14‏/03‏/2012

مدهامتان .. الموت يحلق حول قصائد محمد أبوزيد


مجدي عبد الرحيم

من الاصوات الشعرية ذات الملمح الخاص والتجربة الثرية، يرهق نفسه كثيرا لكتابة نصوص مختلفة عما هو سائد ويقدم رؤية لا تستطيع الوصول لمكنونها بسهولة لما يملكه من لغة ومفردات وآليات جمالية سواء علي مستوي الرمز والشكل والمضمون والتجديد والتجريب، يغوص بسخرية مريرة في أعماق النفس البشرية بكل تقلباتها واحزانها عبر مشروعة الابداعي المتصل بداية من ديوان ثقب في الهواء بطول قامتي، مروراً بأعماله قوم جلوس حولهم ماء، نعناعة مريم، مديح الغابة، طاعون يضع ساقا فوق الأخري وينظر للسماء، رواية أثر النبي. بين السواد وحيرة التلقي وفي ديوانه الصادر حديثا عن دار شرقيات بعنوان " مدهامتان "، وهي الآية رقم 64 من سورة الرحمن في القرآن الكريم ومعناها اي خضراوان من الري، وقاله ابن عباس وغيره، وقال مجاهد مسودتان في اللغة السواد، والعرب تقول لكل اخضر أسود وسميت قري العراق سوداء لكثرة خضرتها

وهكذا يضعنا ابوزيد علي عتابات النصوص بين السواد وحيرة التلقي والابحار في التيه، لا يوجد اهداء في البداية ولكن يوجد مفتتح ومدخل للديوان، يقول : صه أيها الموت /ماذا تريد بعد أربعة دواوين مفعمة بالجثث/برائحة البارود والجماجم الطائرة/بالدم والسل والطاعون/لم يعد بإمكاني تقديم قرابين أكثر/تعبت. قصيدة بلا عنوان تحمل زفرة ألم ووجع ورسالة الي الموت المخاطب كثيرا في الديوان، ويقول: أريدك فقط أن تمهلني قليلا /لأنهي هذه النار المسكوبة في جوفي صورة جيدة يترجي الموت الانتظار قليلاً لا من اجل الحياة لكن لينهي النارالتي لو تركت مشتعلة لمات كما اراد، ويقول: إيه أيها الموت/ أنا جاهز تماما / هل يمكنني أن استريح ؟ ختام جيد للقصيدة واستكمالا للصورة هو الآن جاهز لراحة الموت التي ربما وجد فيها الخلاص والذات الشاعر هنا في حيرة شديدة واختيار صعب فهي تفضل الموت علي حياة جرداء لا خير فيها.

الديوان مقسم الي سبعة اقسام :ذهب محمد إلي الحقل، فك رقبة، الخوارج، القصائد المُرَة، عاد لينتقم، أحفر مقبرتي وأغني، القصيدة الأخيرة، ويحتوي علي 58 قصيدة تتراوح مابين الطول والقصر، التقسيمات أفادت النصوص، لكن ذلك لا يتضح من القراءة الاولي، فالشاعر يضعك دائما داخل الحالة يعيشها معك بتفاصيلها التي تجذبك وتحيرك وتشغل عقلك فهولا يخدعك ولا يزيف الواقع بل يقدم صورة صادمة وكاشفة وفاضحة للواقع المرير.

الغابة الخضراء الواسعة في قصيدة "الغابة الخضراء الواسعة اختزلت المعاني في عبارات قصيرة تلغرافية افصحت في بساطة رائعة وبغير تكلف، منها قوله: وأعود حيوانا بريا/ يجري سعيدا في الغابة،ويقول: لأطلقت سراحكم جميعا/ في الحقول الخضراء، يصورنا مساجين في الحياة رغم اننا طلقاء، وفي قصيدة"مالا أريد قوله" لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب أو صفيح/لم أولد وفي فمي ملعقة من الأصل / لأنني بلا فم يا إخوتي، قصيدة توحي بالكثيرمكثفة ومختزلة تكاد تفضح عالمنا وواقعنا بما اوحت إليه ولم تصرح به، وفي قصيدة" أرص الصور بجوار بعضها فتكتمل الحياة" أجلس في ركن المقهي/ينير الناذل عيوني الزجاجية/ يغير القهوة التي بردت/ أعد البناطيل المارة..والايام المرة، تجد تحير المتلقي ماذا ينتظر هل الموت الذي اكد عليه في نهاية القصيدة، ام عمره الضائع ام حبيب غائب ام مفقود اخر

وفي قصيدة" ولد يتثاءب وينظر من الحافلة" ما شدني نهايتها كأنها الحكمة والسخرية، ما أمتع أن تجلس في الحياة / بلا رفيق معك. وفي قصيدة "أف .. المصعد متعطل كالعادة" محملة بالخبرة بالكتابة لشاعر يمتلك الرؤية والتصوير يقول: سكان الأدوار الاخيرة في ناطحات السحاب/ يدعون الشمس كل يوم لتناول الإفطار/ وفي الليل يضيئون شموسا صغيرة، المفترض في الليل يضيئون قمروليست شموس، لكنهم اغنياء يستطيعون فعل كل شيء، ويقول:البعض يفضلون أدوار المنتصف/ القريبة من كل شيء/يضيعون أعمارهم علي السلم، يخططون لشراء مقابر مناسبة/ يقيدون الزمن في مقبض الباب / يربتون علي كتفه كببغاء أخرس

وليست هذه السخرية التي تغلف القصيدة مجرد سخرية الواقع بل هي تقليب لما بداخل الشاعر الإنسان في آن واحد فهو لم يفقد الأمل في تحقيق حلمه البسيط الذي يكمن في سنين قادمة تحتويه لأنه يتعامل بوعي يري النور في الظلام رغم هذه المتاعب التي يمر بها ليل نهار.

وفي قصيدة" وحدي في المنزل" يقول: في اليوم الأول لتركي العمل /لم يستطع هاتفي تحمل كم الاتصالات /فسقط علي الأرض يلهث/بعدها بأيام/ كان النوم يصاحب هاتفي قليلا/ وعندما توقظه مكالمة/ يحاول إطالتها بقدر الإمكان/ الآن/ يضع يده علي خده/ ينظر إلي وأنا أكتب القصيدة، يمكن ان يطلق عليها قصيدة الديوان رغم قصرها الا انها قالت الكثير والكثير، قصيدة محملة بالمعاني والتجارب الحياتية الزائفة التي يغلب عليها المصالح، وتقدم رؤيا كاشفة فاحصة بعين خبيرة، تمتلك ابعادا إنسانية لقضايا وتحولات البشر، وتجيد ايضا تعرية الواقع وتجريده من الزيف، رؤية لاتهوي أنصاف الحلول واللعب بالألوان. تكثيف ظاهرة الاغتراب وفي قصيدة" أعلق صورتي علي الجدران وأكتب تحتها wanted" يقول: الشعرالنصيحة/ وأنا أنصحكم أن تنسوني/ أن تنسوا وجهي وابتسامتي ولون ظلي/ قصيدة دائرية ما تكاد تنتهي منها لتعود لبداية النص، حوت اشياء كثيرة رغم البساطة البادية علي وجه القصيدة الا انها عميقة ومعبرة.

وهكذا ينجح ابو زيد في تكثيف ظاهرة الاغتراب داخل الوطن فتبدو عناصره الفنية متألقة. كما نجح في المزاوجة بين المعنوي والحسي في تجربة شعرية متماسكة، فهو يملك من الأدوات ما يمهد له سبيل الإجادة والتميز والتحليق في مملكة الشعر ويختزل المشاعر في عبارات بلاغية وفي كلمات مكثفة ذات لغة لها الكثير من المعاني والدلالات. وفي قصيدة"أنا خائف يا أليس يقول: "أضع يدي فوق جبهتي/وأنظر من أعلي للعمر الذي ترك يدي /وهرول بعيدا/ أبحث عن ولد كان يسير هنا أمامي واختفي/ كنت أرعاه بألوان عيني / أبحث عنه في الكتاب المصفر/ أحاصر روحه/ بخطوط يدي الباهتة، يضعنا الشاعر امام مأزق انساني نبيل فكلنا هذا الباحث، علي الرغم من سيطرة الحزن والحسرة علي كل ما هو جميل، فالشاعر يحدد هذا الجميل في صور متتابعة تبدأ بلحظة جوهرية متميزة تلغي من النص أية زيادات أو تفاصيل لا تحتاجها القصيدة ثم يبدأ بتتابع المشهد الشعري ويرصد فيه صورا شعرية تصور هذه اللحظات الجوهرية ويعني هذا تركيز الشاعر علي عدة مفاتيح أختارها بعناية مما يجعل لمدخل النص أهمية قصوي في تفهم خطابة الشعري المركز. وفي قصيدة "السعادة الحقيقية تجدونها في هذه القصيدة" يقول:لأنني أحبكم /أريدكم أن تموتوا الآن/ أريد ان أمشي خلف جنازاتكم /واحدا وراء الآخر، قصيدة حالة، والعنوان معبر ودال وهي صورة صادمة تقف امامها في حيرة شديدة ودهشة، إن لم تستطع أن تتفاعل وتتعاطف معها بقوة، فهي تقف علي مقربة منك تكاد أن تتماس مع ما تحياه، ولاتستطيع الفكاك منها بسهولة. وفي قصيدة"برج الثور: حب جديد يغزو قلبك" حبيبتي خضراء كالغابة/الغابة التي احترقت أمامي منذ قليل/كنت مختبئا في العناية المركزة/والجلوكوز يتدفق إلي الأشجار/كنت نائما فوق سحابة/ ودموعي تملأ البحر بالملح والصدف/كنت يوما غابة /وكانت حبيبتي خضراء، وهو تكرار يفيد المعني ويثريه، وتأتي المقاطع الخمسة: حبيبتي حزينة كالآربي جي، حبيبتي جميلة كديناصور، حبيبتي خالدة كالظلام، ويختتم القصيدة : لم أقل الحقيقة/ ليس لي حبيبة زرقاء/ ولا نهر مستأنس/ ليس في جيبي مصباح/ ولا قلتي ممتلئة علي النافذة، هكذا يرسم ابوزيد خطة للقصيدة بطريقة لا تجعلها واضحة المعالم للقارئ منذ البداية، ثم يختار الاسم الذي كان موفقا، ولأن النص الشعري هنا مشهد متعدد الوجوه رغم الانفعالية الحادة بعض الشيء المسيطرة علي لغة النص الشعري إلا إنها لغة جذابة تدخل إلي القلب في بساطة آسرة. وفي قصيدة " أتنهد هكذا" يقول :أنا القط الذي انقرض/أنا الموسيقي الهاربة من البيانو/أنا غابات الزيزفون التي يكرهها النقاد/أنا .. أنا/وأنت .. أنت، تقدم القصيدة للوجود والمصير وهي تنضج بالشجن الجميل والأسي النبيل والشاعر يجاهد نفسه طويلا وهو محاصر بوعود كاذبة وعيون لا تري الحق وزمن يقتل الأشياء الجميلة من حوله، وفي مقطع آخر يقول:الموسيقي التي ظللت أسمعها لأعوام /كانت تنساب من الجدار/ تشبه عينيك، نختبئ في رسائل البوسطجي/ تنام دموعنا بين السطور، هكذا تمضي القصيدة عبر حاله من الحزن المغلف بالضياع فالكل قد تجمع ضده، وقد اجاد الشاعر في تكرار مقطع أو عبارة " أنا.. أنا وأنت ..أنت" فقد أعطي بعدا موسيقيا تلتقطه الآذان والقلوب معا، وفي قصيدة"حبيبتي نظيفة وجميلة ومتطورة" الدرس الذي تعلمته من القتلة / الجريمة لا تفيد/ الدرس الذي تعلمته من القتلة/ كن قاسيا بلا قلب/ لا تدعهم يكتشفون أنك شاعر/ وأن قلبك طفل يلهو في المولد أمام أمه/ وفي الختام يقول: الدرس الذي تعلمته من القتلة/ لا تترك وراءك أثرا/ ولا قلوبا محبة، رغم قسوتها لم استطع ان اكرهها وشدتني سطور الختام وهي قصيدة مكثفة ذات أبعاد صيغت بحرفية فنية عالية، واستطاعت أن تصيب الهدف بأقل الكلمات وبدون صخب أو افتعال.

وفي قصيدة"أحمد العسكري" يرفعه المعلم منزوع القلب /ليضربه علي قدميه/ أحمد عبد الحفيظ العسكري/ الذي يجيد رسم نظرة المسكنة/ يخلع ساقيه الحديديتين/ساقا وراء الأخري/ وعيناه تتساءلان عن الرحمة/ في حصة المدرس الكفيف/ نضع أيدينا فوق أقدامه/حتي لا تجرجرنا نظراته/ من قلوبنا الصغيرة إلي النار، قصيدة حالة وتذكر لأحداث ربما تركت اثرا في النفوس ورغم مرارتها تجعلك تشعر بالقوة في عزالضعف، وفي قصيدة "شاطر ومشطور وبينهما جثة " قصيدة جيدة كنت افضل ان تسمي(أريد أن أبكي يا أمي؟) يقول في عدة مقاطع : كنت طفلا، ألون السماء بالأزرق فيصحو الجو، بالرمادي فتمطر، بالأحمر فتحتلين قلبي، بالأسود فتموت أمي، قلت لأمي: المدينة غيرتني ولم أعد أنا، فلا أنا القروي الساذج، ولا هذه طريقتي في البكاء، قلت لأمي وحبيبتي: قفا نبكي من ذكري حبيب ومنزل وشاعر بلا اسم، المنزل احترق وكنت في الناحية الأخري أنفخ حتي ينطفئ فيزداد اشتعالا، قلت لأمي حين مررت من أمامي لم أكن هنا، لم أكن أنا، قلت لأمي حين أموت لا أريد أن يمشي في جنازتي شعراء ولا نقاد ولا باعة صحف، قلت لأمي أريد أن أموت يا أمي، الكلمات والعبارات غير مجانية ولها مدلول.

والشاعر مهموم بقضايا الانسان بوجه عام يشغله وجوده وتفاعله مع الكون وعلاقته بمن حوله، يبحث عن جوهر الاشياء يغوص في الاعماق لنري خفايا النفس البشرية. وفي قصيدة " لم أخطط لهذا طوال عمري" لا قلب لي /أتخلص منه مبكرا وأواصل حياتي /القلوب البديلة ملقاة علي قارعة الطرق/ كباعة البطاطا/لكنني أفضل الانصراف مبكرا/في شارع نصف مظلم/إلي بيت وحيد /آخر الدنيا /أتناول عشائي مع قطتي في طبق واحد، وفي مقطع اخر: التي قالت لي: أنت أخي، ميتة الآن/التي قلت لها: أنت أختي، تركتني ميتا/التي لم نلتق كثيرا، صارت جميلة كالظلام/التي تبادلت معها الصمت/ لونت معها كفني/التي أخذت البيعة من دمي/نائمة الآن علي البحر/وأنا جثة ممددة علي الشاطئ الآخر، هكذا للحياة وجهان الحزن والفرح والذات الشاعرة هنا تقابلك كثيرا مع الأحزان، ورغم ان الموت يحوم دائما حول قصائد الديوان إلا أن تعامل الشاعر مع الاحداث يجعلك تبتسم اوتضحك ربما من فرط السخرية والاحساس بالألم.

ــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة القاهرة

ليست هناك تعليقات: