15‏/01‏/2009

عيون غير مكتملة


كان الوقت يقترب من منتصف الليل فيما الميكروباص يشق شارع فيصل ، كنت منكفئا على كتاب في يدي يقطع ملل الطريق ، وصوت السائق يردد متصاعدا : الأستاذ أبو نضارة .
انتبهت فجأة إلى صوت السائق الذي تكرر ، تلفت ، كانت السيارة خالية إلا مني ، لم أهتم كثيرا بصوت السائق الذي تابع :
- سلامة السمع ، الآخر يا أستاذ
فقط أنتبهت إلى أنني " الأستاذ أبو نضارة " .
كان قد مر عام تقريبا منذ ارتديت نظارة طبية لأول مرة في حياتي ، لكنها كانت المرة الأولى التي يناديني فيها أحد " أبو نضارة " ، أو ألتفت إلى أن الأمر يلفت اهتمام الناس إلى هذا الحد .
ما قاله الرجل كان طبيعيا ، غير الطبيعي كان هو اهتمامي المبالغ ، لدرجة أن أعود إلى المنزل وأنظر في المرآة : هل أنا بنظارة فعلا ؟
حين ذهبت لطبيب العيون للمرة الأولى ، بعد ألم طال طويلا ، وزغللة في العينين ، قال لي : المفروض كنت لبست نضارة من زمان . لكن حينما استلمت النظارة من البائع ، وسرت بها لأول مرة في الشارع شعرت أن هناك فاصلا بيني وبين الحياة ، أن ما يجري في الحياة من خلف النظارة شيء ، وأنا شيء آخر ، وحين عبرت الشارع المزدحم ، كنت مترددا ، أو خائفا من أن أخطئ حساب المسافات من خلف النظارة فتصدمني سيارة .
أحد الأصدقاء الطيبين قال لي : ده شيء طبيعي ، لكن هتتعود بعد كده .
في مرحلة ما من العمر كانت النظارة من مكملات الشياكة ، وأذكر أنني في الصف الثالث الإعدادي اشتريت نظارة بخمسة جنيهات ، حتى أكون شبيها للكتاب الذين أقرأ لهم ، أنا الذي كنت أطمح لأن أصبح واحدا منهم فيما أقضي جل يوم في القراءة ، لكنني أدركت بعد ذلك أن الكتاب ليس شرطا أن يرتدوا نظارة حتى يصبحوا كذلك .
ما أذكره أيضا أن النظارة كانت تتحول في قريتنا أحيانا سببا للمعايرة ، بأن لابسها قد فقد بصره ، أو كاد ، أذكر أيضا أن أحد أعمامي ضعفت عيناه بسبب السن ، ونصحه الطبيب بأن يرتدي نظارة ، لكن خوفه من كلام الناس جعله يرفض ذلك ، فماذا يملك الرجل في الريف سوى صحته وعينيه ، لكن مع تراجع البصر اضطر إلى لبس نظارة ، لكنه كان يلبسها فقط حين يكون في البيت بين أبنائه ، ويخلعها إذا خرج ليجلس على المقهي .
لم أفرح بالنظارة ، ولم أعلقها في جيب القميص كما كان يفعل بعض الزملاء في المرحلة الثانوية ، أو أضعها في الجراب وأضع الجراب أمامي كما يفعل الكثيرون ، لأنني ببساطة ، أكتشف ذلك الآن ، لا أرتدي نظارة شمس ، بل إن نظرت إلى الذين يرتدونها الآن تكاد تقول : يا لكم من مرفهين .
بعد عام ونصف تقريبا ، من ارتدائي النظارة ، ذهبت لإجراء كشف صحي ، طلبوه مني في العمل ، فاكتشفت أن الدوائر غير المكتملة عند طبيب العيون عادت لتهتز مرة أخرى ، ولا تبين نهاياتها ، أحكي للأصدقاء فينصحونني بالذهاب مرة أخرى إلى الطبيب لأنه من الطبيعي أن أغير النظارة كل عام ونصف .
أبحث عن رقم الطبيب ، لا يرد ، في اليوم التالي يرد الممرض بعد ممانعة :
ـ من فضلك دي عيادة دكتور فلان ؟
ـ ......
ـ طيب أنا كنت كشفت من سنة وعاوز أعيد الكشف
ـ .......
ـ قصدي عاوز أكشف تاني عشان نظري ضعف أكتر
يقول الممرض أنه ممكن أكشف عند ابن الطبيب ، فهو متخصص في العيون أيضا ، أسأله
ـ طيب بالنسبة للدكتورفلان
يرد بحيادية : تعيش إنت .
البصر الذي يذهب رويدا ، أكتشف أهميته وأنا أحدق في شاشة الكومبيوتر و أكاد لا أرى ، أو وأن أضطر للنوم من الثامنة مساء بسبب ألم حارق في العينين ، أو حين أضطر لترك متابعة فيلم أحبه لأنني لا أميز الوجوه جيدا ، أو حين يناديني سائق ميكروباص : الأستاذ أبو نضارة .

هناك تعليقان (2):

mostafa rayan يقول...

الكلام دة كأن انا اللي كاتبه بالظبط
انا فعلا لما بدات اتعامل مع الكمييوتر اضطريت البس النضارة وقالي الدكتور نفس الكلام كان لازم تلبسها من زمان
ربنا يستر
تحياتي ليك ودمت بخير

أسما عواد يقول...

الله إيه حكايتك يا محمد
هو انا كل اللي بفكر فيه بتكتب عنه
جنى المصباح ولا إيه أفكاري أوامر ولا إيه؟
طيب تصدق اني أنا وأنا في نفس مرحلتك اللي كتبت عنها سرقت نظارة ماما عشان اتباها بيها قدام صاحباتي ودلوقتي عنيا بتوجعني لنفس اسبابك
وانا برضو الناس بتنبهني في المواصلات او في اي مكان وانا بقطع الوقت بالقراءة بكلمة الآنسة أم نظارةوأحيانا ام كتاب