26‏/03‏/2012

بازل محمد أبو زيد..الشعر ينفجر لحظة اكتمال الصورة


حسن عبد الموجود
"أضبط برودة الثلاجة/ وأترك قلبي وحيداً في الداخل/ خائفاً عليه/ من عواء الريح في الأفق". لا يخاصم محمد أبوزيد المجاز، ولكنه لا يعتمد عليه بشكل كلّي، المجاز يشبه قشرة في ديوانه الجديد "مدهامتان"، أو بالأدق لمسة الحنين إلي الأشكال القديمة، فكيف تتفجر الشعرية إذن من أسطر هي في الأغلب أقرب إلي تقرير؟! أو بشكل أدقّ.. هل يمكن تفجير الشعرية من التقرير؟!
نعم هناك إمكانية لتفجير الشعر من لغة مباشرة وواضحة، ممزوجة بقليل من المجاز، فالدهشة تخطفك مع اكتمال المشهد. الشاعر يسرد التفاصيل، ويعيد تركيب أجزاء الصورة بطريقة البازل، يعيد قص العالم ولصقه، ليجبرنا علي رؤيته من خلال منظوره هو، لا من خلال رؤيتنا الواقعية. الألفاظ هي الألفاظ، ولكن ترتيبها الجديد هو ما يصنع الاختلاف. وفي الأغلب سيبدو كما لو أن شيئاً ناقصاً ما لم تصل إلي السطر الأخير، ما لم تكتمل الصورة، وهكذا ستشعر بروعة المشهد الكلي، وسينفجر الشعر "سكان البدرومات/ يأخذون كرات أولادهم/ التي اتسخت/ من كثرة اللعب في الشارع/ يرفعونها كل مساء/ قمراً ينير طريق الليل في عودته".
في مداهمتان العالم شديد الوضوح، ألوانه صارخة، ربما تعويضاً عن المجاز، شبه الغائب "اليوم فقدت الأخضر/ وبالأمس الأزرق/ لم تعد هناك سماء ولا حقل ذرة/ لا يرقات ولا غابات أمازون/ الأحمر يستلونه مني/ ولا أقوي علي الزود"، ولكن لا يعني وضوح الألوان أن العالم مبهج، فالروح التي تُسيطر علي الديوان تحاول الهرب من شيء ما، من إحباط ما، من ذكري مؤلمة "تتغذي ذاكرتي علي النسيان" إنها روح قلقة وخائفة علي الدوام "أصبحت أخاف/ الكلاب الساكنة والمراهقين/ أهتم بالنظارات وقياس الكولسترول/ بمصادقة طبيب عظام جيد/ بأسعار المقابر في صحف الصباح". إنها تخشي الحقيقة المؤلمة، حقيقة الموت "مع الأيام/ أتحول لصورة معلّقة علي الحائط".
تتمني تلك الروح لأحبتها أن يسبقونها إلي العالم الآخر، فربما يكون أكثر جمالاً "لأنني أحبكم/ أريدكم أن تموتوا الآن/ أريد أن أمشي خلف جنازاتكم/ واحداً وراء الآخر". لا. تجزم تلك الروح بأمان العالم "سأكون سعيداً وأنا أغلق عينيك عن هذا العالم/ هناك ستكونين بمأمن/ سأتنهد بارتياح/ وأنا أضع آخر طوبة أمام فتحة القبر"، تجزم أيضاً بصعوبة تكوين العلاقات رغم أن هناك ما يدعونا إلي هذا "يقول موقع yahoo/ إن التفاهم صعب/ والعلاقة متعبة/ ومثيرة للأعصاب/ وإنه لا توجد ثقة كافية متبادلة/ بالرغم من أن الثور مفكر ومهذب/ والدلو مفعم بالحياة ومثالي/ أريد أن أصدّق الأبراج/ هذه المرة".
يملك محمد أبو زيد خبرة شاعر كبير، خلصته من مشاكل قصيدة النثر، خلصته أولاً من أن يكون رقماً في طابورها، وأيضاً من أن يكون جزءاً من الحالة العامة، أو القصيدة الواحدة التي يكتبها كثيرون، والاستثناءات حاضرة طبعاً وإن كانت قليلة. لا يترك اللغة تُسيطر عليه، وحتي لا يكون الكلام عاماً فإن هناك مثالاً بخطأ تكرار الفعل المضارع، لأنه يشيع حالة من الملل. أبوزيد لا يفعل هذا وإنما يستفيد من أساليب السرد الحديثة، فهو ربما يكسر الرتابة بتساؤل، بصوت آخر، إنه يكسر حالة الديوان نفسها بقصيدة عمودية، أو قصيدة تفعيلة، لا ليستعرض عضلاته، ولا كنوع من الحنين إلي الأشكال القديمة، لأنه يسخر أصلاً من الإكلشيهات "لو قلت إنك زرتينني في الحلم/ سأكون كلاسيكياً/ ولن يُصدّقني أحد"، ويعلن كراهيته للأغراض الشعرية "كل قصائد الحب القديمة هراء"، إنه يفعل ذلك في الأغلب ليخلق إيقاعه هو، لا إيقاع التداعي الذي يجعلك كأنما تنصت لصوت خبطات بطيئة صادرة من بعيد تصيبك بالقلق، وذلك الخروج علي التداعي النمطي لا يعني صدم القراء، حيث تبدو لعبة الكتابة واضحة من القصيدة الأولي، وهكذا يستطيعون الإحساس بهارموني القصيدة، رغم النقلات الفجائية في القصيدة الواحدة. انظروا.. يقول "ذات يوم/ سأتحول إلي سفينة سوداء/ عيوني قراصنة/ تنبض قلوبهم بالمحبة"، وبعدها مباشرة "ذات يوم كان لي دراجة/ أصعد بها إلي السماء". هل أضاف ديوان "مدهامتان" إلي الشعر؟! بالنسبة إليّ أصبح محمد أبوزيد شاعراً قادراً علي صناعة الفارق.
ــــــــــــــــــــــ

هناك تعليق واحد:

الصحيفة الصادقة يقول...

مدونة رائعة