06‏/08‏/2012

خريف الثقافة في ربيع الإخوان

في مؤتمر صحفي كبير، عقد بمقر نقابة الصحفيين ظهرالأربعاء 3 مارس 2004، 12 محرم 1425، وقف المرشد العام للإخوان المسلمين، في ذلك الوقت، محمد مهدي عاكف ليعلن، مبادرة الإخوان للإصلاح في مصر، نشرت نصها جريدة آفاق عربية، وموقع إخوان أون لاين.
المبادرة التي جاءت في ثلاثة عشر محورا، كان الإصلاح في المجال الثقافي، هو محورها قبل الأخير،  وقد قال فيه عاكف ما نصه "نحن نؤمن بضرورة أن تنبثق ثقافتنا من مصادرها الإسلامية, تنميةً للفرد والمجتمع, وهذا يتطلب إصلاحاً جاداً لمفردات الثقافة القائمة ووسائلها من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز, بحيث تتأسس مادتها وتنطلق من المبادئ والقيم الإسلامية, تربية للفرد, وتعميقاً لهذه المبادئ والقيم في وجدانه, وذلك لحمايته من التغييب والتغريب, وبما ينأي بها عن مواطن العبث بالمبادئ الأخلاقية والسقوط في هاوية الفحش والبذاءات وما توافق الناس جميعاً علي تسميته ببرامج ومسلسلات وتمثيليات هابطة تخدش الحياء وتشيع الفحش, وتقوية هذه الوسائل بما يجعلها قادرة علي مواجهة عصر السماوات المفتوحة والفضائيات الوافدة, والإتصالات والمعلومات فائقة الزَّخم والسرعة".
وأضاف عاكف "وعليه, فيتمثل الإصلاح الثقافي - في نظرنا - فيما يلي : 1- صياغة رشيدة لنظام التعليم، 2- صياغة واعية للإعلام المقروء والمسموع والمرئي، 3- حرية وتدعيم نشر الكتاب، 4- تشجيع الندوات والمؤتمرات والمعارض، 5- تشجيع السياحة العلمية وسياحة المؤتمرات، 6- إعادة النظر في دور المجلس الأعلي للشئون الإسلامية, وكافة المؤسسات الثقافية, بما يكفل الإصلاح الثقافي المنشود، 7- ترشيد دور السينما والمسرح, بما يتفق ومبادئ وقيم الإسلام".
هذه الرؤية شديدة التقليدية والمحافظة للثقافة، و"الإصلاحية"، من وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين، والتي طرحها مرشد الجماعة السابق قبل ثماني سنوات، تبدو جديرة بالتدبر والقراءة الآن، خاصة أنها لم تتغير، ونحن نتابع طريقة اختيار وزير ثقافة مصر بعد الثورة، وبعد وصول الجماعة إلى الحكم، والذي من المفترض فيه أن ينفذ مفردات "مشروع النهضة"، في المجال الثقافي.
غير أن اللافت، والمثير للسخرية والأسى في آن، أن مشروع النهضة، الذي فاز من أجله الرئيس محمد مرسي، بالرئاسة، لا يحتوي كلمة واحدة عن تطوير المشروع الثقافي، وإذا كان البعض سيرى ذلك جيدا، حيث أنه سيعني ابتعاد الجماعة الدينية عن الثقافة، وأن الثقافة ليست في أولوياتها، إلا أنه يعني أيضا أن الجماعة لا ترى في الثقافة ما يستدعي النهضة، ولا ترى أن الثقافة، بأفرعها المختلفة من أدب وفن ومسرح، هي التي تصنع النهضة وتبني الأمم، ولا تعرف أن عبد الناصر في الستينيات، استطاع أن يؤثر في العالمين العربي والإفريقي، ليس عن طريق الاستعمار ولا الغزو، ولكن عن طريق القوة الناعمة الحقيقية لمصر، وهي الثقافة، ومن المهم هنا أن نذكر أن الرئيس محمد مرسي في خطبه الأولى، عقب توليه الرئاسة، لم يشر من قريب أو من بعيد إلى المثقفين والمبدعين، رغم أنه ذكر فئات مجتمعية مختلفة.
لذا فإن خلو  مشروع النهضة، من أي حديث عن الثقافة، أو تنميتها أو تطوير مؤسساتها أو دورها، يثير المخاوف من تهميش هذا الدور، الذي يبدو غائبا في مشروع الجماعة، كما كان غائبا في تاريخها، لحساب مشروعات أخرى. ولا يعني هذا اعتراضا على ما جاء في البرنامج من مكافحة الفقر، والبطالة، وتحسين أوضاع العمال والفلاحين، ومواجهة ظاهرة أطفال الشوارع، وتحسين أوضاع أصحاب المعاشات، ومنع التلوث ومحاربة منظومة الفساد.. إلخ. فكل هذا حسن في حال تحققه، لكن يبقى السؤال: أين الثقافة؟.
لكن قبل الحديث عن  طريقة اختيار أول وزير ثقافة لهم بعد وصول الإخوان إلى الحكم، يبدو من المهم أن نقرأ أيضا طريقة اختيار وزير الثقافة في الفترة الانتقالية، التي حكم خلالها المجلس العسكري مصر، حيث يلاحظ أن جميع الوزراء، تقريبا، جاءوا من المؤسسة الثقافية الرسمية، أو من العاملين في مؤسسات الدولة بشكل عام، وينطبق هذا أيضا على باقي المؤسسات الثقافية، مثل المجلس الأعلى للثقافة، ويبدو ذلك متسقا مع التفكير العسكري، الذي يؤمن بالتراتبية الهيراركية في تولي المناصب، وترقية البعض، لتولي المسئولية، ولهذا لم يثر اختيار وزراء الثقافة احتجاجا في الوسط الثقافي.
لكن إذا انتقلنا لطريقة اختيار الرئيس محمد مرسي لرئيس حكومته ووزير ثقافته، يبدو من المهم أيضا في البداية، أن نتحدث عمن اختارتهم الجماعة ليمثلوا لجنة الثقافة والإعلام في مجلس الشعب "المنحل"، حيث جاء على رأس اللجنة، محمد عبد المنعم الصاوي، وهو أحد المرشحين للوزارة الذين قابلهم رئيس الوزراء هشام قنديل لتولى المنصب، وخرج بعد اللقاء ليتحدث عن أهمية ضم وزارة الآثار إلى وزارة الثقافة، لضمان تمويل الأنشطة الثقافية.
ومن اللافت هنا، أن الإخوان المسلمين، في الحالتين، تغاضوا عن اعتراض المثقفين على تولي الصاوي الوزارة  في حكومة أحمد شفيق، بل إنه كان أقصر من تولى المسئولية في عدد أيام لا يتجاوز أصابع اليدين، وكانت المبررات وقتها أن الصاوي رجل أعمال يدير مشروعا تجاريا في جوهره "ساقية عبد المنعم الصاوي" كما أنه يقدم ثقافة "هشة"، ليس لها علاقة بالبعد الثقافي المصري، فضلا عن قيامه بالرقابة علي الأعمال الفنية المعروضة في الساقية، ومصادرة بعض الأعمال التي يرى أنها مخالفة للقيم الدينية من وجهة نظره.
ورغم أنه تم اختيار الدكتور صابر عرب وزيرا  للثقافة، إلا أن رئيس الوزراء كان قد قابل أيضا الدكتور أسامة أبو طالب الأستاذ بأكاديمية الفنون، رئيس البيت الفني للمسرح الأسبق، أحد المرشحين للمنصب، وهو ابن أحد القيادات التاريخية للجماعة في الشرقية، كما أن له عدد من الكتب والدراسات في المسرح الإسلامي، مثل و"البطل التراجيدي مسلما"، و"الإسلام وظاهرة التراجيديا"، ومن الملاحظ هنا أن من كانوا يقومون باختيار وزير الثقافة كانوا  يفكرون خارج توقعات المثقفين، ولا يفكرون خارج صندوق الجماعة المحافظ والتقليدي، ففي حين يتحدث البعض أن الوزارة قد تحتاج مثقفا في هذا المرحلة للحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، تأتي اتجاهات اختيار الإخوان إما في اتجاه تسليع الثقافة، عن طريق اختيار وزير يؤمن برأسمالية العمل الثقافي، أو في اتجاه  اختيار وزير محافظ بخلفية إخوانية.
وفي ظل خروج الرموز ذات الرؤية الإصلاحية من الجماعة مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والدكتور محمد حبيب، وسيطرة التيار القطبي، ربما يكون من الضروري قراءة رؤية الإخوان المسلمين للثقافة، وما الذي تعنيه بالنسبة لهم في تفرعاتها المختلفة، من شعر، ورواية، ومسرح، وسينما، وموسيقى، وفن تشكيلي، وتتبع ما قدمته الجماعة أيضا عبر تاريخها الطويل "84 عاما"، وما قدمه أعضاؤها في هذه المجالات، وما تنوي تقديمه أيضا خلال الفترة القادمة.
لا يرى الإخوان الأدب إلا أدبا إسلاميا، يساعد في تأكيد هذه الفرضية وجود رابطة الأدب الإسلامي العالمية والمنتشرة في أكثر من 22 عاصمة عربية، والتي أسست عام 1982، وأيضا وربما يمكن الرجوع في هذا إلى معظم الكتب التي وضعوها، على مدار العقود الماضية، للتنظير لتلك القضية ويمكن هنا ذكر كتب من عينة "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، لنجيب الكيلاني، و"نظرية الأدب في ضوء الإسلام" لعبد الحميد بو زينة، و"مقدمة  لنظرية الأدب الإسلامي"، لعبد الباسط بدر، و"مقدمة في دراسة الأدب"، لكن يغيب في تاريخ الثقافة المصرية والعربية ذكر أي مبدع إخواني، سواء كان شاعرا أو روائيا، اللهم إلا نجيب الكيلاني، الذي قدم عددا من النصوص المحافظة، ويرصد مسعود حامد في دراسة له عن الكتابات في مجلة الأدب الإسلامي الصادرة عن الرابطة سالفة الذكر، فيجد طغيان مذهب نقدي  بعينه وتبنيه بديلا وحيدا للنقد الإسلامي هو النقد الكلاسيكي وطغيان نوع أدبي  هو الشعر "القصيدة العمودية تحديدا"، على حساب ما عداه من قصة ورواية ومسرح، فضلا عن غياب الاشتباكات المعرفية والمعارك الأدبية مع الآخر.
إذا كان هذا فيما يتعلق بالنتاج الأدبي، فإن النتاج الفني "الموسيقى، والغناء، والتمثيل"، يبدو منعدما، إلا من بعض الألبومات الغنائية، التي تقدم الأناشيد الحماسية، وإن كان البعض يعتبر المطرب حمزة نمرة، أحد إرهاصات ظهور فن جديد ينال قبول الإخوان. وإذا كان نمرة ينفي انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين،  فإنه قدم ألبومين "إنسان"، و"نحلم ببكره"، لاقيا نجاحا في أوساط مختلفة، حيث يمكن توصيف ما يقدمه بأنه فن إنساني هادف، يتماس في بعض مناطقه مع ما قدمه من قبل محمد منير ووجيه عزيز وعدلي فخري، من أرضيات أيديولوجية مختلفة.
لم يعرف عن أحد الممثلين أنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، لكن الجدل الذي أثير مؤخرا حول مسلسل الداعية الإسلامية "زينب الغزالي"، يبدو جديرا بالتأمل، ومن قبله الاعتراض على مسلسل "الجماعة"، الذي تناول قصة صعود الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة، وتأكيد الجماعة أنها ستقدم عملا دراميا عن حياته لم ير النور بعد، وأيضا بعد الأفلام الروائية القصيرة، إذا جاز أن نطلق عليها ذلك، التي تقدمها قناة "مصر 25"، التابعة للجماعة، والتي تنحي التقنيات الجمالية جانبا، من كتابة وإخراج ومونتاج وإضاءة، لتؤكد في نهاية "الفيلم"، أو "المشهد التمثيلي"، على الحكمة التي تريد توصيلها للمشاهد.
قد يبدو إذن فهم جماعة الإخوان المسلمين للفن، بتنوعاته، قاصرا، وتقليديا، وقديما، وقادما من متحف التاريخ، على الرغم من أن مؤسس الجماعة حسن البنا اهتم ببعض الجوانب الثقافية ، فأنشأ  فرقا مسرحية، أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة، والتي قدمت عددا من المسرحيات منها ما هو تاريخي ومنها ما هو أخلاقي، وربما يبدو هذا هو التصنيف الأمثل لرؤية الإخوان للفن إذ ينحصر ما بين "التاريخي"، الذي نستفيد فيه من دروس التاريخي، وما هو "أخلاقي"، الذي يقدم الموعظة الحسنة للمشاهدين.
لكن إذا كانت الجماعة قد نسيت الثقافة في "مشروع النهضة"، فإنها كانت حاضرة في برنامج حزب الحرية والعدالة، بشكل يبدو متماسا إلى حد كبير مع تلك الرؤية الإصلاحية التي تحدث عنها مهدي عاكف، عام 2004، والتي تحدثنا عنها في البداية.
فتحت عنوان "الثقافة و الفن"، يذكر برنامج الحزب، أن ثقافة المجتمع تتأسس على الهوية الحضارية التى ينتمى إليها الشعب، وتعد الحضارة الإسلامية العامل الرئيس فى تشكيل عقل الإنسان المصرى ووجدانه، بما يؤهله للتعامل الذكى مع مختلف الثقافات الأخرى، دون إقصاء أو إزراء بثقافة الآخر، ويتسع مفهوم الثقافة بحيث يعنى "طريقة الحياة" فالثقافة هى المرآة العاكسة لهوية المجتمع وقيمه وإرثه الحضارى، وتتحدد ملامح الثقافة فى تصورنا عبر عدة محددات منها، أن الثقافة تتسم بالوحدة والتنوع فى آن معا، فهناك نمط ثقافى عام ينتظم البشرية هو الثقافة الإنسانية التى تعنى بالحق والجمال والفضيلة والمساواة .. وهناك فى الوقت نفسه ثقافة محلية تميز إقليما من آخر، وبيئة من أخرى، ويكتسب النمط الثقافى العام لمجتمع ما ثراءه بمدى مساهمة الأنماط الثقافية المختلفة فيه، والأمر هنا ليس حاصل جمع بل هو نتاج تداخل وتمازج أشبه بالمزج العضوى الملتحم .
غير أن اللافت في رؤية الحزب للثقافة هو ما يلي "ترتبط الثقافة بالدين على نحو لا يمكن إنكاره، فالثقافة المصرية تتشكل فى مجملها تأسيسا على الهوية الإسلامية دون إقصاء أو إهمال لثقافات أسهمت فى مرحلة تاريخية "وما زالت" فى تشكيل المجتمع بملامحها المميزة كالمصرية القديمة والمسيحية، ولقد مثلت الحضارة الإسلامية إطارا لوحدة الأمة يسمح بالتعددية، ويحافظ على التنوع الداخلى وتعدد العقائد، وعليه فلا مجال للصراع الثقافى وإنما هو تلاقح الثقافات، وتفاعلها، وتمازجه، وتمثل الثقافة المصرية بملامحها السابقة حائط صدّ منيعا ضد أساليب الغزو الفكرى المدمر، وألاعيب التذويب الماكر من ثقافات غريبة تفسد ولا تصلح، وتسهم فى تمييع الانتماء الوطنى المصرى والقومى العربى، وتستطيع ثقافتنا بأصالتها ومرونتها أن تستخلص من الثقافات الوافدة ما يتوافق معها ويسهم فى نهضة الأمة، كما يمكنها أن تطور تراث الأسلاف بإعادة قراءته وعصرنته "، ويوصى البرنامج بإعداد ميثاق للشرف الإبداعى طبقا لقيم المجتمع وأخلاقياته وآدابه تعده لجنة من كبار المتصلين بالشأن الثقافى والإبداعى، ويتم طرحه للحوار والتشاور والصقل، لإقراره وبدون تدخل أو وصاية من جانب الدولة ومؤسساتها ليكون بمثابة دستور غير مكتوب للإبداع فى مصر يلتزم به ضمير المبدعين، وأجهزة الرقابة المعنية .
وإذا كانت الجماعة تتحدث في برنامجها عن دعم الترجمة والنشر والكتاب، لكن بقراءة سريعة لما سبق، يمكن استخلاص ما يلي: أن حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين يرى أن ثقافة مصر دينية بالأساس، حتى لو كانت هناك ثقافات أخرى موجودة في المجتمع، كما أن الجماعة تنظر إلى الثقافة من منظور أخلاقي بحت، ورغم أنها تؤمن بعدم الرقابة على الفن، فعلى الرغم من قولها إنها ترفض وصاية الدولة إلا أنها تطالب أيضا بإعداد ميثاق للشرف الإبداعى طبقا لقيم المجتمع وأخلاقياته وآدابه، ولا أعرف كيف سيجلس الشعراء للاتفاق على "ميثاق شعري"، لا يتجاوزونه.
وأنه على الرغم من تحدث الجماعة في برنامج حزبها عن تلاقح الثقافات، وتفاعلها، وتمازجه، إلا أنه من الواضح أنها تعاني من أزمة مع الآخر، في عصر انفتاح الثقافات وتلاقيها، فهي ترى أنه يقوم ب"الغزو الفكرى المدمر، وألاعيب التذويب الماكر من ثقافات غريبة تفسد ولا تصلح، التي تسهم فى تمييع الانتماء الوطنى المصرى والقومى العربى".
كما تتحدث الجماعة في رؤيتها لتطوير السِّينما والإنتاج الدرامي، عن أهمية دعم صناعة الفيلم الديني والوطني والوثائقي والتاريخي الذي يتناول هموم وتاريخ مصر وقضاياها، والارتقاء بمستوي المسلسل التِّليفزيوني والفيلم السِّينمائي والتَّليفزيوني المصري؛ ليُمارس دَوْرِه في نشرِ القِيَمِ الرَّفيعة، والامتناع عن الأعمال الهابطة والمثيرة للغرائز والدافعة لارتكاب الجرائم، وتحسين الذَّوْقِ العام؛ عبر انتقاء النصوص والشخصيَّات ضمن إستراتيجية أكبر لصناعة الرمز في مختلف مجالات السينما والرياضة والمسرح والأدب والصحافة والإعلام.. إلخ، وفي الغناء تتحدث الجماعة عن توجيه الأغنيَّة المصريَّة إلى أفق أكثر أخلاقيَّة وإبداعًا واتساقًا مع قيم المجتمع وهويته، ودعم شركات الإنتاج التي تلتزم بهذا التوجيه، ودعم الأغنيَّة الوطنيَّة والدِّينيَّة وإعادة الزَّخم السَّابقِ لها، والاهتمام بتراثنا فى الموسيقى العربية، وفنون الموشحات وإشاعتها فى المحيطين الوطنى والعربى لتغذية الوجدان بالفن الراقى الجميل".
وحتى لا يبدو ما أنقله انتقائيا، فإن الجماعة تقدم ما يمكن اعتباره جيدا في هذا المجال من دعم المواهب الشابة، وتأسيس حركة نقدية واعية, ومنع الاحتكار، ومواجهة التَّعديات القائمة علي المناطق الأثريَّة بما في ذلك تعديات المحليات،  وتنشيط حركة الكشوف الأثريَّة، واستعادة الآثار المصريَّة التي تمَّ تهريبها من مصر، غير أن اللافت فيما ذكرته من رؤية الجماعة لتطوير السينما والغناء، أن هناك اتجاها حقيقيا لأخونة الفن، وتديينه، وفرض رقابة صارمة على الفن بدعوى الحفاظ على قيم ومبادئ المجتمع، وتقييد الحريات بمبررات أخلاقية، وهو ما أشارت إليه الجماعة بحديثها عن دعم الفيلم الديني، وأن يقوم بنشر القيم الرفيعة, وتقديم أغنية أخلاقية.
وإذا كان البعض يرى أنه من الجيد أن تنتج مصر أفلاما دينية، أو تنشر القيم الرفيعة من خلال المسلسلات أو تقدم أغان أخلاقية، فإن المشكلة أن الجماعة لا ترى في الفن غير ذلك، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحكم على ثقافة مجتمع بمنظور ديني، كان واضحا في مواقف الجماعة من قضايا حريات التعبير طوال السنوات الماضية داخل مجلس الشعب، هذا المنظور الذي يمكن تلمسه من خلال رصد ما جرى في لقاء سابق بين الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ونقيب الفنانين الفنان أشرف عبد الغفور  والذي أكد فيه على "أهمية وضع ميثاق شرف لكل مهنة تضبط أداء العاملين بها ويلزمون بها أنفسهم من أجل الرقي بالوطن الحبيب"، وما قاله بديع أيضا في رسالته الأسبوعية من أن شهر رمضان يعتبر مشروعا مثاليا للتقوى، وأن "مسلسلات رمضان  معوقات من خارج الإنسان، كشياطين الإنس الذين يزينون المعاصي ويسرقون الأوقات الغالية واللحظات الثمينة، موضحا أن "كثرة المسلسلات خطة متعمَّدة لسرقة وقت الإنسان ولحرمان الأمة كلها من ثمرة المشروع الكبير المتمثل في (تحقيق التقوى)"، رغم أنه بدا مهتما بالمسلسلات إلا أنه لم يتحدث عن رأيه في المسلسلات الدينية، أو القضايا المثارة حول تجسيد الصحابة فيها.
ثمة حقيقة مؤلمة يجب أن نعترف بها، وهي أن الثورة المصرية لم تقم بسبب حشد المثقفين، ولا بدعواتهم، ولا بمؤلفاتهم، وبعيدا عن ادعاء كل المثقفين أنهم تنبئوا بالثورة، يمكن القول إنها فاجأتهم كما فاجأت غيرهم من قطاعات المجتمع المختلفة، وأن من قام بها  الطبقتين الفقيرة والوسطى اللتان  انشغل المثقفون عنهما بكراسيهم العاجية، لذا يبدو التخوف أن يستمر المثقفون في سباتهم في الوقت الذي تواجه فيه الهوية المصرية تصحيرا واضحا.
الخطر الحقيقي في رأيي، في ظل انشغال الإخوان بالمعارك السياسية مع القوى المدنية، وفي ظل صعوبة تغيير هوية مصر، يبدو في الذراع السلفية للتيار الإسلامي، القادمة بأفكار من الصحراء العربية، والتي قد يتم استغلالها لتمرير أفكار، لا يمكن التصريح بها في البيانات الرسمية المنمقة.
تواجه الثقافة، في ضوء ما سبق، خريفا حقيقيا، تبدو معالمه واضحة ، تتمثل في الاتجاه إلى تديين وتدجين الأجيال القادمة، في ظل الصراع على وزارة التربية والتعليم، وتتمثل في تخلي مصر عن ثقافتها الكوزموبوليتانية، التي تميزها والتي اكتسبتها على مر العصور، هذا لأن من يديرون الحكم الآن في مصر لم تقترن الثقافة بمشروعهم على مدار 84 عاما، وهو ما قد يبرره البعض بانشغالهم باللعبة السياسية طوال هذه السنوات، لكنه يعني أيضا أن الثقافة تأتي في مرتبة متأخرة في مشروعهم، فضلا عن رؤيتهم التقليدية والمحافظة لها والتي تجاوزها الزمن منذ عقود.
وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم عبر الصناديق، وباختيار الشعب، بل كان مرشحهم هو الخيار الوحيد أمام عودة النظام السابق ورموزه، لذا ومع احترام إرادة الشعب في اختيار من يمثله، في هذه المرحلة الزمنية، يبدو من المهم أن يكون لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله، بمعنى أن ينصرف الإخوان إلى تنفيذ برنامجهم السياسي، ومشروع النهضة، الذي يخلو من الاهتمام بالثقافة، وأن يتركوا الثقافة لأهلها، ومن جهة أخرى تبدو هذه هي الفرصة الأخيرة أمام المثقفين، ودورهم الذي نذرهم له التاريخ، وهو الحفاظ على الهوية، وعلى الثقافة المصرية من أية "أخونة" محتملة، ومن أي طمس قد يبدو في الأفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات: