21‏/07‏/2012

.. وما أدراك ما عبد الناصر

قبل ست سنوات، كنت مع مجموعة من الأصدقاء، في الإسكندرية نصور فيلما تسجيليا عن الذكرى الخمسين لتأميم قناة السويس. وقفنا في ميدان المنشية، حيث ألقى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر خطابه الشهير هناك، وجهنا الكاميرا إلى المارة في الشارع، للحديث مع عدد من شهود العيان الذين رأوا عبد الناصر وهو يخطب وسمعوه وعاشوا تلك اللحظة.
وفيما نحن نفعل ذلك، اقترب منا رجل رث الثياب، أشعث الشعر، يبدو عليه الفقر وضيق الحال، كما يفضل الروائيون القدامى أن يصفوا، وسألني "إنتو بتعملوا إيه؟"، فقلت "إحنا بنسجل فيلم عن تأميم قناة السويس والخطاب اللي ألقاه عبد الناصر هنا في ميدان المنشية". فعلق الرجل بسرعة، وبلهجة تبطنها السخرية "آه قصدك ساعة ما كانت مصر بيحكمها رجاله".
هذه جملة لا أنساها، قال الرجل وانصرف، لكن بدت الجملة كأنها قادمة من كتاب ملحمي يؤرخ لمزاج الشعب المصري، ولوعيه الجمعي، ولرؤيته لمفهوم "الرجولة"، و"الحاكم"، و"الزعيم"، بدا لي الرجل كأنه خارج من كتاب أسطوري، ليقول كلمته وينصرف، لكنه قال الحكمة التي تنهي القصة عادة. الحكمة التي تقول إنه بالرغم من التغيرات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، بالرغم من التجريف السياسي والفكري الذي حدث في مصر منذ بداية السبعينيات، بالرغم من حملات تشويه ثورة يوليو وعبد الناصر، فلا زال الزعيم الراحل يعيش في قلوب الناس، وفي وجدان الأمة.
هل عبد الناصر هو ثورة يوليو؟ أقول لك: نعم، هو الأكثر تعبير عنها، لأن من جاءوا بعده لم يحافظوا على الثورة التي سعى جاهدا لتحقيق أهدافها، وسواء أفلح أم أصاب، سواء اتفقت معه أم اختلفت، فالسادات ألقى ب 99 في المائة من أوراق اللعبة في يد إسرائيل، وفي عصره بدأ الانبطاح السياسي والانفتاح الاقتصادي وخلجنة الريف والأفكار، وحول مصر من دولة اشتراكية إلى دولة رأسمالية لكنها فشلت حتى في الرأسمالية، أما مبارك فاقتلع جذور تجربة ثورة يوليو من الأرض، ومزقها شر ممزق، فباع الدولة لرجال الأعمال، وخصخص كل شركات القطاع العام التي أنشأها عبد الناصر، وحول مجانية التعليم إلى حلم بعيد المنال، وقضى على المشروعين الصناعي والزراعي في مصر، وأنهى الدور الإقليمي لمصر في محيطها الإفريقي والعربي والإسلامي والدولي. ويكفي هنا أن نقول أن ما صنعته ثورة يوليو / عبد الناصر في 16 عاما، ظلت الأنظمة التالية 30 عاما تعمل على إفشاله وتحطيمه.
ولكن بالرغم من  ذلك يمكن القول أيضا أن ثورة يوليو هي الثورة الوحيدة، التي قامت في مصر من أجل أهداف حقيقية،  ومن أجل مبادئ ستة حققتها بالكامل، في حين لم تحقق ثورة يناير مثلا سوى الإطاحة برأس النظام فيما ظل النظام بكامل دولته العميقة ينخر في أحشاء مصر. افتحوا كتب التاريخ وقارنوا بين مصر قبل 23 يوليو 1952، وبعدها لتعرفوا ماذا حققت، اقرءوا المبادئ الستة، "القضاء على الاقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية"، نجح عبد الناصر في ذلك، ونجح من جاءوا بعده في تدمير كل هذا أيضا.
لست من دراويش عبد الناصر، ولا من الناصريين، فأنا أعرف جيدا أن خطيئة عبد الناصر الكبرى كانت فساد ملف حقوق الإنسان في عصره، وأعرف أيضا أن آفة الناصرية هم الناصريون أنفسهم، هؤلاء الذين انقسموا إلى آلف فرقة وفرقة، في داخل كل منهم عبد الناصر صغير، لا يأخذ منه أفكاره ولا مبادئه، ولكن يأخذ رغبته في الزعامة، ولذلك لدينا عشرات التيارات الناصرية، والأحزاب التي تتقاتل على زعامة جثث أحزاب ميتة.
آفة الناصرية هم الناصريون، لكن المصريون كلهم ناصريين بدون انتماء حزبي، في داخل كل بيت صورة لعبد الناصر، داخل كل حافظة نقود لجد أو أب، صورة صغيرة للزعيم، داخل كل بيت في ريف مصر، من يعرف أنه لولا مجانية التعليم لما تعلم، وأنه لولا القضاء على الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين والفقراء، لظلت مصر عزبة كبيرة لرجال الأعمال، وأنه لولا مكانة مصر الستينيات، لما علم المصريون العالم العربي فك الخط.
للأسف، يمكن القول إن تجربة ثورة يوليو انتهت يوم 28 سبتمبر 1970، عندما توفي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ولم يتبق منها سوى طيف جميل، وذكرى جميلة يرويها آباؤنا وأجدادنا لنا، ومقال أشبه بالعدودة كهذا، فقط بقى أن نقرأ نحن التاريخ، ونتعلم.
ـــــــــــــــــــــ
*نشر في أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات: