15‏/06‏/2025

ماهية الشعر والشاعر ومغايرة الكتابة في ديوان فوات الأوان للشاعر محمد أبوزيد

عادل ضرغام

في ديوان (فوات الأوان) للشاعر محمد أبوزيد يجد القارئ نَفَسا شعريا جديدا، يجيد إخفاء صنعته، والتخلص من ديونه للسابقين من خلال مناورات الشكل، واللهاث وراء ماهية أو معنى لانهائي لا يتحقق للشعر. ففي هذا الديوان يشكل سؤال الماهية الخاص بالشعر حضورا واضحا، ينفتح في الإجابات المحتملة على غياب، لأن الشعر في منطق نصوص الديوان طائر يجيد الحركة، ويجيد التشكّل أو إعادة التشكل، ويجيد التخفي، ويغيّر جلده وهيئته من فترة إلى فترة، ومن عصر إلى عصر، يؤيد ذلك الإحالات الممتدة في النصوص إلى تجليات سابقة في داووين سبقت هذا الديوان، للكشف عن المتغير في مساحات الرؤية.

الديوان يقدم نصوصا شعرية لا تكفّ عن الإشارة إلى التغيّر والتبدل عما سبق، فكأننا أمام شعرية تتطور بالتراكم والاختلاف التدريجي، نتيجة لتأمل السابق لبناء نقلة تحمل وعيا مغايرا، ويتحقق هذا الأمر في نصوص هذا الديوان على مستوى البنيات الأسلوبية ووالتراكيب النصية بين جزئيتي (بعد) و(قبل)، وكأن هناك حالين شعريتيين، يفصل بينهما بون بعيد في التوجّه والإيمان بالقدرة على الفعل، للوصول في النهاية إلى حركة تشبه القصور الذاتي غير القادر على التأثير والفعل. فالعواء الذي يبدأ به الجزء الأول من الديوان يكشف عن مساحة الفعل الساكنة، ليتحول الشعر- معادل الفعل والقدرة على التأثير في شكله المثالي- إلى عواء ذاتي ساكن يطارد أشباحه المتخيلة.

تكشف نصوص الديوان عن تساؤل آخر، يتولّد من فكرة المغايرة وارتباطها بسياقات حضارية، يتمثل في جدوى ومشروعية فن الشعر في اللحظة الآنية، وحتمية البحث عن شكل وآليات فنية تتعاظم على الظرف التاريخي الذي يمرّ به هذا الفن، فنصوص الديوان في مجملها تمثل اشتغالا لخلق أبنية شعرية متساوقة مع اللحظة، لا تحلم بتغيير العالم، أو الإيمان بالشكل المباشر القديم لرسالة الشعر، هي فقط تكتفي بالوجود بشكل خافت، لأن هناك متغيرات دائمة تلحق بالسياق أو السياقات، وتترك بالضرورة أثرها على الشعرية المنجزة. ويمكن للقارئ أن يقارن بين طبيعة أبطال النصوص وسارديها في الجزئين (بعد) و(قبل) وكلاهما يكمل عنوان الديوان (فوات الأوان)، وكأن هناك حدثا عظيم التأثير أوجد هذه المغايرة أو الفكرة التي تظلل شعر الشاعر على امتداد دواوينه السابقة، لكنها هنا تترك أثرها في جزئيات عديدة، منها ماهية الشعر المتعددة التي لا تكف عن الحركة والفعل من جزئية إلى أخرى.

ثمة ملاحظة في عناوين قصائد الديوان، تتمثل في طولها من جانب، ومن جانب آخر تشكل- إلى حد ما - مساحة من الانفصال من خلال احتشادها وانبنائها وتجذّرها في سياق قد لا يكون قريبا للوهلة الأولى بينها وبين المتن، خاصة في القصائد المشدودة للحاكم- يتشكل غالبا في صورة إله- والسيدة الأولى في مقابل المحكومين، أو فصائل النمل المتراصة المشغولة بالحياة، ومخزونها من السكر، وكأن هذه العناوين التي تبالغ في الطول والاحتشاد والمرتبطة دلاليا بأمور فلسفية مثل المادية والجدلية، تحاول زعزعة يقين التأويل، وهذا يجعلنا نشير- مع شيء من عدم الاطمئنان- إلى أن جزئي الديوان (بعد) و(قبل) يتعلقان بالثورة، بوصفها الحدث المحوري الأكثر حضور، بالرغم من محاولات تغييبه بوسائل عديدة، مثل الإيهام بعناوين بعيدة الغور والدلالة.

