31‏/05‏/2008

أمل .. الذي جعلنا نحب الشعر


أمل دنقل هو آخر الشعراء الجاهليين العظام ، يقف بمحاذاة النابغة الذبياني ، وعنترة ، وامرؤ القيس ، وتأبط شرا ، وعمرو بن كلثوم ، يشبههم في لغته المستقاة من عصرهم ، في ثوريته ، في هجائه وفي مديحه ، في بكائياته ،وربما في وقوفه على الأطلال ، و في شاعريته ، يشبههم في أنه يصلح أن يتحول لأيقونة مختلفة تعلق على جدار الزمن ، لكن ربما يبدو السؤال الجدير بالإجابة هنا ، هل كان من الجيد أن يشبههم أم لا ؟
في عصره كان أمل دنقل شاعر مختلفا ، ولهذا عاش حتى الآن رغم موت الكثيرين من شعراء عصره الذين لا زالوا على قيد الحياة ، قرأ التراث العربي القديم وقدمه لقارئه بروح مختلفة ، قدم أمل دنقل قصيدته المتحررة من إطار القصيدة العمودية الساقطة في إسر القافية في قصيدة التفعيلة بشكل يبدو جميلا ، حتى لغة أمل ، صوره ، إسقاطاته ، تبدو مختلفة ، محاولاته أن يكتب قصيدة ملحمية درامية ، هو النوع الذي كان يغيب عن المشهد الشعري العربي .
تحول أمل دنقل إلى أيقونة سياسية ، طغت على كونه أيقونة شعرية ذات نكهة خاصة، ربما لتجربته السياسية شديدة التأثير ، ربما لأن المناخ السياسي العام في الستينات كان يحبذ أن يفرز شاعرا كهذا ، تماما كما أفرز صلاح جاهين الذي غنى لعبد الناصر ، ربما لأن عصر " قلب العروبة النابض " ، " ومن الخليج الثائر إلى المحيط الهادر " كان يحتاج شاعرا يكتب " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " والكحكة الحجرية فيما بعد
هل تتوقف تجربة أمل دنقل عند هذا فحسب ، هل يمكن اختزال تجربة أمل دنقل في أبيات يرددها الثوار في المظاهرات ، وطلبة الجامعة في الندوات السياسية، أعتقد أن أمل دنقل كشاعر أعمق من هذا .

أرفض حبس أمل في خانة شاعر قصيدة " لا تصالح " أو وصفه بأنه مجرد " أمير شعراء الرفض " كما يفضل محبو القصيدة السياسية أن يسموه ، ربما يبدو هذا جزءا من تجربته ، ولكن ليس كل التجربة ، التجربة التي نضجت واتضحت في ديوان " أوراق الغرفة 8 " فقدم قصائد تنضح بالهم الإنساني ، أقرب إلى قصيدة النثر في مفهومها العام .
القصيدة السياسية بالطريقة التي كتب بها أمل دنقل قصائده ، ليست سبة ، خاصة لو قارناها بقصائد شاعر مثل نزار قباني ، حينها سيتبين لنا الفارق : مقدار الخفة التي تسم قصيدة نزار ، و البعد الجمالي والإسقاط باللجوء إلى الأسطورة والتراث الإنساني والعربي القديم والملحمية التي تسم قصائد أمل ، وربما لو نزعنا قصيدة لا تصالح من دلالتها السياسية وتوقفنا عند دلالتها التاريخية الأعم " حرب البسوس بين أبناء العمومة و وصية كليب لأخيه المهلهل بن ربيعة بن مرة " ربما لكانت أكثر شاعرية ، ولكن ربط القصيدة بالسلام مع إسرائيل والإسقاط السياسي المباشر قد أضرا بها .
أمل دنقل ظاهرة شعرية مهمة ، وإلا ما كان يجري الاحتفال به ، وتذكره كل عام ، يبدو مختلفا حقا عن كل شعراء جيله ، تبدو ثقافته مختلفة ، لغته الشعرية ، صورته لدى قارئه مختلفة ، قد يختلف البعض مع بعض ما كتبه ، لكن أحدا لا يستطيع نفي شاعريته وتأثيره في مجمل القصيدة التفعيلية ، كما لا يمكن الحديث عن فترة الستينات والسبعينات بالفوران السياسي ـ الحقيقي ـ الذي كانت تموج به تلك الفترة ، من غير أن نتذكر أن أمل دنقل رصد كل هذا في قصائده ، لكن كيف رصده ؟ ، يبدو هذا سؤالا آخر جديرا بالإجابة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*اللوحات من قصائد أمل دنقل للفنان الراحل حامد العويضي
*شهادة نشرت في جريدة أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات: