25‏/11‏/2011

كراكيب نهى محمود..تحيا الحياة

محمد أبو زيد

1

يعرف من يقرأ مدونة "نهى محمود"، أنها أمسكت أذن الحمار ـ يا للعجب ـ وركبت الجمل ـ كما نشرت صورا لها وهي تعتلي سنامه ـ عندما زارت أسوان والأقصر، يعرف أنها ذهبت إلى سوهاج لزيارة زينب، وفتيات من قارئاتها من هناك، يعرف أنها تكره البطيخ، وتعتقد أن شكله الأخضر المزيف يخفي خلفه أسرار مجرم حرب هارب من الحرب العالمية الثانية، وإدمانها المطبخ، ويعرف أيضا أنها تكره الكاتشب بقدر ما تحب كاظم الساهر.

لن يكون القارئ بحاجة لأن يكون صديقا شخصيا لنهى حتى يعرف كل هذه التفاصيل، فزيارة مدونتها كفيلة بهذا، هذا لأن نهى تعتبر أن صديقتها الحميمة، وربما الوحيدة، هي المدونة، التي تبوح لها بأدق تفاصيل حياتها، بأسرارها، وأحزانها، وأفراحها، وجنونها، وهلاوسها أيضا، وأفلامها المفضلة.

من يريد أن يعرف نهى محمود جيدا، عليه فقط أن يدخل مدونتها، ليجد كل تفاصيل حياتها، ربما قبل أن يقرأ، سيكتشف أن شكل المدونة، يشبه غرفة مكتب خاصة بنهى، لون روز بناتي، صورها موجودة على سور المدونة، أغلفة كتبها الأربعة "نامت عليك حيطة"، " راكوشا"، "الحكي فوق مكعبات الرخام"، "كراكيب"، المقالات التي كتبت عنها، صورة كاتبتها المفضلة، قرينتها كما تحب أن تنادى، إيزابيل الليندي، روابط المقالات التي كتبت عنها وعن أعمالها، ولينك مدونتها الثانية "عالم صوفي"، وروابط مدونات أصدقائها في الكتابة والتدوين، وعداد زوار يقول إن عدد قرائها تجاوز حاجز ال125 ألف قارئ والذين تصفهم ب "المتلصصين"، فضلا عن بعض المقولات التي تحبها، تكشف عن أفكارها، واعتقاداتها، فلمدام دوستيل "الحب هو تاريخ المرأة وليس الا حادثا عابرا فى حياة الرجل"، ولفيويليتا بارا "الحب وحده بعلمه يعيدنا أبرياء"، وتضع تحت صورتها " ليه ترسمي الكون الوسيع صندوق ورق استسلمي واحلمي بكون جديد ومختلف اللي نلاقيه هوه المهم، وأي شئ بنخسره ماهوش مهم"، لكنها قبل هذا كله تضع تحت اسم مدونتها كلمة تخصها " الكتابة وردة روز في كتاب الحياة لا تذبل أبدا".

ما سبق هو تفاصيل غرفة فتاة، أو سطح مكتب الكومبيوتر الخاص بها، لكن نهى حولته إلى مدونتها الخاصة، التي يشاركها بهجتها أصدقاؤها، وقراؤها، وربما هو ما يفسر أيضا مغزى اسم المدونة "كراكيب"، ونسبة الكلمة إلى اسم نهى، يكشف عن أن المدونة هي كراكيب من عالم نهى الخاص، من تفاصيل حياتها، هكذا بدون ترتيب، تأتي بشكل اعتباطي، غير مرتبة، ولا مقصودة، بعضها قديم، وبعضها من الذاكرة، لكنه يأتي في شكل تدوينات جميلة.

هذا عن شكل المدونة الخارجي، لكن محتوى المدونة الداخلي لا يختلف كثيرا عن شكلها، ففيه تفاصيل أكثر عن نهى، عن حياتها، كتابتها، أصدقائها، ما يضحكها، ما يحزنها، أفلامها المفضلة، انكساراتها، وأعتقد أن المدونات في مصر لو حافظت على ما تتميز به مدونة نهى محمود من مصداقية، واقتراب من الذات، وتلامس معها، لم يكن لها أن تتراجع أمام الفيس بوك وتويتر، اللذين التصقا بالذات أكثر.

فقبل سبع سنوات عندما بدأت المدونات في غزو مصر، لم تكن كما هي عليه الآن، كان جزءا منها يقوم بدور سياسي وصحفي، مثل مدونة وائل عباس "الوعي المصري"، ولكن كان الجزء الأكبر منها يقوم بالتأريخ لمشاعر جيل افتقد الحرية، ووجد في المدونات ما يعبر عنه، فكتب عن كل شيء، لكن كان هو، أي هذا الجيل، في مقدمة الكتابة.

الفكرة الأساسية التي قامت عليها المدونات هو ما ذكرته سابقا، هو تدوين الذات، كتابة الذات، أن تصبح المدونة دفتر مذكرات للشخص، عن أهم مشاهداته، وتعليقاته، وحالته الوجدانية، أن ينتقل كشكول المذكرات الشخصية اليومية على الانترنت ليتشارك فيها مع الآخرين، أو لا يتشارك، وهو ما نجح الفيس بوك فيه في سحب البساط من تحت أقدام المدونات، فيما تحولت المدونات في جزء كبير منها إلى ما يشبه المنتديات، أو دور نشر لنشر الكتب والمقالات، أو بديلا للمواقع الشخصية، والمجلات لدى الكثيرين، ومع هذا ظل القلائل هم الذين يستطيعون الحفاظ على وجود مدوناتهم على حالها، وعلى تماسها مع ذواتهم، ومن هذه المدونات مدونة نهى.

منذ أربع سنوات تقريبا، بدأ موسم الهجرة الجماعي، من المدونين، إلى الفيس بوك، بدلا من مدوناتهم، بل وهجرة المدونات تماما مع كثير من الأشخاص، كان الفيس بوك عالما أكثر حميمية، التعرف وجها إلى وجه عن طريق الرسائل والشات والصور، والتعليقات القصيرة، بل والدخول إلى تفاصيل حياة الأصدقاء، بفرض صدقيتها، الأصدقاء الذين تم التعرف عليهم، غالبا على المدونات، عن طريق قراءة ما يكتبون، أو التعليق عليهم، وخلق عالم افتراضي سعيد، يقوم على العلاقة بين القارئ "المدون"، والكاتب "المعلق"، فقط، كسر الفيس بوك الهوة بين الاثنين، حطم ، لم ينجح موقع "فيس بوك"، كثيرا مع نهى في أن يحولها عن المدونة، كما فعل مع كثيرين، كان الفيس بوك يعني لها مزيدا من الفضفضة التي تحبها، والثرثرة العذبة، تماما كما تفعل في المدونة، لكن بشكل أكثر حميمية.

الكتابة وردة روز في كتاب الحياة، هكذا تتعامل نهى مع مدونتها ومع كتابتها، على اعتبار أنها وردتها التي لا تذبل أبدا، وتسعى للحفاظ عليها حية طوال الوقت، بكتابة صادقة، وطازجة في آن.

2

أول مرة التقي فيها نهى محمود، كان في كافيتريا على سطح فندق أوديون، في وسط البلد، بصحبة الصديقين الطاهر شرقاوي، وسهى زكي، والصغيرة نهى بكر، وأعتقد أن المناسبة كان احتفالا بعيد عيد ميلاد سهى، كانت نهى في ذلك اليوم منهارة تماما، فقد قررت أن تزيح جانبا كبيرا من حياتها جانبا، وأن تغلق مدونتها، دار النقاش، طوال ذلك الليل عن الأسباب والمبررات، وأهمية أن تظل المدونة موجودة، حتى لو قررت ألا تكتب فيها مرة أخرى، لأنها تؤرخ فيها جانبا من حياتها، وتفاصيل أيامها، لكن ما حدث في الليلة السابقة، كما حكت لنا نهى، أنها ظلت سهرانة تقرأ التدوينات التي كتبتها، تم تمسحها، تقرأ التدوينات ثم تمسحها، ومع آخر سطر في المدونة، كانت نهى قد ضغطت على آخر Delete لآخر "بوست" في المدونة، وأتت عليها كلها.

لم اكن أعرف نهى جيدا، فقد كنت أول مرة أقابلها، كنت أعرفها من خلال مدونتها، وتعرفني من خلال مدونتي، ونتبادل التعليقات على ما نكتب، ثم اكتشفنا أن بيننا أصدقاء مشتركين، لكنها كانت في تلك الليلة تبكي، ولم أكن أعرف لماذا، هل تبكي بسبب الموقف، الذي جعلها، وربما أجبرها، على حذف المدونة، أم تبكي لأنها مسحت مدونتها، وهي لم تكن تحتفظ بتلك التدوينات مكتوبة على الكومبيوتر لديها، لأنها كما عرفت فيما بعد، تكتب مباشرة على المدونة؟

ما حدث بعد ذلك يمكن وصفه بمظاهرة في حب مدونة "كراكيب نهى محمود"، قادها القاص طه عبد المنعم، حيث أنشأ جروبا على الفيس بوك باسم "محبي مدونة كراكيب نهى محمود"، كان الهدف الأساسي للجروب، هو دعوة نهى لإعادة فتح مدونتها، في أقل من ثلاثة أيام، كان أعضاء المجموعة قد تجاوزوا، المائة عضو، وامتلأ حائط المجموعة على الفيس بوك بعبارات تدعوها للإقلاع عن جريمتها النكراء، أول تعليق كتبه طه " كتبت نهى محمود، المدونة مغلقه لنفاذ الغرض منها، وكتب طه عبد المنعم: إيه معنى التهريج اللى أنت عاملاه على مدونتك،ولكنها لم ترد"، وكتب أحمد علي عبد النور " ايه يا نهى طبعا انا مش عارف ايه اللى حصل بس شكلك مزعله الناس منك وده عيب، صلى على النبى وشوفيهم عايزين إيه"، وبعد أن انضمت نهى للجروب، كتب الروائي نائل الطوخي معلقا " هي نهى محمود انضمت للجماعة التي تطالب نهى محمود بفتح مدونتها ولا أنا فاهم غلط يا جماعة؟،يعني نهى الآ، تشكل جزءا من طاقة الضغط على نهى؟، لكن يبدو أن كلام نائل كان يحمل جانبا كبيرا من الصواب، فنهى نفسها كانت تريد عودة المدونة، وفي يوم 5 ديسمبر 2007 ، وتحت عنوان يحمل دلالة واضحة "عودة الروح"، كتبت أول تدوينة جديدة لها في المدونة تقول " الكتابة هي الحالة الموازية للحزن في الحياة، وللحلم في النوم، وللحب في عالم موحش لا يسكنه بشر، الكتابة .. تلك المساحة المصبوغة بالدم..هنا تتجسد مشاعري واقعا ملموسا أستطيع أن أراه وأرقبه عن كثب، أقبله كإيمان أو أتبرأ منه، هنا حدود لعالم يعرفني وأطمئن له، أي غضب ذلك الذي سكنها لحظة أن قررت تشويه ذلك الجزء الحميم من عالمها ، وصمة القبح في تلك النقطة الرائقة من تاريخها المهووسة بكتابته على جدران المعابد كالفراعنة، المهووسين بدورهم بالخلود، أرادت ان تحفظ لحظة الغضب هذه تحديدا ان تجمدها، توقف خطوط الزمن وناموس النسيان بأن تدمر شئيا تحبه جد تدمره فتحمل وجع وخطيئة تكفيها مائة عام، لتتذكر ألا تسامح ،ربما تبدو اسباب الرحيل غامضة، لكن أسباب العودة واضحة تماما،أعتذر لكم جميعا وتعجز كلماتي عن وصف امتناني ومحبتي".

3

تحولت مدونة "كراكيب نهى محمود"، أو أجزاء منها، إلى كتابين، الأول بالاشتراك مع القاص والكاتب الساخر محمد فتحي باسم "نامت عليك حيطة"، والثاني باسم "كراكيب"، وفي الكتابين تتماس خيوط السيرة الذاتية مع الكتابة الأدبية، وهو أكثر ما يميز مدونة نهى محمود.

البعض لا يعرف الفارق بين الأدب والسيرة الذاتية، وكتابة المذكرات، لذا يقع قارئ مدونة نهى دائما في المساحة الفاصلة بين الخيال والواقع، أو كما تقول هي في روايتها الأخيرة، قد يلف حبل الحقيقة على المتخيل، تسحبه التفاصيل شديدة الواقعية، ليعتقد أن المتخيل هو الواقعي الأكيد، وشتان بين الاثنين، وربما لهذا كتبت نهى ذات مرة عن صديقة لها غضبت منها لأنها أفشت سرا بينهما على المدونة، دون أن تعي هذه الصديقة، فكرة مزج الخاص بالعام، التفاصيل الحياتية الصغيرة، بالتفاصيل المتخيلة الكبيرة، أن المدونة عند نهى هي عالمها الخاص، مرآتها التي لا تخجل منها، تظهر كل تفاصيلها، فلماذا يخجل أصدقاؤها ما دامت هي لا تخجل.

ما يعجبني في مدونة نهى أنها لا تخجل مما تكتب أيا كان، فهي تكتب كما لو كانت عند أب الاعتراف في الكنيسة، أو أنها تقف أمام الله وتقول له يا رب أنا فعلت كذا وكذا، نهى المدونة، والروائية تكتب ، بهذا الشكل الذي يقع في المسافة الوسطى بين الاثنين، لذا لا تستطيع في المدونة أن تحدد أين يبدأ الاعتراف، وأين تبدأ الكتابة الأدبية، لكن ما يميز الاثنين هو "نهى المندهشة على الدوام".

لكن الحيرة التي يقع فيها قارئ مدونة نهى هو الشخصيات الموجودة على الدوام في التدوينات، حتى لتشعر أنها تفاصيل حياة، تقلب صفحاتها، تدويناتها، يوما بعد يوم، فهناك الأب، شديد الطيبة، الذي يعامل الابنة بحنان من يدرك أنه لا أحد لها سواها، ولا أحد له سواها، ويوافق على كل نزواتها، ويتقبل بحنان جنونها، وهناك الأخ المشغول بعالم الكومبيوتر، ولا يبدو معجبا كثيرا بالطعام، هناك مقهى سوق الحميدية، والأستاذ سيد، والأصدقاء، وهناك الكتب ، وهناك إيزابيل الليندي التي تطل بين كل تدوينة وأخرى، هناك عالم السينما الحاضر بقوة، من خلال الأفلام التي تتناول عالم النساء، هناك المطبخ، وهناك شقتان، تركت إحداهما إلى الأخرى، مصطحبة طاسة كبيرة، وهناك الحبيب الغائب على الدوام، الملام دائما، النذل في كثير من الأحيان، الذي تخاطبه بشكل دائم في كثير من التدوينات، ما مضى وغيره تفاصيل عالم روائي، حياتي لو شئت الدقة، تكتبه نهى في مدونتها من خلال تدوينات، تقترب من المفهوم الأصلى للتدوين وهو كتابة الذات.

4

لأن نهى شعرت أن عالمها الخاص، تفضحه بالرغم منها غواية الكتابة، التي تجبرها على البوح بما لا تريد، فقد قررت أن تنشئ مدونة جديدة باسم "عالم صوفي"، ولا تنسبها إلى نفسها، لكن الطريف أن الذين دخلوا إلى المدونة الجديدة اتهموا صاحبة المدونة المجهولة بأنها تقلد كتابة نهى محمود، وتسرقها، وهو ما اضطرها لأن تعلن أن المدونة تخصها، وبعد كشف السر توقفت عن الكتابة فيها.

لماذا أذكر هذه الحكاية، ربما لأن نهى محمود استطاعت أن تخلق طريقة في القص، والكتابة في المدونة خاص بها، وهو ما يعطي المدونة خصوصيتها، ولغتها الخاصة، وأعتقد أن نهى من القلائل الذين دخلوا إلى الكتابة الإبداعية من باب التدوين، واستطاعوا أن يشقوا طريقهم فيه بخطى واسعة، ففي الأعوام الأخيرة تحول عدد كبير من المدونين من "أصحاب مدونات إلى أصحاب كتب"، دون أن يدركوا أن التدوين في حد ذاته إبداع قائم بذاته، فطبعوا تدويناتهم في كتب وكتبوا عليها أنها شعر أو قصة، وأقاموا حفل توقيع، ثم توقفوا عن الكتابة وعن التدوين.

نهى كان الأمر مختلفا بالنسبة لها، فعالم الأدب، فتح أبوابه لها بسبب مدونتها، التي أعتقد أنها مهدت لها الطريق إلى عالم الأدب، وعالم الرواية، واستطاعت نهى أن تستفيد كثيرا من طريقتها الخاصة في التدوين في بناء عالمها الروائي، تشكيلا، ولغة، واستطاع هذا العالم أن يتطور بسرعة، ويمكن ملاحظة ذلك بقراءة أول عمل لها "الحكي فوق مكعبات الرخام"، وعملها الأخير "تحت الصخرة المستطيلة"، ففي العمل الأول، كان التدوين يطل بقوة، لكن في العمل الأخير، هناك خبرات، وقراءات، ومشاهدات، بالإضافة إلى الاستفادة، من قوة التدوين، والحكي.

نهى محمود، تدون كما يجب أن يكون التدوين، تخلق عالما افتراضيا، موازيا للحياتي المعاش، بلغة مميزة، وكتابة طازجة.

ــــــــــــــــــــ

*نشر في مجلة الثقافة الجديدة