25‏/07‏/2025

«جحيم» محمد أبو زيد: الكتابة كفنّ الاحتراق اللطيف!

يقدم ديوان “جحيم” للشاعر المصري محمد أبو زيد صرخة جمالية في وجه العالم، سردٌ شعريّ يمتد على مساحة كثيفة من الألم والتجريب والتأمل. لا يقدّم الشاعر نصوصًا تقليدية يمكن احتواؤها في خانة “القصيدة الجديدة” وحسب، بل يذهب إلى تأسيس “سينما شعرية” داخل كل نص، مشحونة بالحركة، والقطع المفاجئ، وتراكب الأزمنة والمشاهد، مستعيرًا أدوات الصورة السينمائية والفانتازيا، وساخراً من أدوارنا الاجتماعية واليومية والتاريخية التي نرتديها على مسرح الكارثة.

منذ العتبة الأولى، يضعنا العنوان “جحيم” أمام نوع من الاختزال الوجودي الصادم، لكنّه ليس جحيماً كلاسيكياً؛ بل جحيماً عصرياً، تشكّله الميديا، وفوضى العالم، وجثث الذاكرة، وتحوّلات الهوية. جحيم مصنوع من الضحك المكسور، من تقنيات “الكولاج” الشعري، من مفارقة حادة تجعل القارئ يضحك ويبكي في اللحظة ذاتها.

الديوان ينتمي لما يمكن تسميته بـ “شعر ما بعد الكارثة”، حيث تتفكك الذوات، ويتحول الشعر إلى أداة للبحث عن البقايا وسط ركام الرماد. في جحيم، نجد ذاتًا ممزقة، مستلبة، تتماهى أحيانًا مع الأسطورة، وأحيانًا مع شخصيات من ألعاب الفيديو، أو أفلام الكارتون، أو مخلوقات من كوابيس الواقع السياسي والاجتماعي.

رسالة هذا الديوان تتجاوز الظرف الشعري أو التعبير الذاتي، نحو نوع من التحذير الناعم والزفير المعاصر؛ كأن القصائد تقول إننا نعيش داخل مشهد منهار بالفعل، وأن الشعر لم يعد نافذة أو خلاصًا، بل أداة لحفظ ملامح الرماد قبل أن يذروه الزمن. جحيم أبو زيد موجّه إلى زمننا الحاضر المشظى، وإلى مستقبل يحتاج إلى أرشيف عاطفي وجمالي يشرح لماذا سقطت المدينة، ولماذا لا تزال الأرواح تبحث عن أغنيتها في الظلام.

في قصائد مثل حروب هادئة، أنا أقوى من سلاحف النينجا، ميت يحرس الغابة، وكوروساوا خدعنا، تظهر براعة أبو زيد في بناء نص مزيج من الشعر والتأمل الساخر والنقد الثقافي، حيث تحضر الذاكرة الجماعية (الحروب، القرى، الموت، الغياب) ضمن بناء شعري شديد الخصوصية.

هذه “السينما النصية” التي يبرع في تركيبها، لا تخلو من حمولات وجودية، تأملات لاذعة في مصير الإنسان، وقلق متنامٍ حيال ما تبقّى من الحب، من الصداقة، من الحياة، في عالم يحترق بالمفارقات والغرابة والخراب.

Increase font size.

بين قصيدة النثر والمشهد السينمائي

قصائد الديوان تكتب نفسها بمنطق «مونتاج داخلي». المشاهد لا تُروى، بل تُركّب، والقصيدة لا تُبنى بتراتبية، بل تتوزع ككادرات سينمائية. النبرة هادئة، لكن تحتها مرجل من الألم الخافت:

«لا أغنية مفضلة لي…

تمر الموسيقى من أذني اليمنى إلى اليسرى

دون أن تسقط منها قطرة واحدة.»

الذات مفككة، تتكلم تارة، تراقب أخرى، تهذي ثالثة. أبو زيد لا يكتب عن ذاته، بل يكتب بذاته، عبر منظور مكسور، يلتقط العالم من زواياه المظلمة، كما يفعل المخرج الذي يلتقط جماليات الحطام. هذه نصوص قابلة للمشاهدة لا للقراءة، تنتمي إلى ما وصفه رولان بارت بـ”نص المتعة”: نص لا يُفكك، بل يُخترق، لا يُفهم، بل يُعاش.

ظلال 2019 وما قبل الجائحة

حين نُشر الديوان في 2019، لم يكن أحد يعرف أن العالم على مشارف عزلة جماعية كبرى بفعل الجائحة، لكن روح النصوص توحي بأن الشاعر كان يكتب من قلب ما بعد الكارثة. هناك نبوءة شعرية هادئة في جحيم؛ عزلة مرئية، خوف من الخارج، زمن مفكك.

«صيدليات لبيع الأيام»

«الزمن تطاير كأوراق الرزنامة»

«كل من قابلتهم… تحدق فيّ الآن، وتحاصر البيت»

هذه العبارات تشي بتيه زمني، وفقدان تام لمرجعية الواقع. الشاعر هنا لا يرثي فقط، بل يوثّق انزياح المعنى، حيث يتحوّل الزمن إلى سلعة، والعلاقات إلى مؤثرات صوتية، والحياة إلى شاشة بلا صوت.

السينما: خيال لا استعارة

خيال محمد أبو زيد السينمائي ليس مجازًا، بل بنية تفكير. الديوان مكتوب بعدسة مخرج، لا قلم شاعر. نقرأ مشاهد حية، مكتملة العناصر:

«أدخلها من السقف، ثم أبنيه فوقنا

تغني حتى تطير الغرفة مثل بالون…

نضع أيدينا على الجدران الزجاجية

ونتأمل في انبهار ملايين النجوم في الخارج»

وفي مشهد آخر:

«أرسلت إليك غرابًا يحمل وردة…

اعتذاري يجرّ جثة خلفه»

هذه الصور لا تعتمد على المجاز اللغوي التقليدي، بل على البصري الخالص. نكاد نرى اللقطات تتحرك أمامنا. القصائد تتحول إلى cut scenes، ومجموعة متسلسلة من اللقطات المأخوذة بكاميرا قلقة، تلتقط التفاصيل وتغوص في مشهديةالأشياء.

نموذج آخر: “ميت يحرس الغابة”

«أنا الميت الذي يحرس الغابة

يرتدي قبعة الشرطة

ويكتب تقاريره بالنار

كل مساء أعدّ عدد الأشجار

أرسم وجوهها وأبتسم

أشجار ترتدي أحذية مطاطية

ولا تخرج من الأرض إلا بإذن»

هنا، لا نشاهد فقط مشهدًا شعريًا، بل نتابع افتتاحية فيلم سوداوي يبدأ من الغرابة وينتهي في التأويل الوجودي. الميت يرتدي زيًا نظاميًا ويحرس أشجارًا لها وجوه وأحذية. هذه المشهدية لا تتوسل الرمزية المباشرة، بل تعمل وفق خيال بصري فانتازي، تستعير من الرسوم المتحركة ومن أفلام ديستوبيةالطابع، لخلق سينما شعرية داخل القصيدة.

سخرية وجودية وصوت من الهامش

بدلًا من صوت شعري مباشر أو نبرة احتجاجية، يقدّم أبو زيد في جحيم صوتًا داخليًا لا يكترث للنجاة، بل يراقب الخراب ويصفه، كما يفعل سارد في فيلم وثائقي عن نهاية العالم:

«كوروساوا خدعنا»

«طفل يعبر خلف أليس إلى بلاد العجائب»

«البيت فوقي تتهدم حيطانه حتى تصبح هرمًا، ليس أكبر من خوفو ولا أصغر من منقرع»

هذه العبارات تحمل طابعًا ساخرًا وغرائبيًا في آن. لا يوجد مركز، ولا بطل. بل فقط ذات مهشّمة تحاول أن تقول: «أنا موجود، ولو على الهامش».

نهاية مفتوحة على رماد

جحيم لا يُغلق أبوابه، بل يفتحها على مساحة من التأمل المتوهج. الشاعر لا يقدّم عزاءً، ولا يحاول بناء جسر للهروب من الألم، بل يمكّن القارئ من العيش داخله، كأن النصوص تقترح علينا: «كن شاهداً. لا أكثر. لكن كن حاضراً».

هذه القصائد تشتبك مع كل شيء: مع الغابة التي لم يدخلها الشاعر لكنه كتبها، مع الطفولة التي تنقلب إلى منطقة أشباح، مع “الديناصورات” التي تغزو الشعر وتدير الندوات، مع الحروب التي يخرج منها الفلاحون ليحصدوا أرواحهم، ومع القرية التي لم تعد سوى رأسه المحفوظ في “النيش” ليتلو عليه الضيوف الفاتحة.

الرسالة الأعمق التي يتركها أبو زيد بين السطور أن الشعر في زمننا ليس ترفًا، بل مقاومة ناعمة. أن الذاكرة تحتاج إلى أشكال جديدة لحفظ الألم، وأن الشاعر، في النهاية، ليس شاهدًا على الواقع فقط، بل هو من يعيد ترتيب رماده بصيغة يمكن أن يتنفسهاالمستقبل.

محمد أبو زيد، صاحب مشروع أدبي متجدد، تتقاطع فيه الحساسيات الشعرية الحديثة مع خيال بصري حاد، وسخرية وجودية لاذعة، ووعي عميق بالهشاشة المعاصرة. كتب في الشعروالرواية والنقد، ويمتاز صوته الأدبي بفرادته، لا يسكن في يقين،بل يكتب من مناطق الشكّ، ويقيم في تخوم اللغة، بين الحلم واليومي، بين الضوء وظله.

جحيم، يتجاوز كونه ديوانًا شعريًا فحسب، إلى أن يؤرشف روح معاصرة أنهكها التيه، وسيناريو مفتوح لقصائد قادمة تكتبها الحروب الصغيرة داخل كل بيت، وكل سرير، وكل شاشة.

....................

*نشر في موقع "العالم الجديد"

03‏/07‏/2025

فوات الأوان.. بكائية على أطلال العالم الافتراضي

 


جرجس شكري

مجلة كتاب ـ يوليو 2025


لا بد أن يتوقف قارئ ديوان «فوات الأوان» للشاعرالمصري محمد أبو زيد، أمام ثلاث ملاحظات قبل أن يواصل القراءة: العنوان، الغلاف، التصدير، ولاحقا الغلاف الأخير، فالعنوان وإن كان فصيحاً إلا أنه يحمل دلالات شعبية في سياق الحياة اليومية أقرب إلى العامية، فوات الأوان، والذي يعني، مضى الوقت، ضياع الفرصة، وبعد فوات الأوان، بعد أن تعذّرت معالجة الأمور، وقبل فوات الأوان قبل أن يُصبح من الصعب عليك تدارك الأمر، وفات الأمر ذهب وقت فعله. وعلى القارئ أن يهيئ نفسه للقاء شاعر يبكي على أطلال الأشياء، بل على أطلال هذه الحياة، ولكن ليس كما كان يفعل أسلافه القدامى الذين يبكون على أطلال المنازل وذكريات الحبيب، فالغلاف الذي يجمع بين الإنسان والروبوت ويشير بقوة إلى محتويات الديوان، ويؤكد للقارئ أنه أمام بكائية معاصرة، قوامها التهكم واللعب، اللعب الذي هو أقرب إلى ألعاب الطفولة، فراح مصمم الغلاف أحمد اللباد أيضاً يلهو ويمزج بين الإنسان والروبوت

في لوحة تقرأ وتعبّر عن الديوان.

أما التمهيد الذي جاء من ديوان سابق للشاعر عام 2015 لا يخلو من السخرية بل يؤكدها «أفكر أن أسمّي كتابي القادم "فوات الأوان"، لكني لم أحدد، هل أضيف في البداية "قبل" أم "بعد".

في هذا الديوان الصادر حديثاً عن منشورات ديوان في القاهرة، يلعب الخيال دور البطولة فهو بمثابة البنية العميقة لكل النصوص، ليس اللغة أو المجاز أو الموسيقى

أو الرؤية الفلسفية، حيث يتجاهل الديوان كل هذا بنسب متفاوتة عن عمد وينحاز إلى الخيال واللعب واللهو متسلحاً بأسلوب البارودي أو المحاكاة الساخرة للعالم، وتارة أخرى بأسلوب الفروتسك فما بين الخيال كقوة فاصلة والبارودي وأسلوب الفروتسك تأتي نصوص هذا الديوان التى ابتعدت عن جماليات اللغة الشعرية، فجاء كل نص استعارة لهذا العالم الافتراضي، العالم المصطنع، مجتمع الاستعراض، مجتمع الفرجة ومراكز التسوق وثقافة الاستهلاك الذي تُوّج بالذكاء الاصطناعي، من خلال لغة الحياة اليومية دون تجميل أو محسنات بديعية أو بلاغية، ليبدو صاحبه في أحيان كثيرة جثة في زمن الاستعراض، وسوف تتكرر الجثة وتتجول بين النصوص بصور مختلفة .


الديوان الذي جاء في قسمين بعد وقبل متعمداً أن يسبق المستقبل الماضي! يطرح عدة تساؤلات منها: هل يمكن أن تكون الكلمات العادية شعراً وكيف؟ والسؤال الآخر حول

نظرية اللفظ والمعنى أو بمعنى أدق التوازن الكمي بين اللفظ والمعنى، بالإضافة إلى شعرية اللعب واللهو وخيال الطفولة وأصولها أو جذورها عند الرومانسيين، فهل هو

الخيال الذي يحاول اكتشاف العلاقات الخفية بين عناصر الوجود، أم الخيال الذي يلهو من خلاله الكاتب!

وأيضاً ماهية الشعر كما جاء في الغلاف الأخير للديوان أو علاقة الشعر بالعالم الذي يوشك أن ينهار، انتهاء بالشاعر نفسه في مواجهة القصيدة يتبادلان السؤال «ماذا بعد». ربما ماذا بعد الشعر الذي نعرفه، ماذا بعد الواقعية الفائقة في هذا العالم المصطنع أو الذي يعتمد على ما هو مصطنع؟

وهذه أسئلة قديمة قدم الشعر، بل هذا سؤال تقليدي منذ شعراء الجاهلية، فضلاً عن الأنواع الأدبية الأخرى في الرواية والمسرح، بيراندلو، على سبيل المثال، في مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» حين أقام حواراً عنيفاً بينه وبين فن الدراما أطاح فيه بالعديد من القواعد الدرامية.

والحوار في «فوات الأوان» مع الشعر سيكون في نصوص عديدة بأشكال مختلفة تقترب من أسلوب الفروتسك أحياناً، وسوف يرى القارئ منذ السطور الأولى أن صاحب الديوان يدرك كل شيء بعد فوات الأوان، فهو يؤكد هذا بشكل صريح ومباشر وتظل المحاكاة التهكمية تظل برأسها منذ القصيدة الأولى وتستمر حتى السطر الأخير من الكتاب، المحاكاة التهكمية التي تقوم على الاختلاف الذي يصل إلى حد التناقض، ولكن لا تتم كمادة للسخرية إلاّ إذا تم التعرف على العمل المحاكي، وهذا سوف يسبب

بعض المشاكل، بل قل إنه يضع بعد الحواجز بين القارئ والنص، حيث القصيدة تقدم القيم والثوابت التي يستند إليها المرجع المحاكي بشكل مقلوب، معكوس هذه القيم من خلال تحوير المادة المحاكاة وتحويلها إلى مجرد هيكل يخلو من الصبغة التي كانت تطبعها، وهذا يتطلب معرفة بالنص الأصلي موضوع السخرية .

في النص الأول «مُقبِل مُدبر» تهكم على الشعر والشاعر، وتتوالى السخرية من لغة الشعر من خلال استخدام لغة يومية تخلو من الجماليات. وهنا تؤدي المحاكاة التهكمية التي يعتمدها الشاعر محمد أبو زيد دورها كوسيلة لكسر الثوابت والقناعات في اللغة والحياة. وكسر الثوابت في اللغة بالتحديد من خلال إظهار التناقض بين ما يقال وواقع الحال، وهذا ما سيبدو واضحاً في نصوص عدة من بينها "تروتسكية ستالينية خضراء"، "على مذبح الأيديولوجيا"، وهكذا واقع هذه النظريات، وهذه العناوين والشخصيات وأسماء الكتب يوحي بشيء، والمكتوب من المفترض أنه يوحي بشيء آخر. وهنا يبدو التهكم ليس وسيلة سخرية فقط بل يتضمن بعداً نقدياً يقترب من الهجاء السياسي والاجتماعي.


كل هذا يدعمه الخيال الذي وصفه الرومانسيون بأنه أمر أساسي في الشعر، وبدونه يصبح الشعر مستحيلاً. وخيال محمد أبو زيد في «فوات الأوان» يعيد قراءة النظريات الكبرى، عبر كتابة غرائبية سريالية، لينتهي هذا الجزء بأقصى درجات اللهو واللعب التي يمارسها أبوزيد، بقصيدة عبارة عن فراغ ورسم بالكلمات في صفحة فارغة.

ولم يختلف الأمر كثيراً في الجزء الثاني «قبل»، فقط تتسع مساحة اللعب والتأكيد على انهيار العالم "أسفل هذا الهامش ستجدني ممدداً وحيداً ومنبوذاً إلى الأبد".

سيتوقف القارئ أمام الشعور بلا جدوى الشعر، وهذا أمر غريب، فالنصوص تؤكد السخرية من الشعر، فلماذا هذا الشعور؟ سؤال يحتاج إلى إجابة أن يشعر الإنسان أو

الشاعر بلا جدوى الحياة، فهذا مبرر وطبيعي، أما أن يشعر الشاعر بلا جدوى الشعر، فهذا أمر يدعو إلى التساؤل.

نصوص «فوات الأوان» تستعير مفردات العصر الرقمي، فهي أقرب إلى مقاطع في لغة مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تتحول الحياة في هذه النصوص إلى صورة من العالم الافتراضي. وتتكرر الغرائبية في نصوص عديدة باستخدام أسلوب الفروتسك الذي يشكّل نقيض العقلانية من خلال ما تطرحه من إرهاصات الخيال المرعب والمنفر في أحيان كثيرة.