24‏/03‏/2019

صداقات تاريخية


محمد أبوزيد: لا نعبر وسط البلد إلا بعد استئذان عمدتها الطاهر الشرقاوى

حسن عبدالموجود

لو نظرت فى الصورة المصاحبة لهذا الموضوع فلن تحتاج إلى وقت طويل لتدرك ما تغيَّر فى سنوات قليلة. الشاعر محمد شكر، على يمين الصورة اختفى تقريباً، شارب محمد أبوزيد صار ذكرى قديمة، شَعْر الطاهر شرقاوى لا يرى النور أبداً، وبمجرد تفكيره فى اختراق جلد رأسه، يُجهَز عليه بموس حاد، أما هانى عبدالمريد فهو الاستثناء تقريباً، فلم يتغير فيه شىء، وأول ما تراه منه عيناه اللتان لا تعرف إن كانتا عسليتيْن أم خضراويْن. حينما ينظر إليك هانى، تشعر، بسبب "تلك التبريقة الدائمة" التى تميزه، أنه يُجمِّع الليزر فى عينيه، وأنه على وشك إطلاق شعاعين سيحرقانك فوراً، لكن لأنه طيب تستطيع أن تتخيل، كذلك، أنه سيبادرك قائلاً: "س 18 فى خدمتك يا سيدى".
محمد أبوزيد هو الركن الأساسى فى تلك الشلة، ولكنه لا يرى هذا، فـ"عمود الخيمة"، بالنسبة له، هو الطاهر شرقاوى. هذه مجموعة، يبدو أن الوسط الثقافى لم ينل منها، حتى هذه اللحظة، وعلى سبيل المثال ينسب كل منهم الفضل إلى الآخر فى كل شىء، ولن تجد أحداً منهم يخوض فى سيرة غريب، كما أنهم لا يعرفون النميمة، إنهم يبدون أقرب إلى شلة أنبياء. وفى الأغلب يجلسون صامتين، قليل من الكلمات تكفيهم، وقد فكرت فى مرة، وأنا معهم، أنهم يتخاطرون عقلياً حتى لا يضايقوننى بأصواتهم. كانوا يجلسون ذات يوم ومر بهم شاعر، وقال ضاحكاً: "أنا خايف أسلم عليكم فيحصلكم تلوث"!
هذه مجموعة لا تعرف الصداقة المزيفة، كما يقول جبران خليل جبران: "الصديق المزيف كالظل، يمشى ورائى عندما أكون فى الشمس، ويختفى عندما أكون فى الظلام"، إنهم يظهرون لدعم بعضهم فى الأوقات المناسبة.
لكن كيف تكونت تلك المجموعة؟ بذرة الصداقة بدأت بين اثنين، ثم تفرعت إلى شجرة. يقول أبوزيد: "1999 كان عامى الأول فى القاهرة، ذهبت لحضور ندوة الروائى محمد جبريل، فى مقر نقابة الصحافيين بشارع الجلاء وقتها، وألقيت قصة قصيرة، وعقب الندوة بادر الطاهر، بالتعرف علىَّ، عرفتُ أنه صعيدى ودرس التجارة فى جامعة الأزهر مثلى، وبدأت صداقتنا منذ ذلك اليوم".
تزامنت هذه العلاقة بالصدفة بصداقة كبيرة أخرى مع محمد صلاح العزب، الذى قابله أبوزيد فى ندوة أخرى كانت تُعقد فى أحد النوادى، على نيل الجيزة، وتعرف من خلاله على صديق تاريخى آخر هو هانى عبد المريد، قبل أن ينضم إليهم الشاعر الراحل مجدى عبد الرحيم.
كانوا جميعاً فى بداياتهم، يبحثون عن طرق للنشر، يسيرون فى شوارع "وسط البلد" يكتشفون شوارعها ويسخرون من كل شىء، ينتقلون من ندوة إلى أخرى، ومن مقهى إلى آخر، ومن سور كتب قديمة إلى باعة أرصفة، يتصلون ببعضهم من كابينات "ميناتل" ويتفقون على اللقاء يومياً تقريباً ليقرأوا لبعضهم ما كانوا يكتبونه، ويفرحون إذا نشر أحدهم قصة أو قصيدة فى صحيفة مجهولة.
يقول أبوزيد: "أعتبر نفسى شخصاً غير اجتماعى، أحظى بمحبة عشرات الزملاء فى كل مكان عملت به، لكن ظلت صداقاتى محدودة ومقصورة معظم الوقت. مع الوقت، كانت تنمو لدىَّ دوائر صداقات مختلفة جميعها مرتبطة بالأدب، محمود فهمى الذى أصدر ديوانه الأول (لوحدك)، محمد الفخرانى الذى أصدر مجموعته الأولى (بنت ليل)، نهى محمود التى تعرفت عليها من خلال مدونتها الشهيرة (كراكيب)، وإيمان السباعى التى كانت تكتب القصة وتعيش فى الإسكندرية قبل أن تنتقل للقاهرة. مع الوقت تحولت الدوائر المختلفة إلى دائرة واحدة، أصبح عمدتها هو الطاهر شرقاوى، بسبب عمله وسكنه فى وسط البلد، وبالتالى لا يستطيع أى شخص من سكان الحدود، هانى ومحمود يسكنان مدينة الشروق، المرور أو الاقتراب من وسط البلد إلا بعد استئذانه".
يملك كل أفراد المجموعة حكايات عن الطاهر، لكن حكاية أبوزيد الأثيرة هى أنه تخلى عن كونه نباتياً لأجله، يعلق: "رغم محاولات طارق هاشم المستمرة معه وإغراءه بجميع أنواع الحيوانات البرية والبحرية، ومطاعم وسط البلد بمختلف مستوياتها، إلا أنه لم يفلح، وفى شهر رمضان، 2003 تقريباً، وكنت أعمل وقتها فى مكتب صحيفة الشرق الأوسط بالمهندسين، كان يتصل بى معظم الشهر ليدعونى للإفطار فى بيته، وكنت أقطع شارع جامعة الدول العربية مشياً ثم شارع ناهيا لأصل إلى بيته فى بولاق الدكرور، وأجده قد طبخ لى خصيصاً ما يتناقض مع نباتيته المفرطة".
فى أى يوم تمر بعد الساعة الثالثة عصراً على "مقهى الحرية" ستجد طاهر يجلس هناك، وفى الغالب ستجد معه كماً كبيراً من الأفلام لدرجة أنك ستظنه قرصاناً، وهذه فرصة ليحكى أبوزيد أن طاهر كان بوابتهم الوحيدة لسنوات طويلة على السينما الأوروبية، وعبر طرقه السرية شاهدوا جميعأً السينما الإيرانية والأفغانية واليوغسلافية والتشيكية والإفريقية، والأوروبية بالطبع، ويمكن التأريخ لهذا الأمر بتطور الكمبيوتر ذاته، ففى البداية كانوا يذهبون إليه بالهاردات بعد انتزاعها من الأجهزة، ثم اتجه إلى نسخ الأفلام على الأسطوانات المدمجة ثم الفلاشات، ثم الهاردات الخارجية، كان يوزع الأفلام يمينا وشمالاً كملك متوّج على عرشه.
يحكى أبوزيد: "من الممكن أن أؤرخ لصداقة مجموعتنا بالمقاهى التى جلسنا عليها، بدءاً من التكعيبة، مروراً بمقهى عم صالح، والأخير حين اكتشفنا أن اسمه: كافيتريا حسن، كما أقول فى قصيدة لى من ديوان (طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء) قررنا أن نغادره إلى البورصة، ثم قادنا طاهر إلى سوق الحميدية التى ظلت لفترة طويلة مقرنا الرسمى، ثم  انتقلنا إلى (الحرية)، وأظن أن وليام، نادل المقهى، يعاملنا بشكل آدمى خوفاً من الطاهر".
قرأ أبوزيد ذلك التعريف للصداقة على "فيسبوك"، أنها "غيابك عن شخص ما فترة ثم عودتك لاستئناف ما كنت تتحدث عنه، كأنك لم تغب"، يعلق: "أعتقد أن هذا التعريف ينطبق على مجموعتنا تماماً، فهناك أصدقاء يأتون ويرحلون بسبب انشغالات الحياة، لكن بمجرد عودتهم يأخذون مقاعدهم وسطنا كأنهم لم يغادروا يوماً، مثل محمد شكر وزيان وزيرى. هذا التعريف ينطبق أيضاً على أعضاء المجموعة الدائمين، فقد ينشغل محمد الفخرانى فترة طويلة فى رواية ولا نراه، وقد ينغمس محمود فهمى فى العمل لشهرين، وقد يغيب هانى عبد المريد لظروف ما، لكن بمجرد اتصال واحد تنعقد الجلسة ونستأنف ما كان من قبل. أعتقد أن هذا الأمر ينطبق علىَّ بشكل كبير، فقد سافرت خارج مصر مرتين، فى المرة الأولى غبت ثلاثة أعوام تقريباً، وفى المرة الثانية غبت عامين، وعندما عدت فى المرتين سحبت مقعداً وجلست واستأنفت غالباً نفس الجملة التى كنت أتحدث فيها من قبل. لم أشعر أننى غبت يوماً، ولا أعتقد أنهم شعروا بذلك أيضاً".
خلال العامين الأخيرين، لم يتحدث أبوزيد مع الطاهر سوى مرتين، أو ثلاث، ومع ذلك لا يعتقد أن صداقتهما تأثرت: "لكن ما أعتقده أن تكوينى النفسى يشبه تكوين الطاهر الذى لا يعترف بالاتصالات الهاتفية أو المحادثة عبر مواقع التواصل الاجتماعى. أعتقد لأن مفهوم الصداقة لدى كلينا، ولدى المجموعة كلها، أعمق وأكبر من ذلك. إذ يتحول مع الوقت إلى مفهوم مقارب لمفهوم البيت، فأنت من الممكن أن تسافر أو تغيب لكنك عائد إليه حتماً، ولا تشعر بالألفة إلا فى هذا المكان ومع هؤلاء الأشخاص، حتى لو كررتم الكلام ذاته أكثر من مرة، وحتى لو ضحكتم على النكات نفسها، وحتى لو اختلفتم. أعتقد أن الصداقة هى ذلك البيت الذى ينتظرك فى النهاية".
.........
*نشر في أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات: