08‏/04‏/2018

ويست وورلد.. سؤال الخلق


في العام 1973 قدم الكاتب والمخرج مايكل كورتون، فيلمه "العالم الغربي westworld"، والذي طرح من خلاله القضية التي قتلت بحثاً فيما بعد في عشرات الأفلام، وهي: ماذا لو  خرجت الآلات والروبوت عن السيطرة؟
كريتون واحد من أشهر كتاب الخيال العلمي، وقد بيعت من كتبه أكثر من 150 مليون نسخة حول العالم، كما أنه مغرم بخلق العوالم الغريبة، ففي "الحديقة الجوراسية" (الذي تحول إلى سلسلة أفلام شهيرة) يأخذ قارئه إلى جزيرة مليئة بالديناصورات، وفي "العالم الغربي"، يأخذ مشاهده إلى مدينة كاملة من الروبوتات التي تشبه الإنسان تماماً وتتصرف مثله، ومكلفة بأداء مهام محددة بغرض إسعاد الزائر وإمتاعه، لكن ينتهي الأمر بعدم استجابة الروبوتات للأوامر الصادرة إليها وقتل الزوار.
ولا يطمح الفيلم ـ الذي جاء في حوالي 90 دقيقة ـ إلى أكثر من مشاهدة مسلية دون التورط في طرح أسئلة كبيرة، على خلاف المسلسل الذي عرضت قناة HBO في العام 2017 الموسم الأول منه، وجاء محملاً بعشرات الأسئلة الفلسفية، التي تتعلق بالوعي والإرادة الحرة للإنسان وبداية الخلق، وعلاقة البشر بالآلهة ما بين التبعية والتمرد.
تراهن HBO على "ويست وورلد"، بل وتعتبره بديلاً لمسلسها الأسطوري "صراع العروش" بعد مشارفته على الانتهاء، وهي محقة في ذلك، فالمسلسلان يمتلكان العوالم المتشابكة والبنية الدرامية المعقدة ذاتها، وعشرات الصراعات الداخلية والخارجية لأبطاله، والقضايا الكبرى التي يناقشها، فإذا كانت القضية الأساسية في "غيم أوف ثرونز"، هي السلطة وصراعات الخير والشر تحت مظلتها، فإن سؤال "ويست وورلد"، هو سؤال كل كائن بشري: لماذا خلقنا، وماذا نفعل في هذه الحياة؟.
على خلاف عالم الفيلم القديم السطحي والبسيط، تتشعب عوالم المسلسل الذي كتبه جوناثان نولان (شقيق المخرج الشهير كريستوفر نولان وشريكه في العديد من نجاحاته) وزوجته جاي جاي أبرامز. فتبدأ من ذات فكرة الفيلم، حول شركة تطلق منتجعاً يحمل اسم "ويست وورلد"، يتيح لزواره الأثرياء أن يعيشوا حياة الغرب الأمريكي، ليس في محاكاة تقليدية، بل حياة كاملة حقيقية، فيصيرون أبطالاً لقصص الكاوبوي بما فيها من حانات مغلقة وصحراء قاحلة واسعة يجوبونها بالخيول والمسدسات، ويطلقون النار ويخوضون صراعات كأنها حقيقية ويقيمون علاقات جنسية ويقتلون ويغتصبون ويمارسون أشد نزواتهم دونية دون خوف من عقاب، مع "مضيفين" (حوالي 2000 شخصية، يعيشون 100 قصّة متشابكة)، يشبهون البشر تماماً، لكنهم ليسوا إلا روبوتات شديدة الذكاء لا يمكن التفريق بينها وبين البشر. وتبدأ الحبكة الحقيقية عندما تبدأ بعض هذه الروبوتات في التفتيش في وعيها المزروع عن حقيقتها، وعن حقيقة الذكريات التي تحلم بها، لتبدأ بذور التمرد، وتنتهي بالثورة.
يشبه منتجع ويست وورلد عشرات المدن الترفيهية في العالم، على غرار ديزني لاند وكيدزانيا وآي إم جي وشوارع التصوير في هوليود وبوليود، وغيرها، التي تصحبك في رحلة عبر الزمن، فيخيل إليك أنك ذهبت في رحلة بالفعل إلى تلك الأزمنة، وهي ذات الفكرة التي طرحها مسلسل black mirror في إحدى حلقاته لكن من منظور ماذا لو كان ما يدور حولك حقيقياً، وأن ما يقصد به تسليتك من قتل وخطف هو أمر حقيقي، لكن في ويست وورلد، يطرح سؤالاً أعمق، ماذا لو كان من تتفرج عليهم يتفرجون عليك في المقابل، وينتظرون الفرصة للانقضاض عليك.

في الموسم الأول من المسلسل الذي قدم في عشر حلقات، يتداخل عالمي البشر والروبوتات، حتى نكتشف قرب النهاية أن أحد مديري المشروع من البشر ليس إلا روبوت، لكن ما تفعله الروبوتات هنا هي أنها من تطرح الأسئلة الوجودية التي نطرحها نحن طوال الوقت، من نحن، من أين جئنا، إلى أين نحن ذاهبون، هل ما نفعله حقا بكامل إرداتنا أم تم إملاؤه علينا دون أن ندري. ويتحكم في كل هذا صاحب الشركة فورد (أنتوني هوبكنز)، فيبدو وكأنه إله يتحكم في المصائر، ويترك المؤامرات تحاك قبل أن يكشفها لأنه من زرعها في رؤوس صانعيها.
تبدأ الأسئلة مع الفتاة ديوريس (إيفان ريتشل وود)، التي تكتشف في لمحات أن حياتها خدعة، وأن لا ماض ولا مستقبل لها، بل بمجرد أن ينتهي دورها، تذهب لإعادة برمجتها، ثم تعود إلى تأدية نفس الدور، في إسقاط مباشر على نمطية حياة البشر مهما تبدلت أحوالهم، وإلى الأدوار المرسومة لهم، بل وربما يذكر بالميثولوجيات الإغريقية حيث الآلهة (الزوار الأثرياء) يفعلون ما يحلو لهم، بينما البشر (المضيفون) مجرد مفعول بهم، بل وتحضر الميثولوجيا الأغريقية بشكل دائم في الصراع بين فورد وشريكه برنارد المتعاطف مع المضيفين على غرار أسطورة بروميثيوس، ويتطور الأمر مع شخصية مايف (ثاندي نيوتن) التي تجهز جيشاً للفرار من المنتجع وقتل مديريه، في تطور لشخصية المضيفين المصممة على أنها لا تؤذي البشر، وفي الحلقة التاسعة يكتشف أحد المضيفين والذي كان يقوم بدور لص، أن حياته كلها والدائرة المفرغة التي يدور من أجلها كل يوم لم تكن إلا من أجل سرقة خزنة فارغة يموت قبل أن يصل إليها، في إسقاط فلسفي على فكرتي العود الأبدي وأفول الميتافيزيقا في العصر الحديث.
في المسلسل نرى أن كل واحد من المضيفين يملك حياة كاملة، يقف وراءها سيناريست، ولكي تصبح حياتهم شبه حقيقية، فلا بد لهم من عمل وزي معين وبيت وذكريات وحياة يومية روتينية وأحلام، كما أنهم يمتلكون ما يمكن تسميته بآليةً للتعلم العميق، ما يسمح لهم بالاستجابة بسرعة لبيئاتهم المحيطة. ويذكر المسلسل بالخوف الأبدي من تمرد الروبوتات الآخذة في التزايد في كل مجالات الحياة ومع ازدياد الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي عالجته عشرات الأفلام بداية من I,robot  لويل سميث وليس انتهاء بـ ex machine لأليسا فيكاندير، خاصة مع تطور البرمجيات والفيروسات التي تطور نفسها فترى وتسمع وتستطيع أن تتخذ قراراً، من ناحية أخرى فإن العلماء يحرزون تقدماً كبيراً في عالم المواد العضوية المطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد، مما يمكن من صناعة روبوتات شبيهة بالإنسان مثل تلك التي قدمها "ويست وورلد".
أحد أبرز الأسئلة التي يطرحها المسلسل، هو ما إذا كان يمكن للروبوت أن تصل إلى مرحلة الوعي، والوعي هنا تمثله في المسلسل "المتاهة"، التي تسعى درولوريس للوصول إليها، والتي تذكر بحديث دكتور فورد عن لوحة "خلق آدم" لمايكل أنجلو، حيث يبدو الإله مرسوما داخل العقل البشري، في إشارة إلى أن الوعي هو ما يمنح الحياة وجودها، وهو ما أشار إليه بقوله إن "الهدية الإلهية لا تأتي من قوة سمائية، بل تأتي من عقولنا".
والأسئلة المتعلقة بالنفس البشرية التي يطرحها المسلسل ليست تلك التي تتعلق بالتمرد على الإله فحسب، بل بالنزوات أيضا، فما الذي يدفع هؤلاء الأثرياء لدفع الآلاف للذهاب إلى هذا المنتجع لممارسة أشد نزواتهم وضاعة من اغتصاب وقتل، كما يرصد التحول الذي يمكن أن يحدث في حياة الإنسان من شخص طيب يقع في الحب في شخصية وليام الذي يتحول بعد ثلاثين عاماً إلى شرير يقتل من كان يحبها في رحلته للوصول إلى قلب المتاهة/ الوعي/ خيارات الإنسان/ حريته.
يطرح المسلسل عدداً من الأسئلة الفلسفية، حول الموت والحياة، وإعادة البعث، حول حق الاختيار في الحياة، هل نحن مخيرون أم مسيرون؟ وهل ما نظن أننا نفعله بكامل إرادتنا وما نندفع للبحث عنه، حتى في مواجهتنا للخالق مجرد قدر مكتوب لنا؟ ببساطة يقوم المضيفون هنا ـ بأسئلتهم وثورتهم ـ بدور البشر، بينما يقوم دكتور فورد بدور الخالق؟ وفي اللحظة التي تعتقد فيها دورويس أنها وصلت للإجابة، لقلب المتاهة تكتشف أن هذا ليس إلا مجرد جزء من خطة دكتور فورد، أنها تكرر ما فعلته من قبل آلاف المرات، نكتشف ذلك حين يتم الكشف عن شخصية الرجل ذي البدلة السوداء (إد هاريس) في مواجهتهما الأخيرة.
يُقتل دكتور فورد في النهاية على يد من خلقهم، ليجسد فكرة نيتشه عن موت الإله على يد البشر، وهو ما قاله والد دولوريس ـ في اقتباس من الشاعر الإنجليزي الشهير جون دون ـ "أريد أن أتعرّف على صانعي، حتى أستطيع أن أثأر منه"، لكن من قال إن هذا أيضاً ليس جزءا من طريق المتاهة، من لعبة الاختيار؟ وربما هذا ما سيجيب عليه الموسم الثاني من المسلسل.

ليست هناك تعليقات: