08‏/05‏/2007

محطة مصر.. مصنع البشر الذي لايتوقف عن الدوران

صفير قطار يتعالى، باعة جائلون يرفعون أصواتهم بالنداء على بضاعتهم، أحد الأشخاص يدفع ثمن صحيفة ويجري مهرولاً، أم تقبل ابنها وهي تودعه عبارة س.ح.م مكتوبة على أحد القطارات، صوت عامل المحطة.. يرتفع ليؤكد أن القطار قارب على الوصول.. شخص يجر حقائبه ويجري مهرولاً. يدان لولد وبنت يقبضان على بعضهما والدموع تترقرق في أعينهما، حمال يقترب من المارة ويهتف "حمال يابيه" محصل التذاكر سريعاً وهو يخبط بآلة معدنية على دفتره "تذاكر تذاكر"، فلاحون وصعايدة، ورجال ونساء، أطفال وشيوخ، مشاهير ومغمورون، لصوص وشرفاء، نجوم وكومبارس.. أجانب وعرب وأولاد بلد، عساكر يريدون أن يعودوا إلى بلادهم في انتظار القطار الحربي.. وطلاب ينتظرون قطاراتهم للعودة إلى بيوتهم.. وباعة لب وسجائر وفول سوداني ومناديل وكتب ممنوعة. باعة مصاحف وجرائد صفراء وكتب عن الأبراج والحظ وتعليم اللغة الانجليزية في أربعة أيام .. زحام.. أناس تجري. واناس تزحف، وعجزة ومتسولون وكرماء وبخلاء.. الجميع في انتظار القطار القادم.. يتدافعون أمام الرصيف في انتظار وصوله.. كل يحمل حقيبته في يده.
هذا جزء بسيط مما يدور في محطة مصر.. المحطة التي يرتادها جميع المصريين في مراحل سنية مختلفة من أعمارهم، ويدخلها ويخرج منها الآلاف يومياً .
محطة مصر هي مصنع البشر ، مصنع الحياة.. يدخلها جميع الأجناس جميع الفئات جميع الألسن والديانات ويختلطون ليكونوا مزيجاً واحداً اسمه محطة مصر.
محطة مصر تقع في أشهر ميادين القاهرة.. ميدان رمسيس، ومنها تنطلق القطارات إلى جميع محافظات مصر.. فالسياح يركبون منها ذاهبين إلى المحافظات الأثرية والصعايدة يعودون إلى مصر العليا والفلاحون يذهبون إلى الدلتا.. والذين من محافظات الإسماعيلية أو بورسعيد أو السويس يستقلون القطارات المتجهة إلى محافظات القنال.
ميدان رمسيس الذي يحيط بالمحطة يبتلع يومياً ملايين السيارات والمسافرين.. ينقل ضجيجه إلى قلب محطة مصر.
أشهر كائنات محطة مصر العساكر الذاهبين إلى الجيش، أو العائدين منه.. دائماً في ملابسهم الزيتية يتوزعون على أرصفة المحطة الإحدى عشر، ينامون على الأرصفة في انتظار القطار الأرخص والذي يسمح لهم بخصم على تذاكرهم.. ينتظرون القطار "الدرجة الثالثة" الذي تستطيع نقودهم أن تغطي تكاليفه والذي يستطيعون فيه أن يشتروا علبة سجائر رخيصة وولاعة "بنصف جنيه" وباكو بسكويت يأكلونه في سكة السفر الطويلة، وقد ينتظرون أيضاً "القطار الحربي" الأرخص والأأمن بالنسبة لهم.. وفي كل هذا لا ينسون أن يحترسوا من عساكر الشرطة العسكرية "يحافظون على ملابسهم وعلى الكاب فوق رأسهم.. ينظرون حولهم خوفاً منهم وهو يترقبون بشوق صافرة القطار الذي سيقلهم إلى بيوتهم يل\قضوا 24 ساعة يغسلون جلودهم ويغيروا ملابسهم ويأكلون "اللقمة نظيفة" قبل أن يعودوا مجدداً إلى التعب في "الجيش".

رصيف نمرة 5 هو اسم فيلم شهير لفريد شوقي، لكن الأشهر منه هو "رصيف رقم 11" هذا الرصيف الذي يعرفه كل من دخل محطة مصر، رصيف رقم 11 يخص الصعايدة فقط فعليه تجدهم بجلابيبهم المميزة. بكراتينهم المحملة بأحلام الصغار في لعبة أو "جلابية جديدة" أو "2 كيلو فاكهة" أو "عباءة للزوجة" رصيف رقم 11 هو الأشهر لأنه يشهد قصص الصعود والهبوط.
فعليه يصل الصعيدي غالباً صغيراً في العاشرة من عمره يجيء من قريته باحثاً عن عمل، عن لقمة عيش، عن طريقة للصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي. ويبدأ العمل من القاع ليصل في أحيان كثيرة إلى القمة.
رصيف القطار ليس له قلب، لذا فهو لا يكترث كثيراً بشهقات البكاء ولا الدموع التي تبلله حزناً على رحيل ابن للسفر بعيداً والخوف من ألا يعود.. أو توديع صديق بعد انفضاض قصة زمالة طويلة.. أو دموع فتاة تركها خطيبها أو زوجها وسافر للبحث عن مورد رزق جديد.. مابين صيحات الفرح، وشهقات البكاء تعيش أرصفة محطة مصر لكن كما قلت لكم يظل رصيف رقم 11 هو الأشهر.. ربما لأنه الأفقر.. ولأنه الأكثر أملاً، ولأنه ذلك الملقى بعيداً في آخر المحطة في انتظار من يغيثه.
الصعايدة تفاجئ عيونهم دائماً القاهرة من فوق هذا الرصيف، يدخلونها وكأنهم يدخلون كوكباً آخر.. كل شيء حولهم مختلف ، العادات والتقاليد والأحلام.. والأشخاص والمأكل والملبس، حتى الصداقة مختلفة لكنهم حين يغلبهم الشوق سيغنون "يابابور الساعة 12 يامسافر ع الصعيد، خد مني سلام وتحية وروح لحبيبي في يوم العيد" ، لكنهم أثناء عودتهم عادة مايكونوا قد اكتسبوا خبرة كبيرة.. وفقدوا أشياء في المقابل.. فقدوا أنفسهم.

من أشهر كائنات محطة مصر أيضاً طلاب الجامعة ، هؤلاء تجدهم طوال السنة الدراسية يتدفقون بالآلاف صباحاً على أرصفة المحطة ليلحقوا بجامعاتهم، أحياناً يأتون مبكرين.. إذا كان القطار يأتي مبكراً، لذا فهم يضطرون إلى الانتظار طويلاً، حتى تدق ساعة الجامعة بداية المحاضرات ، وهم عائدون ينتظرون أيضاً طويلاً القطار الذي قاموا بعمل "اشتراك" فيه، لتوفير المصاريف قليلاً على أهلهم.
على أرصفة محطة مصر تبدأ علاقات عاطفية كثيرة بين طلاب وطالبات الجامعة بعضها ينتهي بالزواج ، وبعضها ينتهي بالانفصال.. وبعضها لاتبقى منه سوى ذكرى.. قد يتذكرها أحدهما إذا ركب القطار يوماً بعد انتهاء الدراسة الجامعية فيبتسم .
تتعدد أرصفة محطة مصر بتعدد اتجاهات قطاراته.. وبتعدد وجوهه.. وبتعدد الأقدام المهرولة الذاهبة والراجعة تسأل "القطار الذاهب إلى الأسكندرية رصيف كام".
يفضل السياح أن يركبوا القطارات من محطة مصر لكي يروا وجه مصر الآخر.. وجهها الحقيقي، وجهها الذي تختلط فيه كل الوجوه فتنتج شعباً جميلاً مختلفاً فاتناً. وهم عادة يركبون من رصيف 8 القطارات المتجهة إلى أسوان والأقصر.. ويأتون في جماعات.. ينظرون في دهشة إلى هذه الوجوه الحقيقية لمصر.. هذه التي لم يروها في بوسترات الدعاية ولا الكروت الملونة الجميلة. يأتون في أفواج تصحبهم قوات أمنية لحراستهم.. مع أنهم لو تركوهم فلن يصابوا بأي أذى، فهنا لا أحد يلتفت إلى أحد هنا الكل يهرول بحثاً عن قطاره.
من معالم محطة مصر الشهيرة الساعة الكبيرة في ميدان المحطة، وباعة الكتب والجرائد الذين يلفون قلب المحطة والذين يبيعون عادة كتب أنيس منصور ومصطفى محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي وبعض الكتب الأجنبية، أشهر معالم محطة مصر "الحمال" .. ذلك الشخص البسيط الذي تجده يقترب منك ليقول "حمال يابيه" عادة يرتدي ملابس قديمة يسميها ملابس العمل يحمل الحقائب، ويهرول إلى القطار يعرف موضعها جيداً، ينفض يده ويقول "أي خدمة ياباشا" منتظراً رزقه.
الحمالون هم ملوك محطة مصر.. لهم ورديات، ولهم أماكن محددة، كل "حمال" له رصيف محدد لايستطيع تجاوزه، قدمهم المخرج يوسف شاهين في فيلمه "باب الحديد" والذي قام ببطولته مع الفنانة هند رستم التي قامت بدور هنومة.. ليقدم عالماً صعباً يدور داخل محطة مصر.. مليئاً بالحياة، الحياة التي لايلتفت إليها أحد.
أحمد، العسكري الذي أخذ أجازة 48 ساعة من الجيش كان ينام على رصيف 11، واضعاً حقيبته القديمة المليئة بالثقوب تحت رأسه، أحمد الذي يستيقظ على صفير القطار القادم من الجهة الأخرى على رصيف 4 من اسكندرية قال لي أنه أخذ أجازة 48 ساعة فقط سيعود إلى بلدته في المنيا (الصعيد) ليستحم ويأكل "لقمة نظيفة" ويجلب نقوداً قليلة لكنها ستكفيه لشراء السجائر وسندوتشات الفول من كانتين الجيش.
أحمد لم يعرف بماذا يجيب علي حين سألته هل يحب محطة مصر وأجاب "عادي" ثم أردف، لكن بصراحة حين أصلها أشعر بالراحة وأشعر أنني أصبحت قريباً جداً من بلدي.
على غير بعيد كانت أم تودع ابنها الذي يستعد للسفر إلى جامعة جنوب الوادي وتوصيه خيراً بنفسه، وبأن يأكل جيداً، وقالت لي : "التنسيق وداه آخر الدنيا".
دموع كثيرة تتساقط على أرصفة محطة مصر لكن أشهرها بلا ريب تلك التي سقطت حين احترق القطار المتجه إلى الصعيد منذ عامين، وبه مئات الأحلام لأشخاص كل ذنبهم أنهم حلموا يوماً بالسفر إلى العاصمة للبحث عن عمل دموع فرحة بلقاء الأحباب، ودموع حزن لفراق الأحباب.. والجميع يهرول بحثاً عن حقيبته، بحثاً عن عربته، بحثاً عن موطأ قدم.
محطة مصر تم انشاؤها عام 1851، لتصبح تاني أقدم محطة سكة حديد في العالم بعد خط السكك الحديدية الذي يربط بين مدينتي مانشيستر وليفربول في انجلترا، تحرك أول قطار منها عام 1856 متجهاً إلى الأسكندرية وتضم متحف السكك الحديدية الذي أنشأه الملك فؤاد عام 1933 ويضم بانوراما شاملة لقصة القطار في مصر من خلال مقتنيات أصلية وميداليات.
يتكون المتحف من طابقين ويحتوي على قطار الخديوي سعيد الذي أهدته له فرنسا عام 1862 وهو عبارة عن قاطرة وصالون ضخم ملحق به وظل حكام مصر يستغلونه حتى عام 1898 للذهاب به إلى الأسكندرية في الصيف فقط أما الطابق الثاني فيحتوي على نموذج قطار صنع في الخمسينيات في القرن الـ19 واقتصر استعماله على العائلة المالكة فقط.
أتجول في المحطة.. مستمعاً إلى صفير قطار قادم.. صوت الميكروفون يرتفع باسم رقم القطار واتجاهه.. صديق يلوح لصديقه.. أم توصى ابنها.. رجل يهرول ناحية شباك التذاكر.. رجل يقرأ تذكرته فتاة صغيرة تحتضن كراريسها وفي عينيها نظرة حزن.. القطار يقترب وعليه حروف "س.ح.م" اختصار سكك حديد مصر.. يتعالى الضجيج.. تتوه الملامح والأحلام والبشر.. أردد أغنية قديمة "ياوابور قل لي رايح على فين".

هناك 15 تعليقًا:

Reemo يقول...

عمرى ما رحتها ولا مره بصراحه
يمكن لانى عمرى ما سافرت بالقطر
بس بجد انت وصفتها بطريقه رائعه لدرجه انى تخليت الناس والمشاهد وتحركم فيها والدوشه والزحمه والسرعه
انا اول مره ازورك
اكيد هكرر الزياره
تحياتى

قلم جاف يقول...

أحسنت في اختيارك للتعبير الذي يصف محطة مصر أحد أكثر أماكن القاهرة ازدحاماً.. رغم زيارتي للقاهرة ست مرات إلا أنني لمحتها مرة واحدة من بعد وقت أن كان ميدانها يسمى بميدان رمسيس..

حاشية :

س.ح.م صارت كلمة سيئة السلوك ، لم تعد تلك الهيئة العريقة الضاربة بجذورها في القدم قدر ما تحولت لمنظمة إرهابية تحصد بالإهمال من المصريين بالآلاف ممن لم تتمكن رشاشات المتطرفين من حصدهم طوال سنوات الإرهاب!

غادة الكاميليا يقول...

مش عارفه كان لازم أعلق بجد
كانت بالنسبه لي مزيكا حزاينى أوى لدرجة البكا ربما لأنى سأنزل إليها قريبا ولأول مرة أضع في مخيلتى ملامح للفراق بعد أن أعتاد على هناك أكره الفراق الذي دوما مايحدث معى أخشى لحظات صفير القطار التى ستعلن عن فراقي لما اعتدت عليه محمد ربنا يسامحك هات منديل أمسح بيه دموعى بقى

غادة الكاميليا يقول...

معلش نسيت كان لازم أقولك كل سنه وانت طيب
ستجد نفسك قريبا يا مزيكاتى حتى وان طال الوقت كلنا نبحث الأهم هو أن تكون طيباً كل عام

soha zaky يقول...

مفيش كلام تانى يتقال

big big girl...in a big big world يقول...

محطة مصر
ذكريات عدت و ذكريات لسه جايه
اجمل شىء هناك قراية وشوش الناس

تقف كده و تسند ضهرك على الحيطه او السور الحديدى و تسرح معاهم

كل واحد عايش فى همه
فتنسى همومك للحظات
و ممكن يكون فى حد تانى ناسى همومه بيك

مكتب الاستعلامات اللى فى منتصف المحطه

لوحة وصول و مغادرة القطار

المقاهى الصغيره

:)
تحياتى

مـحـمـد مـفـيـد يقول...

عارف يا محمد يمكن الواحد بيروح رمسيس دي مليون مره
بس مش بيعرف يشوفها بعين زي عينك
وانت فاهمني

Shaimaa Zaher يقول...

جميل البوست والرحلة ، كان نفسي من زمان أروح متحف القطارات، لسه نفسي أروحه طبعا ، بس الواحد اتفسح شوية كده ...

صاحب البوابــة يقول...

وصفك اكثر من معبر

وكلماتك الاحساس فيها عالي

اما عن مستوى القطارات فحدث ولا حرج

تحياتي

محمد أبو زيد يقول...

reemoo
شكرا جزيلا لك

قلم جاف
لم تعد السكة الحديد
أصبحت السكة " الحضيض "


غادة الكاميليا
اتفضلي آدي علبة مناديل كاملة

وانتي طيبة

محمد أبو زيد يقول...

سهى زكي
ربنا يخليكي يا سهى


big big girl...in a big big world

التفاصيل هي لعنة المكان ، هي التي تربطنا به ، والتي تحفر ذاكرتنا بنتوءاتها

محمد أبو زيد يقول...

محمد مفيد
إنت فين يا عم ؟


شيماء زاهر
محطة مصر ، هي المتحف الحقيقي ، تماثيله شخوص حقيقيين ، تحركهم القطارات جيئة وذهابا

صاحب البوابة
حمداله على السلامة
إنت اختفيت فين يا راجل

غير معرف يقول...

ولا اجمل ولا اروع من كدة ولو اتعملت فيلم تسجيلي هايكسر الدنيا علي الرغم من ان محطة مصر مابقتش مهمة زي الاول لكن رغم كدة لسة فية ناس كتير بتروحها ولسة نفس المشاعر اللي مكتوبة موجودة ... تحياتي

كريم ابراهيم

غير معرف يقول...

أنا عمري الأن خمسون سنه
رجعتنى للزمن الجميل اللى كان كله قطارات وبس وقليل من الكافورى ( يعنى الاتوبيسات حالياً )وسيارت نقل ركاب صغيرة

غير معرف يقول...

فين الحلاوة دي فى هذا الزمن الكئيب