26‏/12‏/2012

لماذا قالت الصناديق في الصعيد "نعم" للدستور؟


تاريخيا، كانت منطقة الصعيد بعيدة تنظيميا عن جماعة الإخوان المسلمين، حيث كانت هذه المنطقة واقعة تحت سيطرة الجماعة الإسلامية، بل إن الجماعة الإسلامية تأسست في الصعيد، وينتمي كل قياداتها إلى محافظات أسيوط والمنيا وسوهاج.
في المقابل، لم تكن جماعة الإخوان المسلمين، تراهن على الصعيد كثيرا، وكانت تفضل أن تتحرك في المنطقة الآمنة لها، وهي محافظات الدلتا، وظل هذا الأمر طويلا، حتى بعد المواجهات ما بين الجماعة الإسلامية والدولة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي انتهت بالقبض على كوادر وأعضاء الجماعة الإسلامية في الصعيد، إلى أن انتهى الأمر بمبادرة وقف العنف 1997، وبدء تفعيلها مع مطلع العقد الماضي.
ما الذي تغير إذن في المشهد السياسي، ولماذا انحازت الصناديق في الصعيد إلى صف الإخوان المسلمين في الاستفتاء على الدستور، ومن قبله في الانتخابات الرئاسية في المرحلتين الأولى والثانية، ومن قبلهما في الانتخابات البرلمانية 2011؟ ولماذا أصبح الصعيد أكثر "إخوانية" من محافظة الدلتا، ذات التاريخ الإخواني العتيد؟.
ثمة من يرمي الصعيد بالجهل والتخلف والأمية السياسية، لأنه اختار هذا، وهو اتهام مرفوض، ففي كافة الأحوال يجب احترام رأي من صوتوا، غير أنه في نفس الوقت يجب أن نعرف لماذا قرر الصعيد أن يفعل هذا. توجد إجابتان هنا: هو أن التيار الإسلامي بأكمله، اختار أن يصوت لصالح الإخوان المسلمين، أيا كان موقعه من هذا التيار (سلفي، جماعة إسلامية، إخوان)، والإجابة الأخرى، أن الذين خرجوا من المعتقلات وجدوا أن الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين أقل وطأة وتشددا من الانتماء لحركات راديكالية مثل الجهاد أو الجماعة الإسلامية، رغم أنها تخلت عن ذلك، أو سلفية، وهو ما يحيلنا مباشرة إلى الأزمة الحقيقية التي تعاني منها الجماعة الإسلامية في الصعيد، هو عدم وجود كوادر شبابية في الجماعة التي كانت تسيطر على هذه المحافظات، كما أن المشهد الأبرز في الانتخابات البرلمانية السابقة، كانت اكتساح جماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفي، في حين تراجعت تماما الجماعة الإسلامية، لتأتي في مؤخرة الرابحين، وبالتالي المؤثرين في الشارع.
الإجابتان السابقتان قد نخرج منهما بانتشار جماعة الإخوان في الصعيد، على حساب التيارات الإسلامية الأخرى، لأسباب عدة، لكن هذا لا محمود حسين الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين يرى أن الأسباب التي جعلت أهالي الصعيد يصوتون بـ"نعم"، هي أن يكون المواطن الصعيدي قد قرأ الدستور جيدًا واقتنع به، وإما ثقة فى واضعي الدستور أنفسهم والثقة فى التيار الإسلامي، غير أن السبب الأقرب للصواب، والذي لم يذكره القيادي الإخواني، هو البحث عن الاستقرار، بل إن جل من صوتوا بالإيجاب، كان هذا سببهم الرئيس، حتى محافظات الصعيد "السياحية" فعلت ذلك، وهو ما يمكن تبريره بأنها تريد الاستقرار حتى تستأنف عملها مرة أخرى، فالصعيدي الفقير الذي يبحث عن عمل في العاصمة، يعرف أنه لن يجد هذا العمل إذا لم تستقر الأمور، كمان أنه لا يجد نفسه استفاد شيئا من المظاهرات التي تشتعل في البلاد طوال عامين، ولا يمكن أن نلومه في شيء هنا،  لأنه فعليا لم تحدث الثورة في الصعيد، ولم يروا ملامحها أو تأثيرها في أي ملمح من ملامح حيواتهم.
وهذا لا يعني أن الصعيد كله إسلاميون، فهناك أقباط، وهم كثر، لماذا إذن صوت الصعيد للدستور بنعم؟
تلعب العصبية دورا مهما في الصعيد، لذا كان متوقعا أن يصوت الصعيد ب"لا" على الدستور، خاصة مع المادة الموجودة في الدستور التي تمنع اعضاء الحزب الوطني "المنحل" من العمل السياسي، لمدة 10 سنوات، وهو ما يعني حرمان عدد كبير من العائلات الكبيرة من الترشح للبرلمان، وهو ما كان يعني أن هذه العائلات ستحشد أبنائها للتصويت ب "لا". غير أن المفاجأة أن ما حدث كان العكس تماما، حيث اكتسحت "نعم" الصعيد، وهو ما يكشف عن مفاجأة جديدة، وهي تغير التركيبة المجتمعية المؤثرة في الصعيد، وإذا كان يمكن أن نرد هذا إلى وعي سياسي جديد، رافض لفكرة العصبية والقبلية، ولعودة الفلول مرة أخرى، فإنه وعي يرى البديل الإسلامي أفضل من البديل "الفلولي"، لأن ليس ثمة بدائل أخرى موجودة، كما أن الصعيد أكثر تدينا بطبعه، وأكثر ميلا للمحافظة على القيم والمبادئ والتقاليد
لست مع من يلومون على الصعيد لأنه صوت ب"نعم"، فإذا كان الإخوان والسلفيون مارسوا مع هذه المحافظات لعبتهم الأثيرة، وغازلوا فقر الناس بإنشاء مراكز صحية ومستشفيات ومعاهد ووزعوا عليهم الزيت والسكر وأنابيب البوتاجاز، لكسر جزء من حدة فقرهم، فعلى القوى المدنية أن تجيب على هذا السؤال: ماذا قدمت لهؤلاء الفقراء، أم أنها اكتفت بالتظاهر في ميادين القاهرة، والظهور في الفضائيات، دون أن تكلف نفسها بإقامة ندوات توعية أو عقد مؤتمرات، أو حتى الوصول للقرى والنجوع.
لا أبرئ أحدا، من يساوم فقر الناس بالزيت والسكر، ولا من يتهم الناس بالجهل والفقر، دون أن يفعل شيئا. الجميع مدانون، ومذنبون، لأنهم لا يتذكرون الصعيد إلا في المناسبات فقط، وما دون ذلك، فهو كم مهمل  يشار إليه بإهمال، لذا لا تلوموا الصعيد. لوموا أنفسكم.