03‏/11‏/2017

رسالة من رمسيس الثاني إلى المصريين

نظر الملك رمسيس الثاني وهو معلّق في رافعة صفراء، حوله، فأدرك أنه غاب عشرات القرون عن العالم تحت الأرض. كان يتأرجح في الرافعة التي انتشلته  من تحت الأرض إلى فوقها مرة أخرى، لكن الوجوه المحيطة به لم يكن يعرفها. مصريون؟ نعم. لا زالت جينات الفراعنة فيهم لكنها اختفت تحت عشرات الهموم التي خلفتها السنوات.

كان المشهد الذي نقلته وكالات الأنباء العالمية وعشرات القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الأسبوع الماضي غريباً: رافعة تنتشل جزءاً من جسد الفرعون المصري الأشهر، والذي ساهم في بناء حضارة تجاوز عمرها السبعة آلاف عام ولا زالت تبهر العالم، بينما وقفت نساء بسيطات أعلى بيوت تشبه علب الكبريت يزغردن، وفي محيط الرافعة وقف بعض من  شباب وأطفال منطقة المطرية بالقاهرة على كوم من القمامة وهم يرقصون ويهتفون للفرعون ويغنون: "بص وشوف مين قدنا.. رمسيس التاني عندنا"، و"بص شوف المطرية فيها إيه"، وفي الناحية الأخرى اصطفت عشرات الكاميرات لكي تنقل العالم المنظر المتناقض، بين الماضي والحاضر، بين عصرين مختلفين، جرت بينهما الكثير من المياه في النهر.

رأى رمسيس الثاني منذ استخراجه من تحت الأرض الكثير، تغطيته ببطانية مرسوم عليها "سبيدرمان" البطل الأمريكي الشاب، أقلها وإن كان يبعث بدلالة، البيوت المبنية بالطوب الأحمر دون أدنى عناية، القمامة التي تنتشر في كل مكان، وجوه الأطفال والمراهقين التي تقاوم تغير العالم، وجوه الحراس التي عقدت اتفاقاً أبدياً مع الفقر والصبر. تغير العالم بلا ريب. تغير منذ أن تسيد الفراعنة العالم وكانوا الحضارة الأبرز في المنطقة، لليوم الذي أصبح للحضارة منطق آخر، وطريقة أخرى، ومكان آخر.

لو كان لرمسيس أن يخاطب أحفاده لقال لهم إن العالم تغير، وهم أيضاً تغيروا. لا يكفي أن تعيش على عظام أجدادك حتى تستمر عظيماً. فكم من حضارات هلكت عندما أهمل أحفادها حكمة التاريخ والزمن. كم هي عظيمة حضارة الإغريق، لكن اليونان موشكة على الإفلاس، لم تنقذ الحضارة العظيمة أحفادها، لم يفعل هيرودوت ولا الآلهة الأسطوريين شيئاً حيال ذلك لأن هذا فعل الأحفاد، وهذا دورهم.

الحضارات العظيمة تنتشر في العالم، من الصين إلى الهند إلى بابل إلى أثينا. لكن ما يقيم الدول هو استمرار بنائها وليس الاعتماد على ما كان من قبل. لكن هل أفلحنا حتى في الاعتماد على حضارتنا القديمة؟ بعض الدول الغريبة التي بلا حضارة استطاعت أن تروّج لحضارتنا أكثر منا. والحديث عن إهمال الآثار من أدنى البلاد إلى أقصاها ليس خفياً على أحد على أية حال، من سرقة إلى إهمال إلى تحطيم إلى بيع وتجارة، إلى إلقاء في مخازن حتى تتحطم إلى عدم ترويج.

بنى المصريون حضارات عظيمة بلا ريب، الفرعونية والقبطية والإسلامية، وغيرها، لكنهم توقفوا عن البناء، رغم أن الحضارة الحقيقية، هي الاستمرار في بناء الحضارة، وليس التوقف عند ما صنعه الآخرون، بعض البلاد كانت بلا حضارة واستطاعت أن تصبح أكثر تأيراً في العالم؟ كم عمر الأمة الأمريكية؟ بعض الدول بدأت صناعة حضارتها للتو وربما قبل سنين. الحضارة ليس فعلاً ينتهي مع الوقت، الحضارة فعل متحرك مع الوقت.

هذه ليست دعوة لترك الحضارة القديمة. إطلاقاً. بل البناء عليها والاستفادة منها. انظر إلى الصينيين وكيف يستغلون حضارتهم في كل شيء يبيعونه، أما كيف أصبحت رمزاً لكل ما ينتجون فالإجابة بسيطة: لأنهم يعتمدون على دمج الماضي في الحاضر، لينتجوا المستقبل، وهذا هو الفارق.
 

 

ليست هناك تعليقات: