04‏/02‏/2010

'طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء' لمحمد أبو زيد: قصيدة النثر محتفية بالرموز الروحية الخاصة



محمود قرني

كثيرا ما شغلتني فكرة 'إنسانية النص الإبداعي' ويبدو أن هذه الخصوصية أكثر إلحاحا في الشعر دون غيره من الفنون، ربما لأن إرثه التاريخي ـ كأول الفنون ـ يتصل اتصالا وثيقا بالأنشطة الروحية للأماكن بما يحمله ذلك من خصوصية وفرادة، وربما أيضا باعتباره حالة رمزية من حالات إعادة انتاج الماضي، فهو يتغذى على فكرة اللا زمنية بكوابيسها المبهجة أحيانا والمقبضة في معظم الأحايين.

ففي بداية التسعينيات، مع موجة الصعود الواسع لقصيدة النثر، كان ثمة مواصفات محددة، على الشاعر أن يسير بمحاذاتها، لا يسبقها، ربما كانت تسبقه دائما.

لذلك ورثنا ـ بسرعة البرق ـ أطنانا من الدواوين التي كتبتها إرادات فردية انتهت إلى صوت واحد، يغرد أو يتخبط داخل النمط نفسه، أقصد القفص الجميل الذي أخذناه عن سوزان برنار ومدرسة 'شعر'، ولم يؤثر في إرادة هذا الصوت، الذي تحول الى صوت جماعي، قيام كل شاعر بكتابة قصائده في خلوته المعتادة، مع كائناته الخاصة وحكاياته المنفردة، فالاندفاع الى الانتظام في الصفوف كان يمثل رغبة محمومة، رغم أنه فعل من أفعال التكيف التي يقاتل الشعر من أجل الخروج على طوقها.

كان استثمار المرجعية الأوروبية، واستحلاب النصوص المؤثرة فيها، ثمنا لا بد لكثيرين أن يدفعوه، وكانت نداءات حارقة ـ هنا وهناك ـ حول حتمية التخلص من الخصوصية المحلية، باعتبارها جزءا من ميراث الدولة القومية التي شارفت على الرحيل، او رحلت بالفعل، باختصار هي ميراث الثوار الذين مضى عهدهم، هؤلاء الملاعين الذين لا يكفون عن استبطان الغناء لأوطانهم.

ويبدو اننا نكتشف الآن حجم الجريمة التي ارتكبناها ـ نحن الشعراء ـ في حق أهلنا، ديوان محمد أبو زيد يقول ذلك، ربما لم تكن جريمة كاملة ومدبرة تمتلك أركانها، إنها أحيانا جريمة جهل بسيط وأحيانا جريمة جهل مركب، وفي معظم الأحايين كانت تمثل الطريق الخطأ الى الشعر، فقد قرأنا شعراء يكتبون عن المطبخ الأمريكي والطائرات الورقية على شواطئ الراينو وهم يسخرون من عطن حاراتهم وأوجاع أمهاتهم، ويشترون وردات حمراء بلاستيكية من أجل حبيبات سيأتين حتما من وراء الأطلسي.

وعندما قرأت ديوان 'قوم جلوس حولهم ماء' للشاعر محمد أبو زيد، وهو الديوان الوحيد الذي قرأته له قبل ديوانه الجديد، أدركت انني لم اكن وحيدا، ثمة انسيابات شعرية جارفة، عبر لغة شديدة الطزاجة، تتشكل في مناخات سحرية، تكتظ بروائع الأم والإخوة والفقر والأصدقاء والتسكع في الشوارع والنضال من أجل القيم الرفيعة، التي كانت موضع سخرية ما بعد الحداثة.

كان الديوان شارة مخلصة تقول للأنبياء الكذبة: كفوا عن هرائكم، لقد أخطأتم الطريق إلى الشعر.

منذ ذلك الحين شعرت أنني أنتمي لهذا الشاعر، وأنه ينتمي إليّ، فربما كانت أمه هي أمي، وربما كانت القرى الدارسة التي ينعيها هي قراي، باختصار احتضنت شعرية محمد ابو زيد بفرح غامر، وأسعدني بقدر ما أمضني ألمه الإنساني النبيل، الذي يفيض عن حاجة الديوان، واستشعرت قيمة جديدة تتشكل في ظلال ما ناضل كثيرون من أجله.

وها هو الشاعر يفاجئنا بديوانه الجديد 'طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء 'ليستكمل حلقة جديدة من تجربته، حيث تتشكل عناصر أساسية، وتتجسد بشكل أكثر جلاء، فثمة رغبة في التهكم والسخرية، رغبة في امتهان الخوف، إنه يضع كل الطواطم التي تخيفه على المنضدة، يحولها الى أجساد من لحم ودم، ليقتلها، ربما لذلك يتبدى الموت والعنف كأعلى مفردتين في الديوان، يتجلى ذلك منذ الإهداء المأخوذ عن 'الخلود' لـ'كونديرا' انتهاء بآخر قصائد الديوان 'مشنقة متحفزة كمن يمارس عمله لأول مرة'.

لنتأمل عنفه المتواتر عندما يقول: 'افرحوا بالفيضان، ارقصوا للعواصف ابعدوا البكاء عن النار'، من قصيدة 'سأقابل الله، وأشكوكم له'، وقوله 'أمي زرعت فوق قبري صبارة قبل أن تموت ثم حكت لي حكاية للنوم من تسعة أجزاء، عن دراكولا الطيب، دراكولا الذي لايستعمل معجون الأسنان' 'من قصيدة عبدالله البري يكره عبدالله البحري، والجوى حائر بينهما'، ثم يتحدث عن الموت بإنسانية مفرطة كأنه رفيق ويقول: كيف لا تعرفون الموت، كيف لا تحبون لون عينيه، ولا تتركون اولادكم يلعبون معه في الظهيرة، أنا الذي أراه كل يوم، أستند على يده في صعود السلم' من قصيدة 'أنا القبطان' لا، أنا السفينة'، ثم يصل القارئ مع شاعره الى اقصى حالات تَشَيُّئه في قصيدة قصيرة ودالة هي 'محاولة للتآمر على الملونين'، يقول محمد أبو زيد: 'الأطفال الذين بلا ملامح الذين يوجعون قلوبنا من شدة التأثر ـ ستناديهم أمهاتهم بأرقامهم ـ تعالى يا ولد يا ثلاثة عشر ـ اذهب يا ولد يا أربعة عشر'.

إذن بقي لدينا عالم مفرط في موته وعنفه الطقوسي، العالم الذي تبكي يده اليسرى ليلا على ما فعلته يده اليمنى نهارا، يذكر إدوارد سعيد أنه قبل عقود قليلة كانت تعتبر النشاطات القومية والإنسانية في مجتمعات أصيلة وعريضة مناهضة لنشاط المستعمر، وكانت الامبراطورية البريطانية تعتبر ان المقاومين في مصر والهند حفنة من الضباط الطامحين الصاعدين المدعومين ببعض المثقفين الذي ولعوا بقراءة أعمال لامارتين، فما الذي يفعله الشاعر إذن في مواجهة مثل هذه التفكيكات العنصرية سوى السخرية من الموت ومواجهة العنف بالكثير من الامتهان؟

إن الشاعر هنا يستعيد لامارتين نفسه، لا يستعيد موته حتى لو تكللت صورته بالكثير من الرومانسية، يتجلى ذلك في تلك السخرية الأعظم والأشد عمقا والموجهة للشاعر نفسه، والشعر معه، هذا الهيكل المقدس الذي تعامل مع نفسه دائما باعتباره الشكل الأعلى للكلام، يقول الشاعر: 'هذا ميعاد مناسب لتحطيم الشعراء وتعليق الفأس على كتف كبيرهم ـ كبيرهم الذي سيبص من بين الغبار ويدمع كآنسة في آخر عربات العمر ـ يتمخط في ذيل جلبابه' هذه صورة الشاعر في قصيدة 'إنهم يأكلون البنجر فوق السلالم' لقد تحول الشعر هنا الى وسيلة للمعرفة، وسيلة لإعادة صياغة مصير الإنسان الذي مل من بلاغة القرن العشرين ومن إحاطته رموزه بامتلاك المصير الإنساني، ومن ثم امتلاك الشكل الأعلى للطوطمية، أو عبادة البلاغة بمعناها اللغوي والإنساني معا، إن فعل السخرية من الشاعر يبدو للوهلة الأولى مسرفا في الإضحاك، لكنه يبدو كذلك تحولا مفاهيميا وإنسانيا يدفع الشاعر لركل كل قداسة حتى لو كانت تصب في حجرة، حاملة تناقضات الماضي، وهو في الإجمال فعل تحرير كامل، وهي رسالة الشعر الأولى كما يراها السرياليون، والشاعر هنا لا يصدر عن إرادة فردية، فجميعنا يحتاج الى السخرية من الشاعر، ذلك الملعون الآبق الذي غرر بنا وبالتاريخ واحتكر الكهانة، لذلك كان يقول لوتريامون 'إن الشعر يجب أن يصدر عن الناس جميعا لأنه بالأساس يدافع عن صفائه كما يدافع الإنسان عن حريته'، إن الرغبة هنا تكمن في حتمية نزع القداسة عن هذه الطواطم ـ وثمة فرصة لأن يستعيد الإنسان صوته عبر صوت الشاعر، ذلك الذي بات 'يتمخط في ذيل جلبابه'.

إن الشعر هنا يلخص موقفه في أنه مطالب بأكثر من أي وقت مضى، بأن يدافع عن الإنسان كما دافع لامارتين، والمتنبي، والغزالي، وابن حزم، وبودلير، وسان جون بيرس، وأبي حيان، وابن خلدون'، والكلمة وحدها يمكن فهم إمكاناتها وغفران تطاولاتها وتحولاتها في الروح.

الكلمة لدى الشاعر هنا غصن شائك يثور على فصاحة القرن وكثرة أحاجيه والتباساته، حيث تحولت الحياة الإنسانية الى نشاز تدعمه أصوات المدافع ويكلله العار.

إن مناخات الإدانة التي تكلل قصائد الديوان تتجاوز ـ عبر وعي الشاعر ـ كونها موقفا أيديولوجيا، بل هي تنأى بعيدا عن قراءة من هذا النوع، لذلك حققت شرطها الإنساني الأوسع، أقصد تأكيد المعنى الذي أشرت إليه في المقدمة، الذي يخلص إلى ضرورة إمعان النزر في مقولة ما بعد الحداثة، التي تنتهي الى كيفية ومعنى 'تدويل الرمز المحلي' بالمعنى السياسي، و'الخفض من شأن الخطاب الأيديولوجي' في تجليه الثقافي. كيف يمكن تحقيق هذه المزاوجة إذن؟

أي كيف يكون النص مفتوحا على الجرح الإنساني بعامة، دون أن يقمع أو يستهين بالرموز الروحية التي ينتمي إليها، أظن أن عددا من القصائد القصيرة والفاتنة التي يضمها الديوان تجيبنا على هذا السؤال.

'كلمني شكرا' هو الجزء الذي تتخلق بداخله هذه القصائد، حيث تتبدى استجابة الشاعر ما بعد الحداثي لرمزه الثقافي الجديد 'الإنترنت' الذي يتحول من كونه رمزا لثورة العقل الى كونه تجليا رمزيا لإنسانية الفعل المعرفي، ولنتأمل تلك العلاقة العميقة التي تنشأ عبر كابلات الألياف الضوئية بين الشاعر وبين 'رايان' في قصيدة 'أنا رايان من أمريكا' حيث يقول: 'أبي ميت ـ أمي مصابة بالشلل ـ أختي ماتت منتحرة ـ جدتي تخيفني بحكايات قبل النوم' ثم تنتهي القصيدة بين 'رايان' والشاعر على هذا النحو 'عيد ميلاد سعيد يا رايان ـ قلبي مصفاة للفرح يا محمد ـ أنا لا أفهم الفرنسية يا رايان ـ وأنا قعيدة يا محمد ـ كيف أنهي القصيدة إذن؟'، ثم يتبعها الشاعر بقصيدة أكثر إيلاما هي 'رايان مصابة بالـ'CANCER' يقول الشاعر: 'كيف يغني مرضى السرطان في أعياد الميلاد؟ كيف يرقص ذوو الأقدام المقطوعة ـ وهم لا يحفظون اللحن؟' ثم نكتشف في بقية القصيدة تهاوي جسد رايان أمام السرطان، ويتوالى بتر أعضائها ومع ذلك لا زالت تملك قوة الفرح وقوة الأمل عندما تقول 'غدا سأعود آدمية ـ لي ساق وأصدقاء ـ وبيت لا يشبه المستشفى'.

ثم تأتي قصيدة 'رايان تقابل نيكولاس كيدج في غرفة الإنعاش' وتتوالد عبرها ذكريات طفلية حميمة تبدو تحت تأثير المخـــدر، وتنتهي القصيدة بالشاعر الذي يدافع وحيدا عن رايان وهو يقول 'العالم سيئ جدا في الخارج يا رايان ـ وأنا لم أعد أحتمل ـ أحاصر اعداءك ـ أقتلهم في القصائد فحسب ـ أغسلهم بالسل والدرن والكوليرا ـ ثم ألقي بجثثهم من القطار ـ القطار الذي يشق الظلام بي وحيدا ـ ولا يعرف وجهته'.

إن تلك العلاقة التي تتفتق بهذه الروحية قادرة على صنع مشتركات إنسانية مفرطة رغم تباعد المسافات واختلاف اللغات والثقافات والمرجعيات، في وقت ظل الشاعر فيه حفيا بخصوصيته الروحية، بقيت ملامح الرمز الثقافي والمكاني شاخصة وبقيت اللغة الشعرية الرهيفة والهشة، وبقيت كذلك قوة الشاعر المهزوم المتألم، الذي يملك خياله فحسب، فقد جرده عنف العالم من مدركاته الطبيعية، لذلك فإن عداءه مع هذا العالم هو نوع من الاستبصار لإعادة صياغة في إطار الحلم الإنساني القديم بتحقيق العدل والحرية بعيدا عن الأيديولوجيا، وخطابات السياسة وشراكها وتلفيقاتها، وهكذا تتحقق أعلى قيمة الإنسانية في النص الشعري بحيث تصبح ماسة بكل الألوان والأجناس دون أدنى فروق.

بقي لدي ملاحظة حول الديوان الخامس للشاعر محمد أبو زيد، إنه حقا الديوان الخامس الذي بين أيدينا، أي أن شاعرنا ـ كما تنبئ بطاقة تعريفه ـ يمضي لا زال في عامه الثامن والعشرين وقد أصدر خمسة دواوين، ولست أعرف ما إذا كان هذا العدد من الدواوين يكفي للتوقف وإعادة التأمل من جديد، لقد صنعت مثل هذه الأعداد من الدواوين شعراء كباراً، فلماذا يتعجل الشاعر أمره، فلو أن الشاعر توقف من دواوينه الأولى أمام الكثير من إنشائيته وتقريريته لاستبعد كثيرا من قصائده.

فثمة قصائد تحتاج فعلا الى جرأة، تلك القصائد التي يتغلب فيها ضمير المخاطب، وتحضر الذات بثقل كبير، يعزز النزوع الفردي، وتتكاثر الغنائية حتى تقع بقصيدتها في الرطانة، مما يدفع الى الاعتقاد بضرورة الاقصاء والاستبعاد، يبدو ذلك في العديد من قصائد الديوان.

وفي ديوان 'قوم جلوس'، هذا فضلا عن الإسراف أحيانا في مجاوزة الصورة الشعرية حد الاحتمال وأحيانا حد الاستهلاك مثل: صراخ منزوع الدسم، التراب فقط يلعب دور الشبكة في كرة اليد، السلم نايلو ف نايلو، درجاته متساوية كشواهد القبور، صوت محمد عبدالمطلب الذي يغني للهوتميل، أكاد أشك في أم كلثوم لأني أكاد أشك فيك وأنت مني، أنت جميلة كمقبرة رجل مؤمن'، ومع ذلك تظل شعرية محمد أبو زيد واحدة من الشعريات الفريدة وسط شعراء جيله، بل وسط شعراء قصيدة النثر بحيث يمكننا أن نعول على مشروع شعري قادم لا محالة.

وبالقطع سوف يكون الطريق لإنضاج ما هو نيئ في هذه التجربة واضحا وملموسا لدى الشاعر الموهوب، حتى لو التبست بعض المضامين أو الأشكال، ومن منا لا يلتبس عليه الشعر، ولعلي أذكر نفسي في الختام بقول أندريه جيد 'يحدث ذلك دائما، فالدافع الخفي لأفعالنا يفلت منا' فمن يعيدنا الى الصواب؟!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة القدس العربي

ليست هناك تعليقات: