24‏/03‏/2019

" ?Can You Ever Forgive Me".. الجريمة الفنية


تغرب أضواء الشهرة سريعاً عن كاتبة السير الذاتية "لي إسرائيل"، فيتخلى عنها الجميع بداية من وكيلتها الأدبية التي ترف أن تمنحها دفعة تحت الحساب لتعالج قطتها، إلى صاحب البيت الذي يطاردها من أجل الإيجار المتأخر ثلاثة أشهر، ولا يتبقى لها سوى قطتها، وذكريات نجاح لم يكتمل، ورسالة أدبية معلقة على الجدار من أحد المشاهير الذين عرفتهم يوماً.
وعندما تمرض قطتها ولا تستطيع دفع ثمن علاجها، لا تجد أمامها سوى أن تبيع الرسالة المعلقة على حائطها، ما يوحي لها بفكرة "تأليف" وتزوير وثائق أدبية ورسائل شخصية لكبار الكتاب والمشاهير الراحلين وبيعها.
هكذا تبدأ أحداث فيلم السيرة الذاتية الجميل Can You Ever Forgive Me?، والمأخوذ عن مذكرات لي إسرائيل التي تحمل الاسم نفسه، وقامت بدور البطولة فيه ميليسا مكارثي ، وأخرجته مارييل هيلر، ليأخذنا في جولة من المشاعر المضطربة والأفكار المتصارعة التي تعيشها لي، التي تطرح سؤالاً أخلاقياً حول ما تقوم به، إذ ترى أن ما تقوم به من تزوير لرسائل المشاهير ليس جريمة، بل هو فن قائم بذاته، وتعتبره إبداعاً خاصاً بها يعوضها عن فشلها في الاختباء وراء آخرين كانت تكتب سيرهم الذاتية. ويبدو من المهم تأمل هذا المفهوم عندما نبحث في السيرة الحقيقية لـ لي إسرائيل التي كان سبب فشلها في عملها الأساسي رفضها "رشوة" لتزوير حياة أحد المشاهير، فلجأ إلى محاربتها وإفشال كتابها ما جعل الأضواء تغيب عنها.
كان اختيار ميليسا مكارثي للقيام بأداء هذا الدور غريباً، لأنها معروفة بأدوارها الكوميدية والتي تحصرها معظم الوقت في كوميديا "السيدة السمينة"، وما ينجم عنها من مفارقات، لكنها تفاجئنا في هذا الفيلم بأداء درامي جميل، استطاعت أن تترشح عنه لأوسكار أحسن ممثلة، وثماني جوائز أخرى.
قصة حياة لي إسرائيل، التي تناولها الفيلم مثيرة للجدل، فقد عرفت في بداية السبعينات والثمانينات كواحدة من أفضل كُتاب السيّر الذاتية للمشاهير، لكنها تفقد شهرتها مع عدم قدرتها على مجاراة تطور الذوق العام، لدرجة أن دور النشر تعرض مؤلفاتها مصحوبة بتخفيض 75%، فتفقد عملها، ومع عدوانيتها تجاه من حولها تفقد عملاً عادياً كان يؤمن لها دخلاً ثابتاً، ما يدفعها لتزوير رسائل خاصة لمشاهير من أمثال كاثرين هيبورن، وتالولا بانكهيد، وإستي لاودر، ونويل كوارد، وإرنست همينجواي، ولويز بروكس والصحفية دوروثي كيل ، وحوالي 400 شخصية أخرى، مع إضافة لمسات فنية من تأليفها مثل مثلية أحدهم أو طول أنف آخر، بمعاونة صديقها جاك هوك، الذي قام بدوره ريتشارد إي جرانت، الذي تربطها به علاقة غريبة، وقد يبدو هو الصديق الوحيد لها، مع أسلوبها المعادي للجميع، وتفضيلها تربية القطط على مصادقة البشر.
في محادثة حادة بين لي وجاك، تقول إن رسائلها ليست مجرد تزوير بل قطع فنية من تأليفها، فيرد عليها بأنها لا تنتمي إليها لأنها لا تستطيع أن تضع اسمها عليها، لكنها تعود لتقول في مذكراتها "ما زالت أعتبر الرسائل أفضل إنجازاتي" وبعيداً عن جدلية التزوير، يضع الفيلم بطرح هذه النقطة عشرات علامات الاستفهام حول ماهية الفن، الذي جزء منه اقتباس وتقليد وابتكار، فـ لي إسرائيل لم تكن مجرد مزورة لتوقيع، بل كانت تبتكر موقفاً غريباً من حياة أحد المشاهير، وتعيد صياغة جزء كامل من حياته.
هل كان يجب أن نتعاطف مع لي إسرائيل، مع الأداء الرائع الذي قدمته ميليسا مكارثي، وحياتها المأساوية التي قدمها الفيلم، ومبرراتها التي روتها في مذكراتها؟ هل كان يجب أن نغفر لـ لي، كما طببت في عنوان مذكراتها وعنوان الفيلم بالتبعية، اضطرارها للتزوير كي تستطيع أن تطعم قطتها، وتدفع إيجار بيتها وتنظفه من الحشرات؟ هل كان يجب أن نصدقها في أن ما فعلته كان قطعاً فنية مستقلة تخصها، وليس مجرد أعمال مزورة؟ هل علينا أن نعيد التفكير في فنية ما كانت تفعله، وفي فنية "الكذب" ذاته ؟ الفيلم يريدنا أن نجيب بنعم. لكن الواقع يتطلب الإجابة على عشرات الأسئلة حول ماهية الفن أولاً.



ليست هناك تعليقات: