03‏/07‏/2025

فوات الأوان.. بكائية على أطلال العالم الافتراضي

 


جرجس شكري

مجلة كتاب ـ يوليو 2025


لا بد أن يتوقف قارئ ديوان «فوات الأوان» للشاعرالمصري محمد أبو زيد، أمام ثلاث ملاحظات قبل أن يواصل القراءة: العنوان، الغلاف، التصدير، ولاحقا الغلاف الأخير، فالعنوان وإن كان فصيحاً إلا أنه يحمل دلالات شعبية في سياق الحياة اليومية أقرب إلى العامية، فوات الأوان، والذي يعني، مضى الوقت، ضياع الفرصة، وبعد فوات الأوان، بعد أن تعذّرت معالجة الأمور، وقبل فوات الأوان قبل أن يُصبح من الصعب عليك تدارك الأمر، وفات الأمر ذهب وقت فعله. وعلى القارئ أن يهيئ نفسه للقاء شاعر يبكي على أطلال الأشياء، بل على أطلال هذه الحياة، ولكن ليس كما كان يفعل أسلافه القدامى الذين يبكون على أطلال المنازل وذكريات الحبيب، فالغلاف الذي يجمع بين الإنسان والروبوت ويشير بقوة إلى محتويات الديوان، ويؤكد للقارئ أنه أمام بكائية معاصرة، قوامها التهكم واللعب، اللعب الذي هو أقرب إلى ألعاب الطفولة، فراح مصمم الغلاف أحمد اللباد أيضاً يلهو ويمزج بين الإنسان والروبوت

في لوحة تقرأ وتعبّر عن الديوان.

أما التمهيد الذي جاء من ديوان سابق للشاعر عام 2015 لا يخلو من السخرية بل يؤكدها «أفكر أن أسمّي كتابي القادم "فوات الأوان"، لكني لم أحدد، هل أضيف في البداية "قبل" أم "بعد".

في هذا الديوان الصادر حديثاً عن منشورات ديوان في القاهرة، يلعب الخيال دور البطولة فهو بمثابة البنية العميقة لكل النصوص، ليس اللغة أو المجاز أو الموسيقى

أو الرؤية الفلسفية، حيث يتجاهل الديوان كل هذا بنسب متفاوتة عن عمد وينحاز إلى الخيال واللعب واللهو متسلحاً بأسلوب البارودي أو المحاكاة الساخرة للعالم، وتارة أخرى بأسلوب الفروتسك فما بين الخيال كقوة فاصلة والبارودي وأسلوب الفروتسك تأتي نصوص هذا الديوان التى ابتعدت عن جماليات اللغة الشعرية، فجاء كل نص استعارة لهذا العالم الافتراضي، العالم المصطنع، مجتمع الاستعراض، مجتمع الفرجة ومراكز التسوق وثقافة الاستهلاك الذي تُوّج بالذكاء الاصطناعي، من خلال لغة الحياة اليومية دون تجميل أو محسنات بديعية أو بلاغية، ليبدو صاحبه في أحيان كثيرة جثة في زمن الاستعراض، وسوف تتكرر الجثة وتتجول بين النصوص بصور مختلفة .


الديوان الذي جاء في قسمين بعد وقبل متعمداً أن يسبق المستقبل الماضي! يطرح عدة تساؤلات منها: هل يمكن أن تكون الكلمات العادية شعراً وكيف؟ والسؤال الآخر حول

نظرية اللفظ والمعنى أو بمعنى أدق التوازن الكمي بين اللفظ والمعنى، بالإضافة إلى شعرية اللعب واللهو وخيال الطفولة وأصولها أو جذورها عند الرومانسيين، فهل هو

الخيال الذي يحاول اكتشاف العلاقات الخفية بين عناصر الوجود، أم الخيال الذي يلهو من خلاله الكاتب!

وأيضاً ماهية الشعر كما جاء في الغلاف الأخير للديوان أو علاقة الشعر بالعالم الذي يوشك أن ينهار، انتهاء بالشاعر نفسه في مواجهة القصيدة يتبادلان السؤال «ماذا بعد». ربما ماذا بعد الشعر الذي نعرفه، ماذا بعد الواقعية الفائقة في هذا العالم المصطنع أو الذي يعتمد على ما هو مصطنع؟

وهذه أسئلة قديمة قدم الشعر، بل هذا سؤال تقليدي منذ شعراء الجاهلية، فضلاً عن الأنواع الأدبية الأخرى في الرواية والمسرح، بيراندلو، على سبيل المثال، في مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» حين أقام حواراً عنيفاً بينه وبين فن الدراما أطاح فيه بالعديد من القواعد الدرامية.

والحوار في «فوات الأوان» مع الشعر سيكون في نصوص عديدة بأشكال مختلفة تقترب من أسلوب الفروتسك أحياناً، وسوف يرى القارئ منذ السطور الأولى أن صاحب الديوان يدرك كل شيء بعد فوات الأوان، فهو يؤكد هذا بشكل صريح ومباشر وتظل المحاكاة التهكمية تظل برأسها منذ القصيدة الأولى وتستمر حتى السطر الأخير من الكتاب، المحاكاة التهكمية التي تقوم على الاختلاف الذي يصل إلى حد التناقض، ولكن لا تتم كمادة للسخرية إلاّ إذا تم التعرف على العمل المحاكي، وهذا سوف يسبب

بعض المشاكل، بل قل إنه يضع بعد الحواجز بين القارئ والنص، حيث القصيدة تقدم القيم والثوابت التي يستند إليها المرجع المحاكي بشكل مقلوب، معكوس هذه القيم من خلال تحوير المادة المحاكاة وتحويلها إلى مجرد هيكل يخلو من الصبغة التي كانت تطبعها، وهذا يتطلب معرفة بالنص الأصلي موضوع السخرية .

في النص الأول «مُقبِل مُدبر» تهكم على الشعر والشاعر، وتتوالى السخرية من لغة الشعر من خلال استخدام لغة يومية تخلو من الجماليات. وهنا تؤدي المحاكاة التهكمية التي يعتمدها الشاعر محمد أبو زيد دورها كوسيلة لكسر الثوابت والقناعات في اللغة والحياة. وكسر الثوابت في اللغة بالتحديد من خلال إظهار التناقض بين ما يقال وواقع الحال، وهذا ما سيبدو واضحاً في نصوص عدة من بينها "تروتسكية ستالينية خضراء"، "على مذبح الأيديولوجيا"، وهكذا واقع هذه النظريات، وهذه العناوين والشخصيات وأسماء الكتب يوحي بشيء، والمكتوب من المفترض أنه يوحي بشيء آخر. وهنا يبدو التهكم ليس وسيلة سخرية فقط بل يتضمن بعداً نقدياً يقترب من الهجاء السياسي والاجتماعي.


كل هذا يدعمه الخيال الذي وصفه الرومانسيون بأنه أمر أساسي في الشعر، وبدونه يصبح الشعر مستحيلاً. وخيال محمد أبو زيد في «فوات الأوان» يعيد قراءة النظريات الكبرى، عبر كتابة غرائبية سريالية، لينتهي هذا الجزء بأقصى درجات اللهو واللعب التي يمارسها أبوزيد، بقصيدة عبارة عن فراغ ورسم بالكلمات في صفحة فارغة.

ولم يختلف الأمر كثيراً في الجزء الثاني «قبل»، فقط تتسع مساحة اللعب والتأكيد على انهيار العالم "أسفل هذا الهامش ستجدني ممدداً وحيداً ومنبوذاً إلى الأبد".

سيتوقف القارئ أمام الشعور بلا جدوى الشعر، وهذا أمر غريب، فالنصوص تؤكد السخرية من الشعر، فلماذا هذا الشعور؟ سؤال يحتاج إلى إجابة أن يشعر الإنسان أو

الشاعر بلا جدوى الحياة، فهذا مبرر وطبيعي، أما أن يشعر الشاعر بلا جدوى الشعر، فهذا أمر يدعو إلى التساؤل.

نصوص «فوات الأوان» تستعير مفردات العصر الرقمي، فهي أقرب إلى مقاطع في لغة مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تتحول الحياة في هذه النصوص إلى صورة من العالم الافتراضي. وتتكرر الغرائبية في نصوص عديدة باستخدام أسلوب الفروتسك الذي يشكّل نقيض العقلانية من خلال ما تطرحه من إرهاصات الخيال المرعب والمنفر في أحيان كثيرة.

ليست هناك تعليقات: