19‏/12‏/2016

مليون "شفيق" بينكم

ما الذي يدفع شاباً ـ في الثانية والعشرين من عمره ـ لأن يفجّر نفسه، فيقتل نفسه وغيره؟ مع أنه من المفترض أن شاباً في سنه يكون في بداية حياته العملية، أنهى دراسته، وخدمته العسكرية، مرتبط عاطفياً ويفكر في الزاوج، يفكر في مستقبله العملي والمهني، فما الذي يجعله يترك كل هذا ويتحول إلى قنبلة موقوتة؟
إذا نظرنا إلى الصور الواردة من داخل بيت الإرهابي محمود شفيق الذي فجّر نفسه وسط المصلين في الكنيسة البطرسية، إذا تأملنا صور قريته التي نشأ فيها، وإذا تتبعنا في ذات الوقت سيرة حياته القصيرة، يمكن أن نصل إلى إجابة بمثابة جرس إنذار.
نشأ شفيق، كما تدل الصور، في بيئة شديدة الفقر ، يعاني منها عدد كبير من سكان مصر، ولا سيما الصعيد، في بيت متزمن دينياً، يشاهد قنوات دينية تُكفّر الآخر، درس في فصل عدد الطلاب فيه يزيد عن 100 طالب، فلم يتعلم شيئاً، لم يجد أمامه أفقاً، لم يجد ما يصنع داخله طموحاً، لم يجد شيئاً يفعله بعد انتهاء المدرسة، فلا ملاعب ولا نوادي، شعر بالنقمة على المجتمع الذي لا يحقق له شيئاً، اجتذبه الملتحون، فتغيرت حياته تماماً، بعد أن وجد شيئاً يدفن فيه طاقته، حدثوه عن الجنة والنار، والمسلمين والكفار، فانتقم من الآخرين بتكفيرهم، وبدلاً من أن يفكر في الزاوج فكر في الحوار العين.
بعد ثورة يناير، انضم إلى أنصار حازم أبو إسماعيل، يحلم بالرجل الذي يسمع دروسه في القنوات الفضائية رئيساً يعيد مجد الإسلام، حارب من أجل شيخه، خرج في مظاهرات، علق لافتات ووزّع منشورات، وبعد أن خرج أبو إسماعيل من السباق، انضم إلى الإخوان وحمل رايتهم. شعر معهم أنه مجاهد في سبيل الله، يستطيع أن  يعيد دولة الخلافة، فلم يصدق كل ما يقال عنهم في الإعلام. ولما سقط حكم الإخوان، انضم إلى المظاهرات التي تطالب بعودة مرسي، وبحسب الأوراق الرسمية فقد ألقي القبض عليه عام 2014 في قضية سلاح ومولوتوف، دخل السجن، وهناك رأى ما رأى  وسمع ما سمع، وبدلاً من أن يخرج من السجن مواطناً صالحاً، خرج وقد تم غسل مخه تماماً من جماعات التكفير بالداخل، سافر السودان وسيناء وتدرب هناك، وكره مجتمعه أكثر، وهكذا نضجت القنبلة البشرية، حتى انفجرت أخيراً في الكنيسة البطرسية.
رحلة حياة شفيق القصيرة، ربما تتشابه مع رحلة آلاف الشباب في مصر، فهناك ملايين يعانون من الفقر، وهناك مثلهم يعانون من مستوى الإعلام المتردي، وهناك مثلهم من يذهبون إلى المسجد الذي يُكفّر فيه الإمام الجميع، وهناك الآلاف الذين ينضمون للجماعات السلفية والجهادية، وهناك الآلاف الذين يدخلون السجن ويتم غسل أدمغتهم بالداخل ليخرجوا أشد تشدداً، وهو ما يعني أن هناك مليون "شفيق"، ومليون "قنبلة بشرية موقوتة" جاهزة للانفجار، قد تكون بجوارك في الحافلة أو في المقهى أو في الشارع، وأنت لا تعرف.
قد يقول البعض إن الفقر ليس دافعاً للإرهاب، فأسامة بن لادن كان مليونيراً، هذا صحيح، لكن الفقر الشديد ورفع الدولة يدها عن المواطنين يدفع للإرهاب والكفر بالوطن، وقد يقول قائل إن الجهل ليس دافعاً للإرهاب فأيمن الظواهري طبيب، وعدد كبير من كوادر الإخوان أطباء ومهندسون، هذا صحيح أيضاً، لكن الجهل يترك "العقل" فارغاً، لكي تملأه أي ترهات يقولها شخص يدعي أنه يتحدث باسم الله.
عندما نتحدث عن جريمة نظام مبارك في حق مصر على مدار ثلاثين عاماً ـ بعيداً عن الفساد المالي والسياسي ـ فنحن نتحدث عن هذا التجريف في العقول، عن تسليم التعليم لجماعات متطرفة، عن تسليم المساجد للسلفيين، عن الأفكار الوهابية التي انتشرت ولا زالت.

محمود شفيق إرهابي، وهناك مليون شفيق آخر، مستعدون للانفجار، يمكنك أن تجدهم ببساطة في التعليقات حولك على وسائل التواصل الاجتماعي، أولئك الذين هللوا للانفجار لأنه وقع داخل كنيسة، أولئك الذين يدعمون داعش لأنهم يرونه يعبر عن الإسلام، أولئك الذين يكفّرون غيرهم ويكرهون كل ما له علاقة بمعنى "الوطن".
....................

ليست هناك تعليقات: