11‏/08‏/2019

عنكبوت فى القلب



بهاء جاهين
1
بهذا العنوان: عنكبوت فى القلب، صدرت هذا العام للشاعر محمد أبو زيد عن الهيئة المصرية العامة للكتاب رواية هى ثانى أعماله فى مجال القص، فقد سبقتها رواية أولى صدرت عام 2010 بعنوان أثر النبى، بينما للكاتب ثمانية دواوين شعرية صدرت ما بين عامى 2003 و2015، إضافة لعمل شعرى للأطفال بعنوان نعناعة مريم (2005)، ومختارات شعرية بالفرنسية بعنوان قصيدة الخراب (2014). إذن محمد أبو زيد، بهذه الإحصائية، شاعر فى الأساس، لكنه ذو رؤى روائية. وعنكبوت فى القلب قصيدة عملاقة مُرَكَّبة من آلاف التفاصيل والمجازات والاستعارات والرموز. لماذا أقول قصيدة؟ لأن الموضوع حالة حُب، أقول حالة لا قصة حُب، فالحكاية بين العاشق والمعشوق سرعان ما تروغ من بين أيدينا ليتحول المحب فى نظر محبوبته إلى احتمال، ووجوده من عدمه محل نظر وشك. والشخصيات الرئيسية هى انقسامات لذات الشاعر العاشق مبدعة شعر الحب الغنائى، ليصير عندنا فى هذا التجلى الروائى لقصيدة الحب بطل الرواية بيبو ومؤلفها الوارد فى العمل باسمه محمد أبو زيد، بل إن المحبوبة ميرفت عبد العزيز تشبه عاشقها كثيراً فى سماتها الوجدانية لدرجة أنها بمعنى ما صيغة أنثوية لروحه، مع فارق جوهرى كما سنرى. أما باقى الشخصيات الرئيسية فهى رموز ومجازات وصور شعرية: مثل الببغاء تأبط شراً الذى يردد شعر التراث الكلاسيكى وبالتحديد المتنبى، والملاكان السيرياليان الملازمان لبيبو، ملاك الكتف اليمنى واسمه سامى، وملاك الكتف اليسرى واسمه مملوك، ومثل علاء الدين صاحب المصباح الذى تتداخل حكايته المعدلة مع حكاية بيبو وميرفت. ينقسم العمل لمقدمة وأربعة فصول. المقدمة تقدم لنا أهم الشخصيات الثانوية وهى الببغاء تأبط شراً، والملاكان الملازمان لروح البطل بيبو. فتسُوق لنا المقدمة حكاية سيريالية لجذور هؤلاء الثلاثة: فتأبط شراً على سبيل المثال شاعر صعلوك فاتك من جاهلية الصحراء العربية، وقد تحول بقدرة قادر إلى ببغاء أليف فى صحبة الفتى، والملاك الأيسر مملوك هارب من مذبحة القلعة، أما سامى الملازم كتف بيبو اليمنى فملاك قاهرى معاصر من سكان مقابر حى البساتين. ثم يحكى لنا الفصل الأول، وعنوانه فتى، قصة الحب بين بيبو وميرفت من وجهة نظر الفتى بيبو، ولكننا نفاجأ فى الفصل الثانى بعنوان فتاة بالحكاية وقد اختلفت كثيراً عما عرفناه فى الفصل الأول بل لم تعد هناك حكاية تقريباً فيما يخص العلاقة بين بيبو وميرفت، إذ لا يتجاوز الأمر من وجهة نظر ميرفت أن الفتى أثار انتباهها لفترة، وبحثت عنه لساعات، لكنّ اللقاءات بينهما التى أوردها بيبو فى الفصل الأول الذى يخصه لم تذكرها ميرفت على الإطلاق فى فصلها. فرغم التشابه الكبير بينهما فى أنهما شخصيتان انطوائيتان تحبان العيش على هامش الحياة وتكرهان التورط فيها، إلا أن بيبو فى قماشته الروحية رومانسى، تجبره رومانسيته وقدره على التورط عاطفياً فى عشق ميرفت، بينما المحبوبة عقلانية لا يهزها الحب بما يكفى للخروج من شرنقة الذات فتظل غائصة فيها.
 وأما بطل الفصل الثالث، بعنوان مؤلف، فهو محمد أبو زيد نفسه، الذى يعترف لنا بأن ميرفت عبد العزيز هاجس يسكنه ويسكن أعماله منذ ديوانه الثانى قوم جلوس حولهم ماء (شرقيات2006). ولم يتسنّ لى الوقت أو تتوافر النصوص لدراسة كيف تطوَّرت هذه الشخصية الروائية عبر دواوين محمد أبو زيد الشعرية حتى سكنت هذه الرواية. لكنها هنا فى عنكبوت فى القلب فتاة تهوى تربية العناكب، وتفتنها أنثى العنكبوت السوداء السامة كما شاهدتها فى السينما، وكذلك الرجل العنكبوت، وهى عموماً، أى ميرفت، شخصية، غريبة الأطوار كان من سوء حظ بيبو أن يعشقها.. كما سنرى معاً فى السطور القادمة إن شاء الله.
2
فى حديثنا عن رواية «عنكبوت فى القلب» للشاعر محمد أبو زيد, توقفنا فى نهاية المقالة السابقة عند غرابة أطوار شخصية المحبوبة وكيف كان من سوء طالع العاشق بيبو أن يقع فى هواها.. فالبنت التى تهوى تربية العناكب غرست فى قلب عاشقها عنكبوتاً ساماً هو الحب. هذا التشبيه أو الاستعارة التى أعطت الرواية عنوانها, تعكس منذ البداية المزاج الفنى للعمل: وهو الرؤية والصياغة السيريالية لحالة الحب من طرف واحد. فإضافة لما أوردناه فى المقالة السابقة من صياغات وشخصيات تم تجسيدها بأسلوب يذكرنا برسوم سلفادور دالى الغرائبية وتكعيبية بيكاسو, هناك أيضاً سيارة الفصل الرابع والأخير التى تنطلق بقوة دفع ذاتية حاملة بيبو وعالمه الأثير بين عوالم خارجية يختلط فيها الواقع بالخيال, والحى الشعبى بالصحراء والثلج والبحور والجبال, وقد فقد راكبها أى قدرة على إيقافها أو توجيهها فكأنها هى التى تقوده؛ فى إشارة مجازية إلى قلب العاشق. نفس القلب الذى رأيناه فى الفصل الأول موضوعاً فى كرتونة فى شرفة بيبو وبجواره بعض الماء والحَب, كأنه طير عليل مجذوذ الجناحين. والرواية كلها مكتوبة بنفس الروح ونفس المنهاج الذى يُلغى الحاجز الفاصل بين الواقع اليومى العادى والواقع الحواديتى الأسطورى الذى يمكن خلاله أن تطير الشخصية الروائية العادية الواقعية فى أى لحظة حتى تختفى فى ملكوت الزرقة, بنفس البساطة والبدهية التى تشرب بها شاى الصباح أو تركب الميكروباص وتأكل ساندوتش الفول. وهنا قد تزدحم التصنيفات والنعوت النقدية: كالسيريالية أو الواقعية السحرية وما شابه من مصطلحات النقد. لكنى أرى أدق وصف لهذا العمل أنه الرواية حين يكتبها شاعر, وقصيدة الحب حين يحولها كاتب للشعر ذو خيال روائىّ إلى عمل معمارىّ مُركَّب يختلط فيه ويمتزج الواقع بالمجاز كما يحدث دائماً فى الشعر. فإذا أردنا تكثيف هذا الوصف فى كبسولة مصطلح نقدى يمكننا ان نسمى هذا النوع من الكتابة بالواقعية الشعرية.

هنا يجلس علاء الدين صاحب المصباح على مقهى كل يوم, ويسقط الحائط الفاصل بين أنواع الكتابة الأدبية, فى استمرار لما يحدث بشكل متصاعد منذ تسعينيات القرن الماضى. فمحمد أبو زيد كاتب قصيدة النثر, وغيره آخرون, ينتقل بسلاسة من النثر الشعرى, الذى اقترب من القصة واقتربت منه فى ربع القرن الأخير, إلى الرواية: الشكل الذى صار الوعاء والبوتقة التى تنصهر فيها صنوف وأفانين الخيال الأدبى فى نزوع متصاعد نحو التركيب من ناحية, والإغراب والعجائبية من ناحية أخرى, تعبيراً عن واقع عالمى سقطت فيه الحواجز, واشتبكت وتعقدت الخيوط, وصارت الرؤية الأحادية البسيطة عاجزة قاصرة, وأتاحت لنا الإذاعة على الهواء مباشرة أن نرصد العجب اليومىّ ممتزجاً بالبدهى المعتاد. كل هذا جعل الرواية الشكل الأقدر على التعبير عن واقعنا العجائبى المعقد, الموحد حتى وهو شَتَّى, فصارت الرواية هى الأم الحاضنة للأجنة المجنونة التى تتشكل تحت أبصارنا كل يوم, أو فى خيال أدبائنا الراصدين لما يحدث أمام عيوننا. وكان من الطبيعى, خاصة فى كتابات أدباء منطقتنا العربية, أن تنتصر السريالية وتصعد وتتصاعد, حتى فى موضوع رومانسى غنائى كحالة الحب من طرف واحد التى يرسمها لنا الشاعر الروائى محمد أبو زيد, ويحل التركيب محل الرصد والسرد البسيط. وقد استطاع أبو زيد بموهبة نادرة, أن يقدم لنا فجيعة هذا النوع من الحب بخفة ظل وخيال لطيف طريف ورهيف, وأن يحتفظ بمسافة نفسية عاطفية, كما يجدر بروائى, تفصله عن الأحداث التى تحرقه كشاعر, ليتحلى بموضوعية تعصمه من السقوط فى الميلودراما والعاطفية المفرطة, فقدم لنا عملاً ممتعاً, نرى فيه النار البرتقالية تتوهج فى كفينا دون أن تحرق راحتنا وأصابعنا.

................
*نشر في جريدة الأهرام

ليست هناك تعليقات: