29‏/05‏/2011

أثر النبي.. الشاعر روائياً

فريدة النقاش

شيخ الطريقة الذي أجلسني بجواره في إحدي حلقات الذكر في مسجد الحسين قال لي:

«اعرف الفارق بين العلامة والأثر».. ثم يضيف الشيخ «إن الفارق مثل ما بين الحياة والآخرة فاتبع العلامة، واترك الأثر.. كلنا نبي نفسه، فالبس رداء تقشفك، واترك الناس تتبع أثرك». وهناك صندوق يضع فيه «أدهم صبري» الراوي في رواية أثر النبي «لمحمد أبوزيد» كتبا وصورا قديمة وقصاصات صحف.. ويتساءل هل هذا الصندوق هو أثري الذي سأتركه أم علامات مرت؟ فهل يبحث صاحبنا عن خلود ما هو التواق إلي السفر، الحالم بالطيران «فاردا ذراعي كلاعب سيرك يخاف من السقوط أرفع يدي لأعلي لكنني لا أطير يا زينب».

«زينب» هي الحاضر الغائب لا تطل علينا أبدا في الرواية لكنها ملاذ صاحبنا الطالب الذي ينتقل من مكان بائس لآخر أشد بؤسا يهرب «من عالم ضيق، فأجد العالم يضيق أكثر» عالم يقف علي أظافره في انتظار أن تدق الشرطة الباب في أي لحظة «احتمال أن يرجعوا مرة أخري، يدقوا الباب فيقتلوني حين يجدونني وحيدا».. فنحن أمام مدينة بلا قلب وبوسعنا طيلة قراءة النص أن نستعيد الديوان الأول بهذا الاسم للشاعر «أحمد عبدالمعطي حجازي» كما نستدعي قصيدته «لا أحد» ففي هذه الرواية الشعرية «الغرباء يموتون هنا دون أن يحس بهم أحد»، ومعظم شخصيات الرواية هاجرت من الريف إلي هذه المدينة الموحشة التي لم يجدوا فيها سوي القهر والقمع علي كل المستويات وطنية حيث ينتهي القص بالغزو الأمريكي للعراق، وشعور الجميع بقلة الحيلة إزاءه، واجتماعية حيث الرزق الشحيح والمساكن الخانقة والأحلام المجهضة، وروحية حيث التمزق بين حلم الشخصية الراوية بالطيران وضغوط الإخوان المسلمين الذين يحرمون القصص وكل أشكال الفن، ويحلق الموت بين هذه العوالم كلها كأنه طائر الرخ، فمن موت حقيقي «لعادل هياكل» زميل السكن الذي وصفوه هذا الوصف بسبب مرض السل الذي أكله إلي الكتب «عن عذاب القبر» وعلامات الساعة الصغري التي يعطيها له الرجل المكلف بتجنيده لحركة الإخوان.. ويجد الراوي أنه بذلك يخرج من نفسه الحقيقية إلي نفس أخري «أتخلي عن وجهي وأرتدي وجها آخر»، هذا بينما تبدأ الرواية «بالدم» في فصلها الأول حيث ينزف عادل وتنتهي بتصريح بالدفن أي أننا بصدد بنية دائرية تبدأ بالموت وتنتهي من حيث بدأت.

ولمثل هذه البنية دلالات كثيرة، فهي اغتراب حيث يدور الراوي حول نفسه، وهي انغلاق دائرة القمع واللوعة التي تعيشها الشخصيات في بحثها المضني عن ثغرة، وذلك كله علي خلفية من الكدح موت الأم وتسلط الأب وزوجته.

تنفتح ثغرة في الدائرة المغلقة فقط في حالة التصالح مع العالم التي يجريها الراوي أثناء غزو أمريكا للعراق واندلاع المظاهرات الاحتجاجية «كنا نوصل الطعام يوميا إلي الطلبة المحاصرين وأشعر أنني قد بدأت أتصالح مع الناس.. مع الشوارع» إنه التصالح الذي يتم فحسب في حالة الفعل الإيجابي من أجل هدف كبير يتجاوز الأشخاص.

يلجأ الكاتب إلي السخرية حين يتعامل الراوي بمنتهي الجدية مع «حجازي» رفيقه في السكن الذي تخيل أنه ممثل وقام بدور «ضجيج في المقهي»، ولكننا أيضا سوف نبتسم ساخرين حين يخبرنا أنه كان يقرأ في المترو والباص والترام ونحن نتساءل كيف كان يفعل ذلك حقا؟

نحن بصدد نص أدبي جميل مفعم بالمشاعر كتبه شاعر فيه اكتناز وكثافة في اللغة الآسرة بادئا بالمعرفة كألم في مفتتح الكتاب يقول في مناجاته «لزينب» التي هي قارب نجاته «هنا خنتك يا زينب، أنا الذي أعرف كل شيء، وأنت التي لا تعرفين، أتذكر فأتعذب» ويتشبع النص بمقتطفات من أشعار الصوفية إضافة للتاريخ المكثف للصمود أمام العدوان الذي يحكيه محمود المليجي في فيلم «الأرض» كمقدمة لفصل الحرب.

يستطيع «محمد أبوزيد» أن يطمئن بعد روايته الشعرية تلك إلي أنه ترك أثرا حتي وهو «ينتقل من شارع لآخر كتابع يبحث عن نبيه» فهو نبي نفسه كما قال له الشيخ وحتي بعد أن أصبح حلم الطيران جريا في الطرقات اتقاء للألم وبحثا عن معني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في جريدة الأهالي

ليست هناك تعليقات: