25‏/12‏/2008

خطاب القهر لدى بهيجة حسين


بهيجة حسين: خطاب القهر في رواياتي تجسيد لواقع مأزوم أمس واليوم وغدا
لا يوجد كاتب بدون توجه آيديولوجي ولا يوجد عمل يخلو من انحياز سياسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تشكل عذابات الانسان واحباطاته على كل الاصعدة، البوصلة الاساس التي توجه وتنتظم حولها خيوط ومفردات الفضاء الروائي في أعمال الكاتبة بهيجة حسين، فالقهر يبرز في معظم هذه الأعمال وكأنه المحرك والمحرض على فعل الكتابة نفسه، وخاصة في روايتها الاخيرة «البيت». وكانت قد صدرت للكاتبة ثلاث روايات ومجموعة قصيرة:
هنا حوار معها:
* يربط النقاد عادة بين الخطاب الروائي في روايتك «البيت»، الذي يتم فيه تقسيم الادوار بين الجنسين، وبين القهر، هل قصدت هذا بالفعل؟
ـ قصدت هذا، ولم أقصده، قصدته لأن البيت هو الجدران الذي يحتوينا هو السقف الذي يظلنا، هو الحدود الجغرافية التي تحدنا، هو اللهجة التي نتفاهم بها، وهو التاريخ الممتد في عمق الزمن والضارب في أعماقنا هو العادات والتقاليد التي ورثناها عن اجدادنا، حتى لو لم نعشها او لم نعمل بها، لكنها داخلنا وقصدت أيضا ان الانسان الذي بلا بيت، هو انسان بلا وطن، بلا أهل، ولا بد ان يكون له بيت في النهاية، ولهذا عمدت ان تدور اغلب الرواية في بيت دكتور روبين الأرمني الذي فقد أهله ووطنه وبيته، وربما لأؤكد على انه ليس من حق أحد ان يسلب أحدا بيته او وطنه، وهذا ما حاولت ان اوصله من خلال سطور الرواية.
* قلت أنك لم تقصدي ايضا الربط بين البيت والقهر، ماذا تعنين؟
ـ أقصد انني عندما شرعت في الكتابة لم أضع هذه الخطة امامي تماما، ولكن خرج كل هذا أثناء الكتابة دون تعمد، وعادة حينما اكتب اترك مساحة للقارئ لكي يتصل معي وليفهم من خلالها ما يريد.
* لكن ألا ترين انك حين تربطين العنوان بموضوع النص «القهر قهر المرأة تحديدا بالبيت» فان هذا يقتل الرواية، بداية من مدخلها؟
ـ لم ارغب في هذا، لكن في روايتي هذه تحديدا، لم اتحدث عن قهر المرأة فحسب، بل عن قهر الرجل والمرأة معا، قهر الانسان اجتماعيا ودينيا وانسانيا، واقتصاديا وسياسيا، فهناك في الرواية مثلا علاقة الزوج «حلمي بك» بزوجته والتي تركها تحترق دون ان يتحرك لانقاذها، وهناك الفلاح الذي يسأل الدكتور روبين عن احتراق أحد الفلاحين «هل مات كافرا يا دكتور» وهناك الفقر الذي جاء بالكوليرا، وقهر الفقر الذي قتل فلاح القرية المصرية، وهو يعاني الجوع ويعاني المرض، وهناك قهر المستعمر التركي او الانجليزي للوطن بأكمله ولمواطنيه.
* يدرج البعض روايات صنع الله ابراهيم تحت عنوان «أدب القسوة» في رأيك، هل يمكن ادراج أعمالك الروائية تحت هذا المسمى؟
ـ أنا كتبت، وأنت قرأت، ومن حقك ان ترى ما تشاء، وان تسمي النص ما تشاء، وعموما بامكاني ان اقبل التسمية اذا كان هذا هو بالفعل ما وصل الى القارئ، من منطلق حق المتلقي المطلق في التلقي كما يشاء، حقه الحر في ان يحكم على العمل كيفما يشاء.
* يرى البعض ان الجزء السياسي في روايتك «البيت» تأتى عنها ولم يكتب الا لاعطاء الرواية ثقلا ما، ما رأيك؟
ـ ليس لي رأي في هذا، حاولت ان اقدم هذه الصورة من القرن الذي نعيشه في واقعنا حتى الآن، هذه الاحداث التي تتكرر يوميا في بلدان عربية شقيقة، فالقهر لا يتغير بل هو منذ الخليقة ولم يزل حتى اليوم، وربما اكون قد فشلت في ان اضع الجزء السياسي كما ينبغي في العمل ولكن حاولت.
* حسنا، اذا كان الواقع كما تقولين متشابها، لماذا اخترت هذه الفترة تحديدا؟
ـ اختياري للفترة له عدة أسباب. بداية الواقع الذي تفجر في السنوات العشر الاخيرة، وكان أحد أسبابه اعادة رسم الخريطة التي رسمها الاستعمار الانجليزي، او الفرنسي او التركي، والتي يرسمها الآن استعمار جديد مقنع، هو الاستعمار الأميركي الذي احتل العراق بالفعل تحت مسمى «اعادة الحريات»، وهناك ايضا اسباب اخرى شخصية، ربما تخص علاقتي أنا بهذا النوع من القهر، ولأول مرة سوف ابوح بها، فكرة حرمان انسان من قطعة من ترابه، فجرت عندي تقسيمات فلسطين ربما، والتقسيم الذي يسعون لحدوثه في العراق والتقسيم الاكثر واقعية والذي نعيشه الآن، كان في منطقة أرمينيا وقد سعيت من خلال الرواية الى وصف ما حدث فيها، والمشكلة ليست مشكلة أرمن فقط، وانما اخذت عند الكتابة نكتة فقط، ومجرد حلة لمناقشة القضية؟
* تحتوي الرواية رغم صغرها المتناهي على اربعة اجيال تستعرض تاريخ مصر في قرن كامل، هل سعيت من خلالها الى كتابة رواية اجيال بالفعل؟
ـ نعم. هي بالفعل رواية أجيال، وهكذا كتبت من دون قصد، وبعفوية تامة، ربما كان ينبغي ان أكتب فيها تفاصيل اكثر، او اوسع في المسافة السياسية والمسافة الاجتماعية، ولكن عندما كتبتها للمرة الأولى ثم المرة الثانية ثم المرة الثالثة، استقررت على هذا الشكل وهذا الحجم ، ولا اعرف لماذا.
* تبدو جميع الشخصيات في روايتك «البيت» القوية، والضعيفة، القاهرة، والمقهورة، مقيدة وغير قادرة على الحركة في الاتجاه السليم. لماذا؟
ـ القهر آلة تعيد انتاج القهر، فالمقهور يداس في هذا المجتمع، والقاهر يقهره آخر اقوى منه، اذن فالقهر سلوك وواقع وثقافة، وهناك مثل شعبي يقول: «ان الضابط ضرب العسكري فضرب العسكري زوجته»، وهناك آلية قهر تعمل باستمرار في كل زوايا الحياة، في اقسام الشرطة، في البيوت، في المستشفيات، في المدارس الخطاب السائد الآن على كل المستويات هو خطاب القهر والجميع يسعى لاستخدام آلياته لتنفيذ هذا الخطاب، والذي ليس عنده سلطات، يسعى ان تكون عنده سلطات لكي يملك هذه الآلية وهذا هو الواقع، وعندما ندرك اننا مقهورون بالضرورة سوف نثور على هذا القهر، وربما نقاوم.
* وهل تعتقدين اننا لا ندرك اننا مقهورن؟
ـ ندرك طبعا.
* لماذا لم نقاوم حسب نظريتك؟
ـ المقاومة تأخذ اشكالا متعددة وليس شكلا واحدا، ومن المستحيل ان يظل الوضع على ما هو عليه، والانسان ينزع دائما للأفضل ويسعى دوما للعدل والحرية والحق، وهذه المتطلبات هي المبرر الدائم لكل الثورات التي قامت في التاريخ بداية من ثورة العبيد حتى ثورة الشعب الفلسطيني ضد المحتل الاسرائيلي والتي تسمى انتفاضة ثورة دائمة على القهر، ومقاومة.
* حديثك عن القهر الاقتصادي، ألا يمكن ارجاعه الى توجهك الايديولوجي؟
ـ لا يوجد أي أحد بلا توجه آيديولوجي، ولا يوجد كاتب بلا موقف لأنه بدون ذلك لن يكون كاتبا، وستكون كتاباته بلا طعم لأنه يصفق لأي أحد، ويشتم أي أحد، وهو غالبا لن يفعل لأنه بلا موقف، اذن يجب على الكاتب ان يكون له موقفه المحدد ضد القهر والاستعمار والاستغلال، مع أو ضد، المهم ان يكون له رأي، وهناك اشكالية اخرى أننا قصرنا كلمة الآيديولوجياعلى الماركسية، مع ان الآيديولوجياهي الفكر الذي يتبناه الانسان ويحدد حياته أيا كان ماركسيا او رأسماليا، وتولستوي الروائي العظيم كتب عن فقراء روسيا ومعذبيها، كما كتب عن الطبقة الرأسمالية ولم يكن ماركسيا، وايضا ديستوفيسكي كان كذلك، ولا اريد ان اقول يوسف ادريس،لأن يوسف ادريس كان ماركسيا وهذا معروف، وهذا لا يعني تنصلي من كوني ماركسية، بالعكس فأنا كذلك بالفعل.
* لكن ألا ترين ان الآيديولوجية، والخطاب الآيديولوجي عندما يدخلان الى العمل الابداعي فانهما يقتلانه؟
ـ الاشكالية كلها في كيف تعبر عن ذاتك، ورؤاك، وانحيازك، وهمك السياسي في العمل، وكيف نصوغ كل هذا فنيا، وسوف أقبله في حالة الفن، أما ان تكتب هذا مثل منشور سياسي، او مقالة سياسية، فلن أقبله حتى لو قال اعظم الكلام، والفن ـ في اعتقادي ـ ان أفنن هذا التوجه، بحيث أقتنع بهذا الرأي السياسي، دون ان اعرف ذلك، ولا يوجد عمل أدبي يخلو من انحياز سياسي لشيء ما ولكن المهم كيف وظف هذا الانحياز في ثنايا العمل.
* لماذا لجأت الى اسلوب التنقل بين الضمائر في روايتك، بل الحديث بضيمر المتكلم بين العديد من شخوص الرواية، الا يعد هذا مشتتا للقارئ؟
ـ الرواية أيا كان مستواها هي عمل متعب بالنسبة للقارئ، او للكاتب وهي بالنسبة لي عمل مرهق جدا يصل لحد الوهن، وأنا عموما لا احب الكتابة السهلة، وأردت من خلال التنقل بين الضمائر في هذه الرواية ان تتحدث كل شخصية بلسانها هي، ولا احملها صوتي، ورغم وجود صوتي النسائي في الكثير من المقاطع، الا انني استخدمت الحيلة مع دكتور روبين حين جعلت لوحاته تتحدث لتقول ما اريد قوله من خلال هذه الشخصية، احساسها وتصورها للعالم ورعبها منه، واشفاقها عليه.
* دكتور روبين المسيحي الأرمني غير المصري، لماذا اخترته بالتحديد بطلا لروايتك، رغم انها تزخر بالعديد من الشخصيات الثرية فنيا؟
ـ ألا يستحق في تصورك؟ أنا أرى ان به كل النقاط التي اريدها في الشخصية، بالاضافة الى انه اضطهد، دينيا، وسياسيا واجتماعيا تماما كالشعب الفلسطيني، والشعب العراقي، وهو أرمني وطبيب ورسام ومسيحي، وعموما فأنا تعاطفي في النهاية مع الانسان وليس مع الجنس او اللون أو الدين، والرواية لا بد ان تكون في النهاية رواية جميلة تحدث نقلة وجدانية وفكرية وانسانية، سواء كانت تتحدث عن هموم الرجل أم المرأة، المصري أم الأرمني المسلم أم المسيحي، ان تكون في النهاية رواية بالفعل..
* يرى بعض النقاد أنك تناولت الفترة الماضية في رواية «البيت» بخفة، فلم يكن هناك أية اشارات زمنية الا قليلا، رغم وضوح الهم السياسي بها، ما رأيك؟
ـ - انعكست مهنة الصحافة عندي على الكتابة، أي الكتابة الصحافية السريعة الدالة، فكتبت بهذا الشكل، وعموما فان هذه اللغة، كانت لغة خطابي على الورق، ولم اسأل نفسي وأنا أكتب هل قصدت ما كتبت أم لا، ورأيي ان الرواية اخذت شريحة من الحياة، في الشوارع في الطين، في القرية، في السياسة، في حياة الفلاحين، لذا لم أتناول كل شيء بالتفصيل الذي تقصده.
* ارتبط خطاب المتكلم في الرواية، دائما بالحديث عن الطفولة وطفولة المرأة تحديدا، هل هذا اشارة الى الرغبة في كتابة سيرة ذاتية؟
ـ ربما، وربما لأني انهي الرواية بهذه الطفولة، عندما نكبر ونحمل تاريخنا امام هذه الطفولة، ماذا نفعل ولا يوجد في العمل الأدبي اجابة يقينية، انما اجابة محتملة وحمالة اوجه، ولأن الفن نفسه كالحياة، حمال اوجه.
* سأسأل سؤالي بصيغة اخرى.. لماذا عندما تكون هنا رواية لكاتب ما بضمير المتكلم يعتقد الكثيرون ان هذه الرواية سيرة ذاتية؟
ـ في البداية يدخل القارئ او الناقد الى أدب المرأة مسلحا باتهامات مسبقة، وحتى يؤكد لنفسه ان تهاماته صحيحة، فانه يلبس العمل ما يراه، حتى لو كان هذا التصور الذي يراه خطأ، ولذلك فهناك اسباب متعددة لهذا الظن، منها المجتمع وحداثة الاعتراف بالمرأة ككاتبة، والخوف احيانا منها، ومما ستكتب، فالمرأة هي حاملة القيم والعادات والتقاليد والاسرار، فماذا لو كتبت ، حتما ستفضح ما لا يريد فضحه، وستكشف ما لا يريد كشفه، لذلك فهناك حالة استنفار دائمة لما تكبته المرأة، وأنا لا انفي ان جزءا كبيرا مما نكتبه رجالا كنا أم نساء تمثل انفسنا وجزءا من تاريخنا الشخصي ومن خبرتنا، وقديما قال طه حسين: من يستطيع ان يمحو راسين من شعر رأسي، ومن يستطيع ان يمحو بيتهوفن من موسيقى بيتوفهن. اذا من يستطيع ان يمحو بهيجة حسين من أدبها أيا كانت قيمته.
* هل شهد خطاب القهر والذي يشكل هاجسا رئيسيا في روايتك الاخيرة «البيت» تناميا عبر اعمالك السابقة «رائحة اللحظات» و«أجنحة المكان» و«مرايا الروح»؟.
ـ خطاب القهر كان موجودا بالفعل في كل أعمالي السابقة، وربما يكون في رواية «البيت» بالتحديد قد وصل الى ذروته وليس الى منتهاه، حتى لا تعتقد انني أنهيت خطابي، وحديثي حول هذا التناول.
* ماذا اضافت في اعتقادك روايتك الاخيرة الى أعمالك السابقة على مستوى الوعي والواقع وتقنيات الكتابة؟
ـ اضافت لأعمالي اتساعا في فضاء الرؤية مختلفا وخرجت بي من الحدود الضرورية، الى حدود يتلمسها القارئ وتتجاوزني الى محيط الانسانية، رغم ان الحدود الفردية في حد ذاتها حدود انسانية في المقام الأول. وأضافت خروجاً من الواقع الى تجريب التاريخي في امتداده وانعكاسه على الواقع المعاش، كما اضافت رواية جديدة الى رصيدي الابداعي.
* اثناء الكتابة هل يحركك الهم النسائي، أم يحكم ايديولوجيتك الهم السياسي؟
ـ يحركني الهم العام، الهم السياسي، والهم الخاص النسوي، فلا فصل بينهما لأنه لا فصل بين العام والخاص عندي، فنحن لسنا أفرادا في جزر معزولة، نحن نعيش الواقع بكل تجلياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويجب ان نتفاعل مع كل هذا.


ليست هناك تعليقات: