إبراهيم عادل
يعرف القراء والنقاد على السواء أن العمل الأدبي المتقن والجيد هو الذي يفرض على قارئه طريقة التعامل معه، هو الذي يضع حدوده ويرسم خيوطه وكيفية تلقيه، من هنا لا يمكننا التعامل مع رواية الشاعر محمد أبو زيد «عنكبوت في القلب» الصادرة، مؤخرًا، بعد عدد من التجارب الشعرية المهمة دون العودة إلى تلك الدواوين وعالمها، لا سيما وأن الكاتب يدفعنا إلى تلك العودة وهذا الاستحضار للشعر وخصوصية عالمه، ليس فقط من خلال وضع ما سماه «مراجع» الرواية وفيها كل كتبه، ولكن أيضًا من خلال شخصية روايته الرئيسية، والتي لا شك سيذكرها كل من قرأ دواوينه وهي «ميرفت عبد العزيز» وكذلك تلك المقاطع التي يفتتح بها بعض فصول الرواية من دواوينه أيضًا.
رغم ذلك وبلا شك فإن تلقي الرواية وقراءتها كعمل مستقل، وبناء خاص له حدوده وشخصياته وضوابطه، سيكون ممكنًا ويسيرًا على من لم يتعرّف من قبل على عالم محمد أبو زيد الشعري، وما يطرحه فيه من قضايا ومشكلات، فالرواية في النهاية عمل أدبي خالص، بل لعل ما فعله الكاتب هنا يذكرنا مباشرةً بحديث النقاد والدارسين لفن الرواية حول قدرتها على احتواء الفنون الأدبية جميعًا، وأن ذلك سبب أساسي من أسباب انتشارها بل وهيمنتها على فنون الكتابة الأخرى.
ولا شك أن تجربة مثل رواية «عنكبوت في القلب» يمكنها أن تبرز كبرهانٍ قويّ على ذلك، بل إن كاتبها يصرّح بالفعل في بعض حواراته الصحفيّة أنه يختتم بها ما بدأه من قبل في عددٍ من دواوينه الشعرية، سواء على مستوى العالم ومحاولات مواجهته والتعامل معه أو حتى فيما يتعلق بالبطلة المركزية «ميرفت عبد العزيز» التي يُفسح المجال لها هنا ربما لأول مرة، ويتركها لتعبّر عن نفسها أكثر، وليتعرّف القارئ عليها ويقترب من عالمها تمامًا.
لم تكن ميرفت تحب الشعر، بل ترى الشاعر مجرد مريض نفسي لا يستطيع التعامل مع الناس، فيقوم بإخراج أزماته النفسية من خلال ما يكتبه، ولهذا السبب لم تكن تحب ما تدرسه أيام المدرسة من نصوص، ولم تكن تحفظها. كانت درجاتها أقل دائماً في مادة اللغة العربية، ثم إنها لا تعرف لماذا يضيع شخص وقته في كتابة كلام بحروف متشابهة في نهاية الأسطر، هناك أمور أخرى في الحياة أهم من هذا، مثل ماذا؟ فكرت قليلاً ثم أجابت بجدية: تربية العناكب مثلاً. ابتسمت إعجاباً بنفسها، وهي تعبر إلى داخل محطة مترو البحوث، عائدة إلى المنزل، آه لو كان يربي العناكب مثلها، سيكونان جمعية اسمها «جمعية محبي تربية العناكب»، ويخصصان لها مقراً في وسط البلد، ثم يعقدان ندوات أسبوعية للحديث عن أي شيء يتعلق بها، ويحصلان على تمويل من إحدى الدول الأوروبية، ويكتفيان بذلك عن العالم.
عنكبوت في القلب – محمد أبو زيد

بناء سردي متميز ومختلف

يقسّم محمد أبو زيد روايته إلى أربعة فصول أساسية، يسبق الفصل الأول منها ثلاثة مقاطع قصيرة بمثابة التقديم لعالم الرواية، وذلك من خلال شخصيات هامشية، سترافق البطل في رحلته التي تجمع بين الواقعية والفانتازيا في الوقت نفسه، تلك الشخصيات تم استحضارها من التراث العربي بشكلٍ ما، ولكن تمت إعادة تركيبها وصياغتها بما يناسب عالم الرواية، فهناك ببغباء يسمى «تأبط شرًا» على اسم الشاعر الجاهلي الصعلوك، وهناك «المملوك» الذي فر قدرًا من مذبحة المماليك، وهناك «علاء الدين» ومصباحه ولكنهم يحضران بشكلٍ مفارق للمألوف.
يأتي بعد ذلك الفصل الأول «فتى» الذي يتحدث عن بطل الرواية (بيبو) ثم الفصل الثاني «فتاة» حول البطلة ميرفت عبد العزيز وعالمها والفصل الثالث «المؤلف» الذي يحدث فيه ذلك التماهي بين الكاتب وشخصية المؤلف الذي يحمل اسمه والفصل الرابع والأخير «سيارة»، وسيلاحظ القارئ على الفور أن ثمة علاقة حب ملتبسة ستربط الفتى «بيبو» والفتاة «ميرفت» ولكن الكاتب اختار أن يقدّم كل منهما في فصلٍ مستقل، كنوع من حضور تعدد الأصوات في الرواية، وسنجد أنه ثمة تقاطعات في الحكاية بين الفصلين، وتشابهًا في العالم الغرائبي والوحدة التي تسيطر على الشخصيتين بشكلٍ واضح.

بين الواقع والفانتازيا

بين الواقع والفانتازيا تدور أحداث الرواية وعالمها، ويتم التصالح مع كل الأشياء والأحداث الغريبة، مع الاحتفاظ بقدرٍ من الشاعرية في المواقف التي يمر بها البطل وحبيبته، يمزج الكاتب بين تلك الحالة الخاصة جدًا من الشعور بالوحدة، ومحاولة تجاوز المشكلات، وهو ما سنجد صداه في تلك المواقف الغريبة التي يمر بها البطل حتى يصل إلى حبيبته من جهة، ثم المواقف المعاكسة التي ستحدث لحبيبته حتى تصل إليه، ولكن يبدو في النهاية أن المؤلف لا يروق له في النهاية أن يلتقيا.
في الفصل الأول يتم تقسيم مقاطع السرد إلى فقرات صغيرة معنونة، يعكس كل عنوانٍ منها حالة البطل والموقف الذي يمر به، فيما نجد في الفصل الثاني عنونة مختلفة لمقاطع السرد من خلال استدعاء مقاطع شعرية تحدث فيها محمد أبو زيد عن البطلة «ميرفت عبد العزيز»، وهو هنا ينشئ تناصًا من نوعٍ مختلف مع نفسه إذ يدفع القارئ لتلك المقارنة بين الطريقة التي تناول بها تلك الشخصية شعريًا بشكلٍ مجرد، ومن خلال مقاطع بسيطة متسعة الدلالة، وبين ما يحكيه عنها الآن في الرواية بشكلٍ محدد.
في الفصل الثالث الذي يسميه «المؤلف » يحضر الكاتب باسمه وصفته وأصدقائه الحقيقيين، ويناقش القارئ، أو يعرض عليه وجهة نظره في الكتابة، ويبدو هنا ليس فقط قدرته على تحديد ما فعله في الفصلين السابقين، بل ونقل فلسفته الخاصة للقارئ:
ما بين الصدق والكذب، الواقع والخيال، يبني الكاتب عالمه، فيبدو كصانع عرائس ماريونيت، قد يضع يد شخصية، مع رأس شخصية أخرى، مع قدم شخصية ثالثة، لكي يصنع شخصية رابعة. إنها لعبة البازل التي تصنع في النهاية شكلاً مختلفاً عندما يكتمل، رغم عاديته في بعض الأحيان. لذا يحدد الشاعر والروائي الأمريكي وليم فوكنر ثلاثة أشياء يحتاجها الكاتب لرسم الشخصية: الخبرة، والرصد، والخيال، معتبراً أن أي اثنين منهم وفي بعض الأحيان أي واحدة منهم، يمكنها تعويض نقص الصفات الأخري. لا نتحدث هنا عن القصة الواقعية، أو نقل الواقع إلى الورق، فصفحات الحوادث في الصحف تمتلئ بآلاف القصص الواقعية المفجعة والرديئة في كتابتها، وصفحات الأخبار نائمة تحت آلاف الجثث، لكن الفرق بين هذا الواقع، والواقع الذي يقدمه الأدب، هو الفن. تلك اللمسة السحرية التي لا يملكها سوى من ضربته تلك اليد العملاقة التي اسمها الفن.
عنكبوت في القلب – محمد أبو زيد
يأتي الفصل الرابع والأخيرة بمثابة إعادة صياغة وتشكيل للعالم كله، وذلك بعد أن عرض الكاتب شخصياته، بل وأوضح للقارئ أيضًا وجهة نظر المؤلف/ الكاتب «محمد أبو زيد» الذي ربما يتقاطع مع الكاتب في بعض الأفكار، وربما يكون شخصية أخرى مختلفة عنه، ولكنه يحمل الاسم نفسه، ويقودنا في النهاية من خلال سيارة إلى عالم أشد غرابة وفانتازية ولكنه يحضر كل الشخصيات، ويجعل لها مصيرًا واحدًا في النهاية.
ربما يُقصد لذلك كله أن يبقي المشهد في ذهن المتلقي بعد قراءة الرواية لوقتٍ أطول، ذلك أن تلك الشخصيات كلها، ومهما حملت من غرابة في أطوارها وفي تعاملها مع المواقف والأحداث تحمل بداخلها صفاتٍ مشتركة سنجدها فيناً بكل تأكيد.

شعور بالوحدة ورغبة في التحليق

هكذا يبني محمد أبو زيد عالمه، وهكذا ينسج باقتدار خيوط روايته، التي تترك القارئ في النهاية ممتلئاً بشعور شديد بالوحدة، ورغم ذلك سيشعر برغبةٍ في التحليق بين غرفة البطلة ميرفت التي تتحرّك فيها بانسيابية بينما تشير على الهرم الأكبر، وسيارة بيبو التي يحملها رجالٌ أشداء فيما هو يسعى جاهدًا لتغيير مصيره رغمًا عن المؤلف، الذي سيبدو في النهاية مغلوبًا على أمره!
محمد أبو زيد شاعر مصري، صدرت أول دواوينه عام 2003 بعنوان «ثقب في الهواء بطول قامتي». وأصدر بعدها ثمانية دواوين شعرية آخرها «جحيم» الذي صدر هذا العام أيضًا، كتب رواية واحدة منذ تسع سنوات بعنوان «أثر النبي». تعد روايته «عنكبوت في القلب» هي روايته الثانية وقد وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع المؤلف الشاب هذا العام.
أصدر محمد أبوزيد أيضًا كتابًا مهمًا عن الكتابة بعنوان «الأرنب خارج القبعة» عن مؤسسة هنداوي عام 2016. كما أنشأ موقع الكتابة الثقافي عام 2007 الذي يهتم بتقديم بالأصوات الأدبية الجديدة على الساحة سواء في الشعر أو الرواية أو غيرها من الفنون.
....................