23‏/11‏/2024

محمد أبو زيد: ليس على الكاتب أن يصنف نفسه



حوار: محمود عماد

محمد أبو زيد الكاتب الذى جمع بين الفنين الكبيرين الشعر والنثر، بمعنى آخر القصائد والرواية، تنوع أبو زيد فى الكتابة بين الاثنين وتفوق فيهما معا. حصد الجوائز فى الإثنين، حتى لم نعد نستطيع أن نصنفه هل هو روائى، أم شاعر، أو هو كاتب يكتب فنا جديدا يجمع بين الشعر والنثر معا، يحظى محمد أبو زيد باسم لامع فى الأوساط الثقافية والأدبية المختلفة، وحازت أعماله على إشادات نقدية، وبدأ أبو زيد رحلة إعادة طباعة أعماله الأولى مرة جديدة، وذلك بروايته الأولى «أثر النبى»، والتى صدرت فى طبعتها الجديدة عن دار الشروق، بعد تعاون أول كان نشر رواية «ملحمة رأس الكلب». ولهذا حاورته «الشروق»، للحديث عن إعادة نشر رواية «أثر النبى»، وعن أعماله المختلفة.

- لك العديد من الدواوين الشعرية التي وصلت لثمانية دواوين، ونشرت في البداية خمس دواوين تقريبا قبل نشر روايتك الأولى، ولكنك نشرت بعض القصص القصيرة في بعض الصحف قبل حتى نشرك لدواوينك، فكيف تصنف نفسك هل أنت شاعر أم روائي؟

ـ أكتب الشعر والرواية، وربما في المستقبل أكتب صنفاً جديداً، لذا أجد أنه من ليس من اليسير أن أحبس نفسي تصنيف، الكاتب لا يصنف نفسه ولا يمنح نفسه لقباً، فهو في كل الأحوال يسعى في طريق قد لا يصله حتى نهاية أجله، لأنه لا مسلمات في الكتابة ولا شيء مؤكد، حين يتأكد الكاتب من أمر عليه أن يغادره إلى ما يُقلقه، فهذا القلق هو ما سيصنع نصاً جيداً. مهمة التصنيف تقع على عاتق القراء والنقاد بعد أن يقرأوا مجمل نتاج الكاتب، وعندها يقررون إذا كان يستحق أن يحمل لقب شاعر أو روائي أو كاتب مسرحي. بالنسبة لي الكتابة ـ في الشعر أو السرد ـ هي مجرد محاولة لإضافة شيء إلى هذا الخط غير المرئي من الخيال الذي يمنح حياتنا معنى، ليس بالضرورة أن ينجح من يحاول ذلك، لكن عليه أن يحاول في كافة أنواع الكتابة إذا استطاع وإذا كانت لديه الملكة، فليكتب الشعر والقصة والمسرح وليرسم ويغني ويلحن، عليه أن يجرب وأن يهرب من قفص الحبس في التصنيف، فالهرب صنوان للحرية. والحرية هي هدف الكتابة الأسمى.

 - من تلك العلاقة التي تحدثنا عنها بين كونك شاعراً وروائياً، وبين الدواوين الشعرية والروايات كيف أثرت علاقة الكتابة النثرية بالشعر عليك كممارس للأدب وللفنين؟

ـ أعتقد أن على الفنون أن تستفيد من بعضها، وأن تكمل بعضها بعضاً، انظر إلى السينما مثلاً، هذا الفن الساحر الذي تتعاضد فيه فنون الكتابة والإخراج والموسيقى والتمثيل والغناء، لتخرج فناً واحداً. بإمكان الكتابة في أي صنف أدبي أن تكون كذلك، كأن تأخذ الرواية من الشعر لغته ومن المسرح حواره ومن الرقص إيقاعه ومن السينما مشهديتها، في روايتي الأخيرة "ملحمة رأس الكلب" هناك إشارات إلى فنون الكوميكس والمانجا اليابانية والسيناريو، ليس بالضرورة أن أكون نجحت في مسعاي، وليس بالضرورة أيضاً أن تفعل كل النصوص ذلك، لكن ليفعل ذلك النص الذي يحتمل هذا التجريب. عندما أنهيت ديواني "مدهامتان" الذي كتبته بعد روايتي الأولى "أثر النبي"، لاحظت أن طريقة كتابتي للشعر تغيرت، وأن طريقة تفكيري في شكل القصيدة وما يجب أن تكون عليه من وجهة نظري تطورت دون أن أقصد، في المقابل كانت روايتي الثانية "عنكبوت في القلب" مختلفة تماماً عن الأولى "أثر النبي"، لغة وفكرة واستفادة من العوالم الشعرية، إذ تقوم بالكامل على إحدى شخصيات دواويني. وما أعنيه بكل هذا أن كل عمل ـ سواء كان شعرا أو رواية ـ يستفيد من الأعمال السابقة، ومن تقنيات الكتابة الموجودة في الفنون الأخرى. وبالنسبة لي فأنا أنظر لنصوصي باعتبارها خطوات في طريق ممتد، كل عمل خطوة، لن أبلغ هذه الخطوة إذا لم أمر على الخطوة التي تسبقها، وأترك أثراً.

روايتك "أثر النبي" التي قمت بإعادة نشرها تنطلق من نقطة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ووقت نشرها الأول عام 2010، حدثنا عن لماذا تحديد غزو العراق، وهل ساهم توقيت النشر أو الكتابة في أحداث الرواية ومضمونها؟

نشرتُ الرواية في طبعتها الأولى بعد 7 سنوات من غزو العراق، لكنها كان معظمها مكتوباً في سنة الغزو، وبالتأكيد ساهمت الأجواء العامة للحدث وتأثيره النفسي الكبير علينا في ذلك الوقت في تشكل فكرة الكتابة. غزو العراق في العام 2003، هو أهم حدث سياسي مرّ به جيلي حتى حينه. جميعنا في بداية العشرينات، لدينا أفكار مسبقة نؤمن بها ونقدسها عن فكرة العروبة والقومية والأمة الواحدة، ثم يقع هذا الزلزال السياسي فنجد أنفسنا وقد أُسقط في أيدينا. لا فقط نشاهد دولة عربية تباد ونحن لا نستطيع حراكاً. كانت هناك مقدمات طبعاً لما حدث، مثل احتلال الكويت عام 1991، وأحداث سبتمبر 2001، لكن كانت كل الأفكار الكبرى التي آمنا بها تتهاوى أمامنا، حتى هذا أفكار مثل الاشتراكية انهارت مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وسقوط العالم في أسر القطب الأمريكي الواحد. وبدأت نذر هزيمتنا ـ كجيل ـ التي لاحقتنا فيما بعد تتبدى. وحين أنظر الآن إلى الأمر يتأكد داخلي أننا جيل مهزوم، هزمتنا أفكارنا وأحلامنا والأناشيد التي حفظناها صغاراً عن الأمة العربية، هزمتنا الأفكار الناصرية عن القومية، هزمتنا حتى أفكارنا عن الحرية التي قرأناها في الكتب القديمة وصدقناها، هزمتنا الأحداث الشداد، من احتلال الكويت لغزو العراق لثورة يناير لحكم الإخوان، لكل التداعيات التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة التي نتحدث فيها. هذا الجيل الذي ولد في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات عاش في عالمه المغلق، حين انفتح العالم على مصراعيه بسبب العولمة وثورة الاتصالات والإنترنت لم يعرف ماذا يفعل، حاول أن يتفاعل فلم يستطع، ولما وجد نفسه قد تجاوز الأربعين وقارب الخمسين، آثر الانغلاق على ذاته والعيش في ثوب الأب الحكيم، لكنه في أعماقه خائف ويائس. ومن هنا كان استدعاء مشهد تنحي عبد الناصر في رواية "أثر النبي"، لكن إذا كان ذلك الجيل قد هزم في 1967، فإنه قاوم وعاد لينتصر في أكتوبر 1973، لكن جيلنا لم يفعل.

- تحدثت سابقا عن ديوان لك بالعامية المصرية، ونرى في رواية "أثر النبي" بعض المصطلحات أو الألفاظ العامية المدموجة في الرواية مع الفصحى، فكيف ترى العلاقة بين العامية والفصحى في الأدب بشكل عام؟

ـ لا أتفق مع الذين ينظرون للهجة العامية باعتبارها في مرتبة أدنى، فما اللغة إلا مزيج من لهجات، وما اللهجات إلا من نسيج اللغة، وكان العرب يسمون اللهجات لغات، فقيل لغة قريش، ولغة حِمير، ولغة تميم، وغيرها، وقد حاول عدد من الكتاب التقريب بين العامية والفصحى عن طريق ما يسمى اللغة الثالثة أو اللغة البيضاء، كما نرى عند توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وهناك محاولات جادة للاهتمام بالعامية المصرية عند عدد من المفكرين أمثال سلامة موسى وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد الذي كان رئيساً لمجمع اللغة العربية، ورغم ذلك دعا إلى ما أسماه "التسامح اللغوي"، وإصلاح الفصحى باستعمال ألفاظ من العامية، وألفاظ مستعارة من اللغات الأخرى في الكتابة. والعامية المصرية هي كنز من الفن والأدب، هل تتخيل أن تسمع السيرة الهلالية من جابر أبو حسين إلا بلهجته؟، هل تتخيل تاريخ الأدب في مصر بدون بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وبديع خيري وغيرهم؟ إذن لا تضاد بين العامية والفصحى، ولا أرى ما يعيب في استخدام العامية في الحوار، بل أرى أن السرد عموماً يمكن أن يكون هو البوابة لكي تستفيد إحداهما من قدرات الأخرى.

 

- حدثنا عن تجربة نشر أعمالك السابقة، وهل تنوي القيام بذلك مع كل أعمالك السابقة؟

ـ أي كاتب يسعد بإعادة طباعة أعماله، لأن ذلك يجعلها متاحة في المكتبات للقراءة والنقاش. معظم أعمالي القديمة لم تعد موجودة، ديواني الأول "ثقب في الهواء بطول قامتي" صدر قبل 21 عاماً، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وبالطبع لم يعد موجوداً، أيضاً صدرت لي 6 أعمال بين الشعر والرواية عن دار شرقيات، التي كانت واحدة من أهم دور النشر في مجال النشر الخاص، لكن للأسف أغلقت أبوابها، كما صدر لي ديوان "مديح الغابة" عام 2006 من هيئة الكتاب، وبالطبع كان مصيره مصير معظم الكتب في المؤسسات الحكومية، وهو الاختفاء في المخازن، ثم وجدت عام 2019، أنه عندما يسألني صديق أو قارئ عن أحد كتبي أخبره أنها غير موجودة، لكل الأسباب التي ذكرتها لك، ومن هنا جاءت فكرة إعادة طباعة الكتب، وبدأت بإعادة طباعة الكتب التي أرى أنها تمثل جزءاً مهماً من تجربتي، وربما في المستقبل أفكر في طباعة كل الأعمال السابقة.

-  إعادة نشر رواية "أثر النبي" هو تعاونك الثاني مع دار الشروق بعد رواية "ملحمة رأس الكلب"، فكيف ترى التعاون مع دار الشروق؟

ـ دار الشروق واحدة من أهم دور النشر العربية، وقد سعدت بوجودي وسط أسماء مهمة في عالم الكتابة من جيلي والأجيال السابقة طبعا، وسعدت بالتعامل مع الأصدقاء الأعزاء فريق العمل في الدار، الذين يهتمون بكل التفاصيل منذ تسليم المخطوط وعبر جميع مراحل النشر، وحتى بعد صدور الكتاب، كما يهتمون بإتاحة الكتب على جميع المنصات الإلكترونية وفي جميع معارض الكتب الدولية، وهذا هو هدف أي كاتب. وإن شاء الله يكون هناك تعاون في عمل قريب.

- بما أنك حصلت على العديد من الجوائز الأدبية سواء عن الشعر أو عن النثر، كيف ترى الجوائز الأدبية وتأثيرها على المشهد الأدبي بشكل عام؟

ـ أي كاتب يسعد بحصوله على جائزة، ليس بسبب المردود المادي بحسب، بل لأن الجائزة بمثابة تقدير معنوي على ما قدمه، لا سيما وإذا كانت الجائزة كبيرة ومهمة. والحقيقة أن لدينا نقصاً في عدد الجوائز الخاصة بالكتابة في مصر، مع هذا العدد الكبير من المبدعين. تخيل مثلا أنه في مصر لا توجد جائزة متخصصة في الشعر، إلا جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية، أعتقد وجود عدد أكبر من الجوائز سيحفز المبدعين على تقديم أفضل ما لديهم، كما أن هذه الجوائز ستسلط الضوء على الكتب الجديدة، فتهتم المكتبات بها، وتعيد طباعتها وتقديمها للقارئ، وتشجع الكاتب على تقديم جديد، مما يؤدي إلى رواج أكبر في حركة النشر. بهذه الطريقة يمكن النظر إلى الجوائز باعتبارها عامل محفز ومهم في حركة الكتابة والنشر، لكن في كل الأحوال لا يجب على المبدع أن يضعها أمامه كشرط لتقييم نتاجه، أو محرك له للنشر، بل هي مجرد "مفاجأة لطيفة تحدث لك"، لكن عدم حدوثها لا يعني تقليلاً من قيمة ما تقدمه أو أهميته.

- لقد أسست موقع الكتابة الثقافي، وهو موقع مهتم بالشأن الثقافي والفني والنقدي في الوطن العربي، فكيف ترى تجربة الصحافة الثقافية بشكل عام، وخاصة في هذه الآونة؟

ـ موقع الكتابة كان أول وأقدم موقع ثقافي مصري شامل، بدأ منذ عام 2007 وما زال مستمراً، وكان الغرض من وجوده هو تحدي ظروف النشر الصعبة في ذلك الوقت، إذ لم يكن النشر وقتها بالسهولة الموجودة الآن، كانت هناك مجموعة من الصفحات الثقافية في عدد من الصحف وتعاني في معظمها من الشللية. اختلف الأمر مع مرور الوقت، ومع ظهور الفيس بوك، وانتشار المدونات، فأصبح لكل شخص منصته الخاصة، وجمهوره الخاص أيضاً، وتراجع ما عدا ذلك.

الصحافة الثقافية تعاني من أزمة بالطبع، أولاً لأن الصحافة الورقية عموماً تعاني من أزمة كبيرة، بسبب ارتفاع الورق، وبسبب التضييقات الإعلامية، وبسبب تغير ذائقة الجيل الجديد الذي أصبح يفضل التصفح الإلكتروني، فضلا عن أن الصفحات الثقافية في الصحف أصبحت نادرة ومحدودة مع قلة الصحف وقلة صفحات الجرائد، أما المجلات والصحف الثقافية فكادت تندثر، والمطبوعة التي كانت توزع 100 ألف نسخة أصبحت لا تتعدى العشرة آلاف نسخة.

أصبح النشر الثقافي يتركز في معظمه على النشر الرقمي، ومعظم مشاريع النشر الثقافية الخاصة غير مدعومة، وبالتالي فهي معرضة للإغلاق طوال الوقت، كما أن سهولة النشر إلكترونيا عبر فيس بوك، خلقت حالة من السيولة أثرت على حالة الصحافة الثقافية، وجمهورها.

لا أريد أن أقول إن الأمور سيئة، فهناك بعض المحاولات الجادة من بعض الصحف التي تحاول أن تتحدى هذه الأجواء، وفي ظني أن الزمن أكبر مصفاة، علينا فقط الانتظار والاستمرار في المحاولة.

- رغم كونك شخصية له حيثية كبيرة على الساحة الأدبية سواء كشاعر أو روائي أو رئيس موقع للكتابة الثقافية، وتملك العديد من الإشادات النقدية، لكننا نشعر بأنك بعيدا عن الأوساط الثقافية، فكيف ترى الأوساط الثقافية؟

ـ في الماضي، كان الحديث عن "الأوساط الأدبية" يعني الحديث عن "المقاهي الثقافية في وسط البلد"، أو المنتديات الرسمية التي كانت تقيمها الدولة، ثم تطور الأمر وأصبحت هذه الأوساط هي مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مثل سابقتها عبارة عن "أخويات"، وجيتوهات منغلقة، لا ترى بعضها بعضاً، وجزء منها يقوم على المجاملة والاجترار والنميمة، وفي الحقيقة لا أرى نفسي في كل ذلك. ما أريد أن أقدمه أو أقوله سأكتبه في نص أدبي، مستعيرا كلمة "كامل مروة" الشهيرة، "قل كلمتك وامش"، وهذا ليس انتقاداً لمن يميلون لأجواء "الأوساط الأدبية"، فليست جميعها سيئة، فربما العيب في أنني لست شخصاً اجتماعياً.

لا أعرف إذا كانت لي حيثية أو لا، لكن ما أتمناه وأرجوه هو أن يكون لكتابتي حيثية وتأثير، وما دون ذلك زائل يا صديقي.

- ما هو الجديد في عالم محمد أبو زيد الأدبي؟

ـ هناك مشروع كتاب مؤجل منذ عشرين عاما عن "مدينة القاهرة"، أتمنى أن أنتهي منه العام المقبل.

 ....................

*نشر في جريدة الشروق