ماهية الشعر والشاعر والكتابة

في نصوص كثيرة من نصوص الديوان ثمة اشتغال على الشعر وماهيته، وتطوره الزمني، ذلك التطور الذي يعاني من سلطة السابقين التي أخذت شكلا أقرب إلى الصواب الدائم، مما يفرض نوعا من الثبات حول هذا المنجز القديم، وكأنه الشكل الأخير والوحيد لفن الشعر. وقيمة نصوص هذا الديوان أنها تبني أسانيدها، وأسانيد مشروعية اختلافها عن النمط الثابت المستقر برهافة بالغة تتسرّب تدريجيا لتؤكد حتمية وجودها. في نصّ (جد عجوز فاض به الكيل لا يحتمل) يمثل الجد معادلا للسلطة الفنية ولمنطق الحياة وسطوتها في الاحتفاء بالمستقر في مقابل حركة وإضافة الحفيدين (الولد والفتاة) اللذين يأتيان بوصفهما معادلا للمغايرة والاختلاف ارتباطا بمنطق الزمن واختلافه بينهما وبين الجد.

يتجلى الاختلاف في مشروعية الحلم بوصفه خروجا عن نسق أو نمطية، فالفتى لديه نزوع نحو (الشاطر حسن) الذي سيتزوج الأميرة، والفتاة نحو (السندريلا). والنص الشعري من خلال صوت الجد يمارس القمع بإسدال سطوة الواقع ضد مشروعية الحلم والتغيير والحركة في قول النص (الأحمق الذي يفكر في المستقبل هناك، أخبرني.. لماذا تنزلق إلى قاع البالوعة؟ أين عقولكم؟ ماذا تتعلمون في المدرسة؟). الجزء الأول من النص الذي يؤسس هذا الصراع بين الأجيال المختلفة، يتلوه جزء شعري ينقل هذا الصراع من صراع زمني إلى فني، في قوله (لا أعرف لماذا يكتب الشعراء قصائدهم بهذه الطريقة! كان الشطران مريحين أكثر)، ويتحوّل النص في ظل تلك النقلة إلى كشف عن صراع بين الجديد والقديم، الجديد الذي يتمدد في سياقات مغمورة هامشية على حواف النسق الفني المهيمن، ومن ثم تتأسس لهذا النسق سلطة لها قدرة على تمثيل الجديد، ووضعه في سياق الخارج المأفون المرتبط بالبالوعات والصراصير والناموس والفيروسات، وكلها تستدعي إغلاق النوافذ إمعانا في تجذير الثبات، وهيمنة الأبوي البطرياركي في تحجيم الجديد في نهاية النص (وأنت يا ولد.. عيب كخ).

والمتأمل لنصوص الديوان يدرك أن هناك قصائد تتوجه نحو الانتصار للشعرية الجديدة، من خلال الإشارة إلى ميزان أو إيقاع مغاير، فهي تقدم أسسا أو أسانيد لمشروعية استمرارها، وحتمية وجودها، فالشعر- مهما كان شكله أو قالبه- لا يخلو من إيقاع، يكمن الفارق بين القديم والجديد في جزئيتيين، أولها طبيعة الإيقاع، واختلافه من كمي إلى نوعي، والأخرى تتمثل في حرية التوالد أو التجلي المستمر دون ثبات أو تقعيد. في نص (بالمناسبة.. ليس الخليل بن أحمد الفراهيدي وحده من يملك ميزانا)، هناك اشتغال على إيقاع شخصي يتجلى بتخلصه من الثبات، في قوله (ماذا يفعل بمنجنيق لا يعرف مصدره، يلقم أذنيه بالأحجار ليل نهار؟ ! ماذا يفعل بجبل كلمات داخل صدره يكسّر فيه كل يوم، لكنه أبدا لا ينتهي؟).

وإذا كانت الأشكال الشعرية الجديدة في النص السابق تتجلى في نسق الصراع، بالإضافة إلى حسّ السخرية الموجود في معظم النصوص، فإن مفهوم الشعر الجديد، وبشكل محدد قصيدة النثر، ينتصر لتعدد الأشكال، وغياب التأطير والثبات، بل ويجعل من هاتين السمتين مساحة للتفرد والإيجابية. فقصيدة النثر في منطق النصوص ولادة جديدة مع كل نص، وهذا يبعدها عن التقعيد والشكل الثابت. ففي نصّ (بيضة الديك كنظرية تأسيسية: نقد العقل المحض) يدرك القارئ من العنوان- بعد إزالة مساحات التغريب والتغييب بين العنوان ومتن النص- أن هناك وعيا من البداية بهذه السمة او الخاصية الفريدة، فقصيدة النثر- نظرا لفرادتها وغياب التقعيد وتكرار القالب- تشبه بيضة الديك. ومن خلال الحوار الدائر بين السارد/ الشاعر وبيضة الديك أثناء القلي الذي يشكل بفعل الاحتراق الخاص أشكالا مغايرة في كل مرّة، يعاين الشاعر فرادتها الدورية، وانفتاحها على فنون أخرى، مثل الفنون التشكيلية، وانفتاحها على النوع ومقابله مثل المأساة والملهاة، فهي- أي قصيدة النثر- تشكل عبر نوعي، يذيب الحدود بين كل هذه الفنون والأنواع.

لا تنفصل ماهية الشعر عن ماهية الشاعر، ومحاولة تحديده أو تأطيره، وإن كانت كل المحاولات لا تفلح في الإمساك بكائن غير فيزيائي، يتشكل على نحو مغاير في كل لحظة أو فترة زمنية، ويلتحم في كل تشكلاته بمنطلقات الإبداع لدى الشاعر. ففي النصوص قناعة بأن ما يتخيله الإنسان يمكن حدوثه، ويمكن أن يكون جزءا من الواقع الملموس إن أمكن تحديد شيء ما يعبر عن الواقع. صورة الشاعر في النصوص- وإن لم يتم التوجه إليها بشكل مباشر- تتحدد في مساحة الريب بين الحدوث وعدم التحقق منطقيا. وهناك نصوص عديدة ربما تكون كاشفة عن تلك الصورة وملامحها، مثل نص (حكمة الصندوق الزجاجي)، حيث تتكاتف فيه الصور العجائبية الخارقة للمنطق، بداية من الجنين الذي يرفض الخروج، وعودة الأم لأطفالها، وموت الأب. فكرة الجنين من البداية تشدنا إلى وجود مؤجل غير منجز، وإلى مساحات هلامية لطفولة ممتدة، وعند الوقوف عند الصور المنثالة بعد ذلك مثل تمدد حياته واستمرارها دون اسم أو بطاقة تموين، ونموّه داخل البطن، وإحداثه للانبعاج، ندرك أنها كلها أشياء تشير إلى وجود قلق.

تكتمل هذه الصور العجائبية لهذا الوجود من خلال قيام الأطباء بقصّ الانبعاج بمنشار، ووضعه في صندوق زجاجي محكم، ومراقبته العالم من خلف زجاج شفّاف، ودموعه المنثالة على معرفته الضائعة في نهاية النص في قوله (ألم أقل لكم؟). فبداية من فعلي الانفصال والاتصال، بالإضافة إلى مراقبة العالم في سياق خاص، يخامرنا شعور أننا أمام طفولة ليست من لحم ودم، لكنها تشير إلى طفولة شعرية راصدة، تقدم معرفتها من وراء حجاب، لكن العالم لا يصغي أو يستحضر هذه المعرفة.

والقصيدة- أيضا- في نصوص الديوان لم تعد مرتبطة بالتجليات السابقة في الارتباط بظروف وسياقات محددة، قد تكون مشغولة برسالة سامية للشعر، وإنما أصبحت مشدودة للإنسان، ولحاجاته البسيطة والصغيرة، لأن الشعر لم يعد متعاليا مفارِقا، فمكانه يتغير من فترة لفترة، وصورة الشاعر ومكانه يتغيران، فلم يعد الشاعر- على حدّ تعبير النص الشعري الذي جاء بعنوان محضر اجتماع الجمعية العمومية العادية لسنة 2023- ساكنا للمجرّات أو السماء، بل أصبح مثل الناس واحدا عاديا، يحتاج ما يحتاجون إليه، فالسماء العالية- في ظل النصوص أو الشعرية الجديدة- يمكن أن تنزل بما تحتويه وتختزنه إلى الأرض، والشاعر- نفسه- تحوّلت وظيفته من الانعزال إلى المشاركة، فالقصيدة- نظرا لحركة الشعر وتغيّر مكان ولادته وتراكمه- أصبحت كامنة في الجزئيات البسيطة في لحظات خلقها وإعادة الارتباط بها، وكأنها أصبحت فعل معايشة مصنوع لحظة الفعل، وانفتاح على الخارج مع الاحتفاظ بفاعلية الذات وحضورها، يقول النص (يعود إلى منزله، وهو لا يفكّر في شيء/ فقط يغلق الشباك/ يمسك الريموت/ ويطفئ القصيدة).

داخل الاهتمامات والتحديدات المتعلقة بالشعر وماهيته، والشاعر وحركته، والقصيدة بوصفها فعلا من أفعال التداخل وانفتاح العوالم بين الشعري والمعيش اليومي، يلمح القارئ حضورا لظواهر عديدة تتجاوب مع تأسيس هذه الشعرية، مثل الخيارات الممنوحة العديدة لاكتمال نصّ، ومنها أيضا الإلحاح على قيمة الشعرية البصرية والتشكيل الكتابي، بوصفها ظاهرة أدخلت الشعر مساحة تلقٍ جديد، وذلك من خلال كتابة النص مرتين، الأولى على طريقة ونمط التفعيلة، حيث يبدو تأرجح السطور وتباينها من جهة اليسار، والأخرى على طريقة الكتل النثرية. ويأتي السؤال في الهامش (هل اختلف إحساسك بالنص؟)، ليورط القارئ في التفكير، ومعاينة الاختلاف، وقياس قيمة آلية الكتابة والتوزيع في النصين، ويترك الأمر دون إجابة تشي بالانحياز.

أما الظاهرة الأهم في تجليات هذه الشعرية، فتتمثل في الاستناد إلى عناوين لافتة، فيها الكثير من الاحتشاد، لإسدال نوع من التغييب لإخفاء العلاقة المباشرة بين العنوان والمتن، وكأنه يفتح مجالات بعيدة للتأويل، بعيدا عن ارتباط النص بشكل مباشر بموضوع محدد، له حضور لافت لا يخلو من وضوح في سياقاتنا السياسية، فهناك الكثير من الاحتشاد في صناعة العناوين النصية، وكأنها بهذا الاحتشاد تمارس نوعا من التشتييت الذهني، لفكّ الارتباط المباشر. في نصين متتاليين (إعادة كتابة التاريخ1) و(إعادة كتابة التاريخ 2) يشدّنا العنوانان إلى اصطلاحات ما بعد الحداثة، وارتباطها بطبقة أو طبقات من كتابة التاريخ، وإعادة كتابته بشكل مختلف في نسخ عديدة بعيدا عن النسخة المتفق حولها.

لكن هذه المحاولة لإسدال نوع من التغريب في النص الأول تأخذ بعدا أكثر رحابة، حين يوحّد النص- في ظلّ إعادة الكتابة- بين السقّاء ونرسيس صاحب الأسطورة الذي يذوب ويجف لتعاليه على النساء، ولكن تأمل النص مرة أخرى ربما يكشف عن عقد تواز آخر بين السقّاء ونرسيس ونهر النيل الذي يتيه به المصريون، ويشير النص – في ظل متغيرات آنية- إلى إمكانية جفافه وذوبانه، فكأننا أمام طبقات ثلاث. وفي النص الثاني الذي يحمل الاسم ذاته هناك توجه نحو حادثة السقوط من الجنة، ونحو لحظة البداية الأولى، أو البدائية التي تتشكل من خلال إشارات دالة وكاشفة عن الموت القادم، وكأن النص يمارس نوعا من الزحزحة في تحويل حادثة الذنب والتدنيس والسقوط، ليجعلها أكثر ارتباطا بواقع حياتي منتظر.

