26‏/04‏/2018

Nightcrawler.. لا تصدقوا الإعلام


على الرغم من أن فيلمي "قتلة بالفطرة"، و"المتسلل ليلاً" يتناولان قضية تغطية الإعلام للجريمة، إلا أن ثمة فارق كبير بينهما. فالأول ـ الذي كتبه كوينتن تارانتينو وأخرجه أوليفر تويست وقام ببطولته وودي هارلسون ـ يناقش كيف يحول الإعلام المجرم إلى نجم وكيف يمجد الجريمة من أجل مزيد من الأضواء، أما الفيلم الثاني الذي كتبه وأخرجه دان جيلروي وقام ببطولته جاك جلينهال، فيتحدث عن كيف يتحول الإعلام والإعلامي إلى مجرم من أجل مزيد من الشهرة.

في Nightcrawler ـ الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا ـ نرى الشاب العاطل لو بلوم الذي لا يجد أي عمل فيضطر للسرقة، حتى يعمل صحافياً يصور الجرائم ويبيع لقطاته للقنوات الإخبارية، وبحثاً عن السبق الصحفي من أجل عائد مادي أعلى لا يمانع في ارتكاب جرائم أخلاقية وحتى جرائم قتل، كأن يضحي من أجل لقطات مصورة، أو يتستر على جرائم.

يحرك ليو هنا الجشع، جشع الشهرة وجشع المال وجشع النجاح، وهو ما يذكر بشخصية دانييل التي قدمها دانيال دي لويس في فيلمه الجميل "ستسيل الدماء There Will Be Blood"، فإذا كان هذا الأخير لا يسمح لأحد بأن ينافسه حتى لو كان ابنه ولا يمانع في ارتكاب جرائم قتل أو التخلي عن ابنه في سبيل المال والسلطة، فإن ليو يقوم تقريباً بالأمر نفسه فيساهم في مقتل مساعده وإصابة منافسه. في "ستسيل الدماء" يتحدث دانييل عن أن نجاحه مبني على الحقد على الآخرين، وعن الجشع الذي يقود كل هذا، ويناقش الفيلم عموما علاقة رأس المال بالمؤسسة الدينية، لكن في "المتسلل ليلاً"، تستبدل قضية الدين بالإعلام، ويظل الجشع قائماً وحاضراً.

في "قتلة بالفطرة Natural Born Killers" و"المتسلل ليلاً" نحن أمام شخصيتين مضطربتين نفسياَ، لكن الفارق هو أن الشخصية الأولى لمجرم والشخصية الثانية لصحفي تلفزيوني، فما يهم كلا الشخصيتين هو ما يتصدر شاشات القنوات، ما يدفع الناس للحملقة في التلفزيون، حتى لو كان هذا على حساب دماء وحياة الآخرين.

كلما زادت الدماء كلما زاد ثمن موادك الإعلامية، هذه هي القاعدة الأولى التي تعلمها لو بلوم في مهنته، وسار عليها فيما بعد. هنا نكتشف أن المشكلة ليست في شخصية لو المضطربة فقط، بل في القناة الفضائية التي علمته ذلك واشترطت عليه وجود دماء كي تشتري مواده المصورة، (من الأفضل أن يكن نساء بيضاوات ثريات، فالمهاجرين المكسيكيين بلا ثمن غالبا). فإذا كان الفيلم قدم لو باعتباره صحافياً بلا ضمير، فإن القناة التلفزيونية بلا أخلاق أيضاً، وهي التي تخلق كوادر يناسبون احتياجاتها، كي يكونوا شركاءها في الجريمة.

يسلط الفيلم الضوء على التحولات النفسية لدى الصحافي، الذي يبدو للناس كأنه يقدم الحقيقة، لكنه من جهة أخرى يدفعه اللهاث ليظل متصدراً لتجاوز الحد الفاصل بين أن يغطي جريمة وأن يرتكبها، بين أن يقول الحقيقة فقط، وأن يقول جزءاً منها من أجل مزيد من الإثارة وجذب الانتباه، فيتلاشى الهامش ما بين الصدق والكذب لصالح الإثارة وحدها أياً كان ثمنها.

ربما أمكن لدان جيلروي تبرير ما تفعله الشخصية وطموحها عبر سيناريو بديع، استطاع رصد تحولات شخصية لو، وعبر أداء متميز للغاية من جيك جلينهال، ورينيه روسو (في دور مخرجة النشرات الإخبارية نينا التي تحب أخبار الجرائم وتلتف على الحقائق من أجل رفع نسبة المشاهدة في ظل المنافسة مع القنوات الأخرى )، لكنه أيضاً طرح الجانب الأسود للإعلام الأمريكي ـ يمكننا أن نقيس الأمر على إعلامنا العربي بسهولة ـ من التفاف على الحقائق، وحتى في رمزيات الفيلم مثل ظهور لو في كل المشاهد النهارية وهو يرتدي  نظارة، كأنه لا يريد أن يرى النهار بما يرمز له، في حين تبرق عيناه في جنون في المشاهد الليلية، في مدينة لوس أنجلوس التي بدت في مشاهد الفيلم هادئة ونائمة كأنها تتقبل كل ما يقدم لها بينما سكانها في بيوتهم يتفرجون على القنوات الكاذبة.

ربما بنظرة واحدة على البرامج الإخبارية التي نتابعها، أو حتى برامج التوك شو المسائية، يمكننا أن نفهم شخصية لو، فهي تبدو كأنها انعكاس لعشرات الوجوه خلف الشاشات، حيث الحقيقة المجتزأة أو الملتوية، حيث لا يهم تدمير حيوات الآخرين الشخصية عبر اقتحامها بلا استئذان، ما دام هناك آلاف العيون ستحملق في الشاشة.

تحولت المنافسة في الفيلم ـ وفي الواقع أيضاً ـ إلى وحش لا يلتهم المشاهدين فحسب، بل يلتهم صناع الإعلام، فيحولهم لوحوش لا يعبأون بأي شيء آخر، في  مشهد من الفيلم نرى لو وهو يحرك جثة دون أدنى اهتمام  بقدسية الموت من أجل لقطة أفضل، في مشهد آخر نراه يترك شريكه يتلقى طلقات الرصاص من أجل لقطة أخرى، في مشهد ثالث يقتحم منزلاً ويصور تفاصيله من أجل سبق آخر، كل هذا وهو يدهس المشاعر الإنسانية، فلا يهم الإنسان ما دام قد صار خبراً، وهي تقريباً نفس العبارة التي رد بها على زميله عندما رآه يصور زميلاً آخر أصيب في حادث تصادم.

هنا يتحول ليو من مصور للجريمة، إلى صانع لها من أجل "جشعه" الإعلامي، ويستطيع بأجوبته الملتوية الكاذبةـ كأخباره ـ أن ينجو من استجوابات الشرطة، ويخرج في المشهد الأخير من المخفر إلى شركته التي توسعت أعمالها ليستكمل طريقه ـ وهو ما يتشابه بالمناسبة مع المشهد الأخير من فيلم ستسيل الدماء الذي قتل فيه دانييل على رجل الدين ـ كأننا إزاء إشارة إلى أن هذا هو الواقع الذي نعيشه ، والذي لن توقفه نهاية فيلم محسّنة تخدع الجمهور، لذا فالأفضل أن نترك الأمر كما هو، حيث يزداد جشع الإعلام وتغوله وتتكرر جرائمه دون رادع.

 

ليست هناك تعليقات: