06‏/10‏/2017

"عمري ف يوم ما غزيت"


"تعرف يا أبو زيد

أنا عمري ف يوم ما غزيت"

تطاردني أبيات قصيدة صديقي مجدي عبد الرحيم، تتردد في ذهني كناقوس خطر وأنا أتابع أخبار مرضه بقلق، أسأل الأصدقاء عنه، يأتي صوته مبحوحاً عبر الهاتف، ثم يتوقف عن الرد تماماً. يدهمني صمت كالموت عندما أقرأ نعيه على صفحة فيس بوك فجر يوم قاتم، تتحول كل الأشياء إلى اللون الأسود، وأنا أحس أن جزءاً مني يضيع إلى الأبد، هذا الإحساس الذي يطاردني حتى الآن كلما مرت أمام عيني صورته، أو ابتسامته الطيبة، أو صوته وهو يلقي قصائد لم تخرج إلا من قلبه.

"تعرف يا أبو زيد

أنا عمري ف يوم ما غزيت"

أتذكر جيداً الأيام التي كتب فيه هذه القصيدة وأهداها إلىّ قبل أن يضمها إلى ديوانه الأول. متى كان ذلك. ربما قبل ثمانية عشر عاماً. كنا نلتقي بشكل شبه يومي، نتنقل بين الندوات تلمّساً لطريق الكتابة، ما بين ندوات أسبوعية في نادي الجيزة ونقابة الصحافيين وجريدة الجمهورية، ومقهى خلف صحيفة الأهرام كنا نجلس فيه بالساعات، يصطحب معه ابنته فاطمة في أحيان كثيرة، التي تجلس بجواره وتنصت لما يقوله الشعراء رغم سنواتها القليلة. كنت قادماً لتوّي إلى القاهرة، فاعتبر نفسه أخاً أكبر لي واحتضنني، فتح لي بيته، عرفني إلى والدته التي كانت جزءاً من روحه. أتذكر أول قصيدة نشرها، أول كتاب له، أول مقال ساخر، خطواتنا معاً من ندوة إلى ندوة. مرت الأيام والسنين، وتغيرت أشياء كثيرة، تغيرتُ، لكنه ظل كما هو، محافظاً على قربه، على محبته، على إيمانه بذاته، على إيثاره للآخرين على نفسه، على ابتعاده عن الشللية، ورفضه المكاسب الزائفة. ظل كما عرفته في أول يوم، نقياً جميلاً، لا يستند في الحياة إلا إلى قصيدته.

"تعرف يا أبوزيد

أنا عمري ف يوم ما غزيت"

لماذا يا أستاذ مجدي؟ لماذا "عمرك ما غزيت"، لكنك حاولت كثيراً، ونجحت في أن يكون لك مكانك واسمك، لو كنت بيننا الآن وقرأت ما كتب عنك، لو رأيت كل هذا التقدير لعرفت أنك "غزيت"، وحققت ما حلمت به. لكن هل كنا ننتظر موته حتى نقول له إننا نحبه، أننا نقدره كشاعر وكإنسان، أنه قدم ما لم يقدمه غيره. هل كان يدرك هذا، هل لهذا ظل الحزن والموت رفيقاً دائماً لقصائده، أتذكر الآن عناوين دواوينه الموحية، ديوانه الأول "مشهد الوداع الأسبوعي"، ديوانه "قبل العتمة بمتر"، ديوانه الأخير "ريحة الموت"، لماذا إذن لم ننتبه ما دام قد حذرنا ونقول له كم كان إنساناً عظيماً، وشاعراً كبيراً.

 "تعرف يا أبوزيد

أنا عمري ف يوم ما غزيت" 

شخص ما ستقابله ذات يوم سيكون أخاك الذي لم تلده أمك، هذا الشخص كان بالنسبة لي مجدي عبد الرحيم، عشرات ومئات التفاصيل التي أتذكرها كلما مرت ذكراه، كلما لمحت صورة له على الكمبيوتر، كلما قرأت تعليقاً عنه على فيس بوك، كلما تصفحت رسالة منه. كل شيء يذكرني بأني أفتقده، أفتقد جزءاً من عمري الذي كان شريكاً فيه، سأفتقده كلما ذهبت إلى وسط البلد، كلما مررت على مقهى "عم صالح" الذي لن أجلس عليه مرة أخرى بدونه. كلما مررت في شاعر شاملبيون الذي قطعته عشرات المرات معه. هل أكتب عن نفسي هنا؟ لا بل أكتب عنه، لأنه كان جزءاً من تاريخي الشخصي.

لا أعرف شخصاَ في الوسط الأدبي حاز كل هذه المحبة والإجماع سواه، ليس مني فقط، بل من الجميع. من يعرفه ومن لم يكن قريباً منه. ربما تأخر الكثيرون في الاعتراف بهذا حتى رحيله، لكن محبته تظل باقية مضيئة كالشمس.

"تعرف يا أستاذ مجدي

نحن نفتقدك"

ليست هناك تعليقات: