواء كان هذا النبي اسمه حسن البنا أو حازم أبو إسماعيل أو محمد البرادعي أو حمدين صباحي.
لم ينته عصر الأصنام مع فتح مكة، فالأصنام ليست مجرد تماثيل من الحجرة، بل هي أفكار، تطورت التماثيل لتصبح أشخاصاً يعبدها من يحكمون الدين في حياتهم، فأصبح هناك "عبد المرشد"، و"عبد البرادعي"، وتوارى الوطن بعيداً عن هؤلاء، فلاشيء اسمه الوطن، عادينا بعضنا البعض لأن كل شخص يملك مفتاح الجنة، ويملك صك الحقيقة، ويملك الحكم على الآخرين بالكفر.
هل عرفتم لماذا أصبحنا مثل باكستان، ولماذا أصبح الله وحده القادر على حل مشاكلنا، رغم أن الإسلام يقول "الدين المعاملة"، والمسيحية تقول "الله محبة".

إرهابيون ونفتخر

بمجرد أن أعلنت وكالات الأنباء الأمريكية عن وقوع تفجيرين في بوسطن، وقبل أن يتم الإعلان عن أن الانفجارين نتاج فعل إرهابي، قفزت التحليلات لتؤكد أن من فعلها "مسلمون".
التحليلات والاتهامات لم تكن أمريكية فقط هذه المرة، بل كان أول ما طاف بذهن كل إنسان على سطح هذا الكوكب، هو أن تنظيم القاعدة فعل شيئاً جديداً، أو أن متطرفين إسلاميين فعلوها مجدداً كما فعلوها من قبل في 11 سبتمبر 2001 بتدمير برجي التجارة، ثم فعلوها بتفجيرات 11 مارس 2004 بمدريد، ثم فعلوها بتفجيرات 7 يوليو 2005 في لندن، وغيرها كثير من عمليات إرهابية استهدفت أرواح الأبرياء دون أي ذنب.
فعلى الرغم من التوتر السياسي ما بين أمريكا وكوريا الشمالية، وتهديد الأخيرة بضربها بالصواريخ النووية إلا أن الاتهام لم يطل كوريا أبداً، بل انتقى المسلمين، والعرب وحدهم، وهو ما ثبت بعد أن اتضح في النهاية أن المتهم في التفجيرين شيشاني مسلم، متزوج من أمريكية أسلمت وترتدي الحجاب.
كل العرب والمسلمين فكروا أن من فعلها "مسلمون"، بعضهم فكر في أنه لن يستطيع السفر إلى أمريكا مرة أخرى، وبعضهم فكر في التضييق الأمني في المطارات، بعضهم فكر في أن أمريكا قد تنتقم مرة أخرى مثلما فعلت في أفغانستان والعراق، مع الأخبار المتواترة عن حريق في مكتبة كيندي وإرسال مادة سامة إلى أوباما تذكر بالجمرة الخبيثة، لكن أحداً لم يفكر أو يتساءل لماذا أصبحت وصمة الإرهاب تطارد المسلمين في كل مكان، على الرغم من كل الدماء التي دفعها أطفال ونساء وشيوخ المسلمين في أفغانستان والعراق، ولماذا أصبحت التفجيرات والسيارات المفخخة حكراً على العقلية الإسلامية، ولماذا أصبحنا في التاريخ نحمل وشم "قتلة الأبرياء" كأنه العار.
إذا  لم يكن بإمكاننا أن نغير الصورة الذهنية للعرب والمسلمين في العالم التي تسبب فيها تنظيم القاعدة، وأفرعه المختلفة  في العراق وبلاد الرافدين والشام والمغرب العام، فبإمكاننا أن نغير المستقبل، لكن يبدو أننا لسنا حريصين على ذلك ولا نريد، فمن يتأمل ما يحدث في العالم العربي من اضطرابات سياسية بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم، لن يغير فكرته عن "العربي الإرهابي"، بل سيزيدها أكثر، ولعل ما حدث مع السفير الأمريكي في ليبيا بعد الفيلم المسيء للرسول أكبر دليل على هذا،  ناهيك عما يحدث في العراق من تفجيرات طائفية ومن مواجهات في مالي، ولعل الاضطرابات اليومية في مصر وليبيا وتونس، دليل يومي، حتى لو كان بعضه غير حقيقي، على أننا لا نريد أن نغير الصورة.
لكن الدليل الأبرز والأمر، هو إعلان جبهة النصر في سوريا، والتي تقاتل في صفوف المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد، انضمامها لتنظيم القاعدة، وهو ما يضع الثورة السورية في مأزق حقيقي، ويعضد ما يقوله الرئيس السوري من أنه يحارب الإرهابيين، ويجعل المواطن العادي يسأل نفسه في حيرة: هل يؤيد بشار الذي يقتل الأطفال أم يؤيد من ينتمون للقاعدة؟،  ما الذي تتوقعه إذن من العالم عندما يعلم أن "ثوار سوريا"، أحد فصائل تنظيم القاعدة، وكيف سينظر هذا العالم إلى ثورات دول الربيع العربي؟ كيف سيفكر فيها؟
سنظل إرهابيين لأننا أصبحنا كذلك في نظر أنفسنا، ولن يغير العالم نظرته لنا حتى نثبت العكس، ويبدو أن هناك من لا يريد للأسف.

كابتن سمير

لا أعرف لماذا تلح علي كثيراً هذه الأيام مجلة "سمير"، بالتحديد العدد الشهري منها الذي كان يصدر باسم "كابتن سمير". الأمر ليس له علاقة بالحنين إلى فترة الطفولة، ولا بما تردد عن إيقاف المجلة العريقة التي تجاوز عمرها الخمسة وخمسين عاماً، بل بشيء آخر تعلمته منها.
كنت حريصاً على قراءتها في مرحلة الابتدائية وبعض الإعدادية، وكان "كابتن سمير" يقدم أعداداً خاصة يجول فيها في الوطن العربي الكبير، متغنياً بتونس الخضراء وتمر العراق وعراقة دمشق وجبال لبنان وتنوع مصر، وارتباطها بالسودان، وبالوطن العربي الواحد المترابط الذي يشبه البيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً، ظل ما تعلمته داخلي دون أن أنتبه، حتى جاء اليوم الذي أدركت فيه أن كل ما قرأته لم يعد موجوداً، فالوطن العربي لم يعد واحداً، بل دوله ذاتها لم تعد واحدة.
المشهد في السودان تم حسمه مبكراً وأصبح هناك سودانان: السودان وجنوب السودان. تذكرت هذا عندما سألني صديق عن أكبر دولة عربية من حيث المساحة، ولأنني درست في الجغرافيا قبل عشرين عاماً، أنها السودان، أجبت على الفور، ثم تذكرت أنها لم تعد كذلك بعد انقسامها.
المشهد في العراق بعد عامين من انسحاب الجيش الأمريكي لا يختلف شيئاً عن المشهد قبله، ما زالت التفجيرات في المساجد على أساس طائفي مستمرة، الشيعة يفجرون مساجد السنة، والسنة يفجرون مساجد الشيعة، أما عن الأكراد وفيدراليتهم فحدث ولا حرج.
المشهد في سوريا بعد عامين من الثورة ضد نظام بشار الأسد، أسفر عن مقتل أكثر من 70 ألف سوري بحسب تقديرات الأمم المتحدة، بالإضافة إلى نزوح أكثر من 4 ملايين، ما رواه لي أصدقاء قادمين من سوريا يؤكد أن المعارضة، وبالأخص جبهة النصرة، تتعامل، وتقتل بشكل طائفي مع العلويين، وأن الجيش النظامي والعلويين من جهة أخرى يقتلون بشكل طائفي أيضاً، لذا لن أستغرب إذا انتهى الأمر بأن تسيطر المعارضة على جزء ويسيطر النظام على جزء، وتأخذ تركيا جزءاً آخر.
مشهد الانقسام والطائفية ليس بعيداً عن دول عربية أخرى، بل يشبه ناراً تحت الرماد، في لبنان التي تبدو أنها راقدة على أتون مشتعل، والبحرين التي لا زالت تراوح ثورتها، وليبيا التي تشهد اضطرابات قبلية.
الصورة القديمة للحرب الأهلية ليست موجودة في مصر، لكن أصبحت هناك صورة جديدة: إما أن تكون معي أو ضدي، لست مستعداً لسماع صوتك: قل معي نعم أو لا، ولا تقل شيئاً آخر، وإذا لم تفعل فأنت عميل أو كافر أو خروف أو خنزير أو تابع أو أي اتهام آخر يخرجك من دائرة الحوار مباشرة.
الحرب الأهلية في مصر نشهد بروفاتها بشكلها الجديد مرة أمام الاتحادية ومرة أمام دار القضاء العالي ومرة أمام مكتب الإرشاد. فزعنا يوم موقعة الجمل عندما رأينا المصريين يقفون في مواجهة بعضهم، وظننا خطأ أن الأمر سينتهي بعد نجاح الثورة، لنكتشف أن ذلك لم يكن إلا بداية بسيطة لحدث أسبوعي، ناهيك طبعاً عن الاحتقان الطائفي الذي يتصاعد يوماً بعد الآخر، إن لم يكن بسبب حوادث  طائفية فبسبب فتاوى القنوات الدينية، التي لم تقرأ في الإسلام إلا عن النار والعذاب.

لا أعرف ماذا ستقول مجلات الأطفال الآن لأجيال المستقبل، وبأي شيء ستتغنى، أما إذا توقفت مجلة سمير كما تردد، فلن يكون ذلك غريباً، فما تعلمته منها وما غرسته في وجداني وفي عقول أجيال كاملة، لم يعد موجوداً.