في ظلّ ذلك الفهم يشكل النصّان مساحة للتباين الظاهري، لكنهما يتجاوبان في النتيجة، وتجاور وتجاوب الطبقات، من نرسيس إلى السقّاء إلى نهر النيل، ويأتي فعل الذوبان والجفاف- وكأنهما فعل سقوط وتدنيس- مرتبطا بالعودة إلى الحالة الأولى من البدائية للسير على خطاها، بعد فقد مصدر مهم من مصادر حياتنا وحضارتنا، وكأننا بهذا الفقد الذي تجلّى مغيّبا بالعنوانيين اللذين يقتربان من النظرية، وبالانفتاح على الأساطير نبدأ من جديد محاولين إعادة كتابة وتسجيل التاريخ من خلال المعايشة بداية من لحظته الأولى، والسير على نمط جاهز، يقول النص في نهايته (جلس قبالتي- ها أنا أعطيك التفاصيل، ماذا ستصنع؟).

المراجعة والالتحام بالعجائبي

إن منطلق المراجعة لرصد المغايرة حاضر بقوة في نصوص الديوان، يتجلى ذلك في سمات كثيرة تتضافر فيما بينها لتأسيس ذلك التوجه في الكتابة الشعرية، بداية من عناوين بعض القصائد التي تتعرض للشطب والمحو، ولكن أثرها يظل باقيا، يمكن قراءته بسهولة، وكأن الكتابة الشعرية حالة مستمرة من حالات الاشتغال على نصوص سابقة، ويبقى أثرها واضحا، مثل عنوان قصيدة (قصيدة تصلح لهذا العالم)، حيث يُمارس ضده الشطب والمحو، مع وجود تساؤل في السطر الثاني من العنوان (ما هذا العنوان؟)، أو في نص آخر بعنوان (قارئ يعتقد أنه جناح فراشة)، ثم يُمارس الأسلوب ذاته في الشطب في إضافته في ذات العنوان (أو قصيدة تعتقد أنها ظل رجل يختبئ في الحائط).

وربما يكون هذا المحو والإبقاء على الطروس الكاشفة في الآن ذاته، له علاقة بزلزلة الثبات، وتحديد التأويل، فلا يجعل القارئ يقنع بتأويل أحادي يرتضيه، ففي قراءته للنص سيظل موزّعا ومشتتا بين العنوان المشطوب، والآخر المثبت دون شطب، وله علاقة أيضا بفكرة طبقات الدلالة التي تتشكّل من أثر أو جملة أو عنوان خافت لا يمثل صدارة النص بشكل نهائي، فهذا التردد يمارس دوره في انفتاح مسارب التأويل، ليس للقارئ فقط، وإنما للكاتب أيضا، فإذا كان القارئ يؤول النص والعالم، فإن الكاتب يؤول العالم أو العوالم المحيطة التي تناوشه.

فكرة التغيير أو المغايرة التي تلحق بالشعر أو الشاعر فكرة جوهرية، ربما لا ترتبط بنصوص هذا الديوان فقط، ولكن بمجمل إنتاج الشاعر. يتجلى ذلك واضحا في نص (الحياة بنت ال.. في صورتها الجديدة). وربما يجدي الوقوف عند نصوص ثلاثة مترابطة للتدليل على هذه الفكرة أو على التحولات التي تؤثر على الشخصيات الواردة في النصوص، أو على الشخصيات التي يقترب منها ويتقنّع بها، وهي في معظمها شخصيات وثيقة الصلة برسالة الفن والموقف، فنلاحظ في التجليات الثلاث لتروتسكي أو لأفكاره، بداية من مساحة الإيمان بهذه الرسالة، والتزامه بها، إلى مساحة من مساحات التحوّل الخاص بالسخرية السوداء التي تقنع بالملاحظة وعدم القدرة على الفعل.

في نصه الأول (تروتسكية ستالينية خضراء) نجد الإيمان بهذه الرسالة واضحا، من خلال التكرار الدوري لجمل تحمل الشعور بالمسئولية عن البشر والعالم، مثل (ولد يحمل بلدا على كتفه)، و(فتى يحمل بلدا). وفي مقابل الثورة الدائمة التي يمثلها تروتسكي، يأتي ستالين- قاتله أثناء هروبه بالمكسيك- بوصفه إشارة للحاكم الذي لم يتحمل الثورة والمطالبة بالتغيير، لتحوّله إلى إله، يقول النص في نهايته (الإله يترك البلد جوار ماسح الأحذية، ويغادر المقهى، غير مهتم بالكتاكيت التي تعبر الشارع). والصورة السابقة لا تنفصل عن نص ( على مذبح الأيديولوجية- المجلد الثاني)، لأن صورة الحاكم تتوحد بصورة معكوسة بسليمان النبي، وبحكايته مع النمل، لتشير إلى حاكم خاص محدود المعرفة.

أما النص الثالث الذي جاء بعنوان (يقول لينين: أفضل وسيلة لتدمير النظام هي إفساد رأس المال- المجلد الثالث) فتجعلنا نعيد النظر في النصين السابقين، وتأمل ملامح الثورة ومآلاتها البعيدة والقريبة، فمساحة الانتصار المخفية في حديث ماركس، يقابلها وعي إنجلز بسيادة وعودة النسق القديم واستمراره. ففي لحظة الثورة التي تولّد مساواة وقتية بين الحاكم والمحكوم، هناك وعي فائض بسلطة النسق وعودته في شكل مغاير، يقول النص (ضحك ماركس في قبره، شدّ إنجلز من لحيته- استيقظ يا خمّ النوم.. ألم أقل لك؟! – آه يا ماركس المسكين، أنت لا تفهم شيئا، انتظر أسبوعا واحدا فقط.. وسأروي لك بقية المأساة).

هذه النصوص الثلاثة لا يمكن قصّ الارتباط بينها، وتحديد مساحات اشتغالها بالثورة والثائر، وإن كان كل ذلك يتجلّى بلغة بسيطة محكية تنزع نحو العجائبي، لأن منطقها لا يفصل بين الواقعي والعجائبي أو الفانتازي، فكلاهما يرفد الآخر، ويؤثر في تجليه وتشكيله، وهذا واضح في كل النصوص، لكنه يظهر بشكل واضح في نصوص مثل (كتاب الأسى والهلوسة والعنزة البائسة)، أو في (نص نظري تأسيسي في الفلسفة المادية والاقتصادية السياسية). في هذه النصوص يتحوّل العجائبي إلى أداة مقاومة للهزيمة، خاصة في النص الأخير، حيث يتوزع السرد إلى ضميريين سرديين، الأول الغياب (حين قرر انتظار الموت..)، والأخير المتكلم (وحين أنهض من فوق كنبتي..).

يسهم الغياب في تقديم رؤية موضوعية دون انحياز في الجزء الأول، فتتكشف الهزيمة المرتبطة حتما بالموت، لكن يتمّ التعاظم عليها بصناعة وسائل الاستقواء، من خلال المتخيل العجائبي، فنلمح صورا جزئية كاشفة عن ذلك، مثل (الأجهزة التي تغيّر مصير العالم)، و(فهم لغة الطير والحيوانات)، و(الكلام مع الجماد). النص الشعري يصنع من خلال المتخيل العجائبي مساحة استعلاء. ولكن بداية من الجزء الثاني مع ضمير المتكلم تبدأ هذه الاختراعات والابتكارات- مساحة العجائبي- في التلاشي، فهي على حد تعبير النص الشعري (تتراكم حولي، لكنني لا أرها).

تصل العجائبية إلى مداها الواسع في بعض النصوص، ربما لارتباط النصوص بفكرة الثورة الدائمة المأخوذة عن تروتسكي، ففي نص (التخلص من الأرض)- نظرا لانسداد الأفق وفقدان قدرة البشري في إحداث التغيير- هناك محاولة لإسناد الفاعلية لجزئيات مادية كبرى، مثل المحيطات والأنهار، وهي تشكل من خلال الأفعال العجائبية ثورة من أفق أعلى، يقول النص (بعد نوم عميق، فتحت المحيطات المتجمدة عينيها، فرأت السماء حمراء كالحرية، تمطّت فتحركت الأرض. مدّت قدميها، فتصادمت المدن، تثاءبت، فتبعثر الغيم في الأفق).

يتجاوب مع محرك الثورة/ الهدم الأول (المحيطات) الأنهار الأليفة المرتابة، وهو توجه لا يشدنا نحو التخلص من الأرض كما يشير عنوان النص، وإنما يوجهنا نحو التخلص من طبقة بفعل الثورة، يؤيد مشروعية ذلك الفهم، أن هناك فصائل تتشكّل في ظل هذا الحدث الجديد، وهي فصائل جاهزة لركوب الموجة أو امتطاء الثورة، يقول النص في سطوره الأخيرة (وعلى أسطح البنايات المقابلة، أرى أناسا يرفعون رؤوسهم إلى أعلى، يفتحون أفواههم تقرّبا للبحيرات الطائرة (...) الطموحون المرحون روّاد الأعمال، خلعوا ملابسهم/ وقرّروا تعلّم السباحة في الفضاء). وفي معظم نصوص محمد أبوزيد دائما هناك في النصف الأول من النص اندياح بين الواقعي والمتخيل، وهو دائما اندياح يرتبط بالمطلق الفكري، ولكن في النصف الأخير دائما ما يمرّر للقارئ ما يشد النص إلى الواقع، إن أمكن تصوّر شيء ناجز يحمل ذلك المعنى، فيجد القارئ نفسه- بالرغم من قيمة الجزء الأول- متجذّرا في سياق حضاري ما، يؤسس النص ارتباطه به، ولو بفعل التأويل، وإعادة القراءة والتأمل.

هناك نوع من المغايرة أو المراجعة يتمثل في تأسيس منطلقات شعرية مغايرة للمنطلقات القديمة، وإن كانت تتماس معها في إطارها العام، لكنها تمعن في إحداث نوع من الفرادة عن الشعرية المنجزة سابقا، حتى في صناعة اليومي الخاص بها، فلم يعد اليومي- في نصوصه- واقفا عند حدود رصد الآخر أو جزئيات الكون التي تحتوينا، في إطار يحفظ لكل قسيم وجوده المنفصل، فالراصد والمرصود هنا متداخلان، وفي انفتاح دائم، فكل قسيم يأخذ من الآخر ويعطيه في الآن ذاته، ولم يعد الأمر رصدا للآخر أو للكون المحيط، وإنما أصبح الأمر مشدودا للذات محل الاهتمام بشكل مباشر، وأصبح الآخر وأصبحت الجزئيات المحيطة علامة فارقة ومؤثرة في تجلّي الشعرية وصناعة الذات، وتشكيل حركتها، ومتابعة أشكال تشظيها وتساميها.

في نص (الحافلة تعرف الطريق) ندرك أن الجزئيات أو الكائنات الموجودة في النص أصبحت جزئيات مولّدة للشعرية، في انفتاحها على حركة الذات الشاعرة، فلمبات الإنارة والأشجار والقرود والقطة والريح ليست جزئيات مرصودة منفصلة، لكنها جزئيات فاعلة في عناق دائم مع الذات. فالشعرية هنا تتولّد، وتشكّل حركية جديدة لحظة الفعل في ابتعادها عن النمطي والجاهز، يقول النص (لا أعرف ماذا أقدّم/ لعيونكم المترقبة/ للسطر/ المقبل؟).

وفي صناعته للنماذج البشرية التي نلمح ارتباطا بينها وبين نماذج مؤسسة في شعريات سابقة، مثل شعر عبد الصبور وحجازي، يسدل عليها نوعا من المغايرة والاختلاف، تبدأ من العنوان، وتمتد لتشمل إضافات جديدة للكون الشعري، تتماس مع اللحظة الحضارية المغايرة. فمن يقرأ نصّه (بناية21، الدور الرابع، شقة 406) يشعر أنه- بالرغم من محاولات تفكيك عُرى التناسل والارتباط- مشدود لنصين سابقين، هما (غرفة المرأة الوحيدة) لحجازي، و(المرأة الشمس) لصلاح عبدالصبور. لكن النص هنا يسدل بعض السمات التي تؤسس نوعا من الخصوصية المغايرة، تجعله مشدودا إلى لحظة حضارية، ووعي مغاير، وزمن مختلف لكل نموذج من النماذج الثلاثة، مثل وجود كتالوجات آيكيا، وصور إنستجرام، ومسلسلات نتفيليكس، والمتأمل يدرك بالرغم من اختلاف الإطارات المشكلة لهذه المرأة الموجودة في كل زمان، أن النهاية واحدة في النصوص الثلاثة، وهي تتمثل في الموت وحيدة، يقول النص (ظلت وحيدة/ تتنصّت على غرابيين يتبادلان البصاق في شرفتها/ وعلى الأقنعة الأفريقية التي تحدّق/ في جثتها الملقاة بلا اكتراث).


......................

صحيفة القدس العربي ـ 15 يونيو 2025